• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حوارات العصا وتفاهمات البندقية

د. مصطفى يوسف اللداوي

حوارات العصا وتفاهمات البندقية

لم يعد لدى العرب في حياتهم اليومية وسيلةً يتحاورون بها فيما بينهم سوى القوة والعنف، يلجأون إليها لأتفه الأسباب، وفي كل الأوقات، وحيث ينبغي أو لا ينبغي، وضد من يستحق ومن لا يستحق، وضد القوي والضعيف، والغني والفقير، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والقريب والبعيد، والجار ذي الجنب والصاحب بالجنب، وضد الأخ والشقيق، والوالد والولد، والأقرباء والغرباء.
وهم لا يقدرون زمانها ولا مكانها، ولا حجمها أو قدرها، ولا يعرفون أثرها أو نتيجتها، وما إذا كانت مجدية أو لا، أو أنها ستقتل أو ستجرح، أو ستؤذي وستضر، وما إذا كان بالإمكان استبدالها بوسيلةٍ أخرى، أو شكلٍ آخر، يؤدي النتيجة ويفي بالغرض.
إنهم لا يتأخرون عن إشهار المسدس، أو رفع البندقية، أو إخراج الخنجر من غمده، أو التلويح بالعصا، وذلك بعد سيلٍ من الشتائم والإهانات، وشريطٍ طويلٍ من التهديدات والتحذيرات، الخارجة عن الأدب، والمنافية للذوق، المسفة في ألفاظها، والبذيئة في مفرداتها، مما يمس الشرف والعرض، ويتطاول على الدين والمقدسات، بأصواتٍ عالية صاخبة، ونعوتٍ فاجرة، واتهاماتٍ باطلة، وتهديدٍ كالرعد، بزبدٍ ورغيٍ كالجمل، دونَ وعيٍ أو عقل، وبلا تفكيرٍ أو تقدير، فلا مكان في ظل العربدة لعقلٍ أو حكمة، ولا لرأيٍ أو مشورة، إنما السيد من يعتلي صهوة الغضب، ويمتطي ظهر الصخب، فيضرب كالأعمى، ويصرخ كالأصم.
وهم يستخدمون القوة، ويلجأون إلى العنف في الشارع والمدرسة، وفي السوق والمسجد، وفي البرلمان والوزارة، وفي البيت والحارة، وفي العرس والمأتم، وفي الليل والنهار، فلا أماكن حرمٍ لديهم، ولا أزمنةٍ حرامٍ يضعون فيها سلاحهم، ويتوقفون فيها عن القتال والعراك، والسباب والشتائم، كما علمنا أجدادنا العرب، الذين كانوا في جاهليتهم لا يعتدون عند الكعبة ولا في مكة، ويحترمون الأشهر الحرم، ويصونون فيها الدم والمال والعرض.
بل إن من العرب من يرى أن من لا يستخدم القوة لا يتصف بالرجولة، وتنقصه الشهامة والشجاعة، وتعوزه الجرأة والإقدام، ما يجعله مطيةً للآخرين، ومطمع الأقوياء والعابثين، فلا يقوى على صد ظلمٍ، أو رد اعتداء، أو استعادة حق، أو نصرة مظلوم، وإغاثة ملهوف، بل تلزمه المساعدة، ويحتاج إلى من يسانده وينصره، ومن يأخذ بيده ويمكنه من حقه، ولهذا فإنهم يعلمون صبيانهم الثورة والغضب، واستنفار القوة، واستخدام السلاح، ويعيبون عليهم الغفران والمسامحة، ويصفون عفوهم بالضعف، وطيبيتهم بالسفاهة، وعفوهم بالاستخذاء، ويحرصون على تنشئةِ مجموعةٍ من المارقين الأشداء، ممن لا يفهمون ولا يقدرون، ولا يحسنون غير استخدام العصا وهز البندقية، كالبلطجية والشبيحة والزعران، الذين يعتاشون على المشاكل، ويترزقون من أعمال الشغب والنهب والسطو والاعتداء وقطع الطريق.
لكنهم للأسف لا يستخدمون القوة والعنف إلا بينهم، وضد بعضهم البعض، يستأسدون على أنفسهم، ويستبسلون في الاعتداء على جيرانهم وأهلهم وأبناء بلداتهم، فيبطشون بهم بلا رحمة، ويثخنون بهم بلا رأفة، ويتصلبون ولا يتنازلون، ويتشددون ولا يتسامحون، ويبالغون في فرض العقوبات وتقدير التعويضات، في الوقت الذي يجبنون فيه عن قتال أعدائهم، أو منازعة خصومهم، أو منازلة من يعتدون عليهم، أو يسلبونهم حقوقهم، فهم جبناء في مواجهة الأعداء، أذلاء عند ملاقاة الخصوم، يعطون الدنية، ويتنازلون بسهولة، ويتراجعون بمذلةٍ ومهانة، ويعتذرون ويعوضون ويتأسفون، ويعطون العهود والمواثيق بالالتزم وحفظ البنود، وضمان الالتزام بما يفرض عليهم من شروط، بل يعاقبون بأنفسهم من يخل بالاتفاق، أو يخرق الهدنة، أو يخل بأصول المعاهدة.
قد نسي العرب أنهم مسلمون، وأن الله عز وجل قد وصفهم بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وأنهم رحماء بينهم، أشداء على أعدائهم، يرحمون أنفسهم، ويعينون ضعيفهم، ويساعدون فقيرهم، وينتصرون لمظلومهم، ويتحدون لاستعادة حقوقهم، والانتقام من عدوهم، وأنهم يأثمون جميعاً إن سلبت منهم أرض، أو أغتصب حق، أو وقع في الأسر أحدهم، فكيف بهم إذا مارسوا هم الظلم بأنفسهم على بعضهم، فاعتدوا وقتلوا وظلموا وسرقوا ونهبوا وسفكوا، وجردوا أبناءهم من حقوقهم، وأهانوهم في كرامتهم وأعراضهم، واعتدوا على شرفهم ومقدساتهم، واحتكموا في معاملاتهم فيما بينهم على مفردات القوة، ومفاهيم الغطرسة، مستخدمين العصا للإقناع وفرض الرأي، أو البندقية للإرهاب والترويع، والإهانة والتركيع.
هذا هو حال العرب في حياتهم اليومية، وفي معاملاتهم العادية، وهو حال حكوماتهم وسلطاتهم في التعامل مع المواطنين والسكان، فلا وسيلة لديهم لفرض الرأي إلا بالعصا، يلوحون بها ويضربون، ويهزونها وبها يبطشون، ويهددون بها ويتوعدون، أما من فكر وقدر أن له حقوقاً وامتيازاتٍ، وأنه مواطنٌ وصاحب حقٍ في الحكم وإدارة البلاد، وأنه شريكٌ في الملك والخدمات، فإنه يؤدب بالعصا، أو يحارب بالبندقية، وتكال إليه الاتهامات، وتفرض عليه الأحكام، إلا أن يؤوب إلى رشده، ويرجع عن غيه، ويقبل بالتبعية، ويرضى بحياة العبودية، ويكتفي من حكومته برغيف خبزٍ طعاماً، ومفحص قطاةٍ سكناً، يؤيه ويستره، ويخفيه ويحجبه.
كم نحن بحاجةٍ إلى سياسة العصا وقوة البندقية في تعاملنا مع أعدائنا، وتفاهمنا مع خصومنا، فعدونا الذي نعامله برفقٍ ولين، ونحسن خطابه، ونخاف من غضبته، ونحرص على مصلحته، ونقلق على سلامة مواطنيه، وأمن أبنائه، لا يفهم غير لغة القوة، ولا يستجيب إلا إلى منطق العصا، ولا شئ يجبره على إعادة التفكير سوى ألم ينزل به، أو ضيق يحل عليه، وأن نكون في مواجهته أسوداً، وفي قتاله رجالاً، نؤلمه ونوجعه، ونخيفه ونرعبه، فلنغلظ له العصا، ولنرفع في وجهه البندقية، فبهما ننال ما نريد، ونحقق أمانينا وما تصبو إليه نفوسنا.

ارسال التعليق

Top