• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهمية ومكانة مهارة التحدث

د. عبدالرزاق حسين

أهمية ومكانة مهارة التحدث

◄لعلّ هذه المهارة تعد مع مهارة القراءة جامع المهارات وأساسها، فمنهما وعنهما ينبثق باقي المهارات، فمهارات: الحوار، والإلقاء، والمحاضرة، والخطاب، والندوة، والأحاديث الإذاعية والمرئية كلّها تخرج من تحت عباءة مهارة التحدث.

وإذا كانت اللغة هي التعبير عن الأغراض، كما في تعريف ابن جني لها، فإنّ مهارة التحدث تُعنى بكلّ هذه الأغراض، من: "مشاعر، وأحاسيس، وأفكار، ومعتقدات، وتنقلها إلى الآخر من خلال تعبير راقٍ وأداءٍ سليم، وتُعدُّ هذه المهارة من الوسائل الأساسية في التعبير، وذلك لسهولتها، ويُسرها في التوصيل بين الأفراد والجماعات، ونحن نقوم بالعديد من أفعالنا من خلال هذه المهارة، ويرى بعض الباحثين أنّ ما يتجاوز 93% من النشاط اللغوي الذي يُمارسه الناس هو نشاط شفوي.

-         أهميتها ومكانتها:

الحديث يتفاضل، فمنه ما يصل الغاية، ومنه ما ينحدر، حتى يصل الدرك الأسفل، وتحسين الحديث وتجميله أمرٌ مطلوب، والله – عزّوجلّ – وصف لنا كتابه الكريم بأنّه أفصح الكلام، وأحسنه وأجمله وأبلغه، فقال عزّ من قائل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر/ 23).

ومن الأبيات السائرة قول أحد الشعراء:

لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ **** فلمْ يبقَ إلاّ صورةُ اللحمِ والدَّمِ

فهذا الشاعر يقسم الإنسان مناصفة بين لسانه وعقله، أمّا اللحم والدم فيتساوى فيه الجميع. ولذلك فإنّ القدماء من: ساسة، وحُكماء، وعُلماء، وأُدباء ومُربّين، اهتموا لهذه المهارة وبها، وجعلوها عنواناً على مروءة الرجل، وبهاء منظره، وحُسن مجلسه، فقال يونس بن حبيب: (ليس لعَيي مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حكَّ بيافوخه أعنان السماء) وجعلوا اللسان دليلاً كاشفاً عن طبيعة الشخصية، فقالوا: (المرءُ مخبوءٌ تحتَ لسانه) وجعلوا الحسن والجمال للبيان، يقول أحد الشعراء:

كفى بالمرء عيباً أن تراه **** له وجهٌ وليسَ لهُ لسانُ

وما حُسْنُ الرجالِ لهم بزينٍ **** إذا لم يُسعدِ الحسنَ البيانُ

-         وسائل تنمية مهارة التحدث:

وسائل تنمية هذه المهارة متعددة ومتوافرة، وسهلة، فالطفل منذ بداية نطقه يبدأ يسمع الحديث من والديه، ومن نقطة البداية هذه، وإلى نقطة النهاية في حياته، وهو يتحدَّثُ إلى غيره، ونستطيع أن نوجز هذه الوسائل في الآتي:

1-    التعلُّم: بلا شك، فالتعلُّم هو الينبوع الذي يفيض علينا من مائه العميم، فهو ميدان يتدرّب فيه الطفل، ومن خلاله تمْهُرُ ناطقته، وينطلق

2-    الحفظ: إذا كانت الذاكرة تزودنا بحاجاتنا، وتخزن لنا المعلومات الضرورية، فإنّ الحفظ مادة التعلّم، ووقود الخواطر، وفي رأي القدماء: (أنّ كلّ حافظ إمام... فلما جاءت التربية الحديثة زهّدتنا في الحفظ، فأضرّت بنا إضراراً شديداً).

3-    التزوّد بالمعارف المختلفة من خلال القراءة المعمقة، وحضور الندوات، والمحاضرات، ومتابعة كلّ جديد في الساحات الثقافية.

4-    التدريب على التعبير التلقائي، والحوار البنّاء، والنقاش الجاد.

 

-         عيوب يجب تجنبها:

إنّ كلّ متعرض للحديث أيّاً كان شكله يجب عليه أن يتخلص ممّا يلحق الحديث من بعض العيوب والإهانات مثل:

1-    الاستطراد في غير موضعه والإطالة الممجوجة، والحشو والثرثرة في غير طائل، قال الجاحظ: (للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال فذلك الفاضل الهذَر).

2-    الإغراب والتفاصح والتشدق والتكلّف؛ لأنّ أكثر أدواء الكلام من ذلك، وقد ورد النهي عن الثرثرة، والتشادق، والتفيهق، وكثرة السؤال، والكلام فيما لا طائل وراءه، والمطلوب هو الوضوح والتبيين، وسلاسة القول.

فدعوا إلى حسن المنطق، وحلاوة اللفظ، وكرم المعنى، فقال بعضهم: (أُنذركم حُسْنَ الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام، فإنّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً، وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً...، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملى، والمعاني إذا كُسيتْ الألفاظ الكريمة وأُلبست الأوصاف الرفيعة، تحوّلت في العيون عن مقادير صورها، واربتْ على حقائق أقدارها).

3-    التسرّع والعجلة دون تروٍّ وتفكير، فالحديث الذي يخرج دون تأمّل ونظر قد يؤدي إلى الخطأ والخطل، ولذلك قيل:

نار الروية نارٌ جدُّ منضجةٍ **** وفي البديهة نارٌ ذاتُ تلويح

فلابدّ للكاتب أو المتحدث من رَويَّة وهدوء، وتثبُّتٍ وتنقيحٍ، وبذلك فإنّ على المتحدث أن يعمل عقله وفكره حتى يمخُضَ أقواله، ولذلك كان منهج السابقين التروي وإعادة النظر، والتثبُّت.

4-    الاعتداء والغرور بالرأي: قال الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب).

فالرأي الذي تتخذه اليوم قد تغيّره غداً؛ نظراً لظهور دلائل وشواهد، والفكرة التي تتبناها اليوم، قد تلفظها في الغد؛ لأنّك لم تكن قد اطلعت على دليل جديد، أو شاهد أكيد، أو حقيقة ثابتة.

ومن الأمور التي تمنع الإنسان من إعادة النظر فيما يكتب، وعرضه على المختصين؛ ليروا رأيّهم فيه، شدة إعجاب المرء بعمله، وقديماً جاء في الأمثال قول الشاعر:

زَيَّنَهُ اللهُ في الفُؤادِ كما **** زُيِّنَ في عينِ والدٍ ولَدُه

ويقول أبو تمام:

ويُسيءُ بالإحسانِ ظناً لا كَمَنْ **** هو بابْنِه وبِشِعْرِهِ مَفْتونُ

فالافتتان بالعمل يُنقِصُهُ، يقول الجاحظ: (ومن آفات صناعة الكلام أن يرى مَن أحسن بعضها أنّه أحسنها كلّها، وكلُّ مَن خاصم فيها ظنّ أنّه فوق مَن خاصمه، حتى يُرى المبتدئ أنّه كالمُنتهي، ويخيِّلُ إلى الغبيِّ أنّه فوق الذكيِّ).

5-    بذاءة اللسان:

البعد عن عوار الكلام، وتجنب قبيح الألفاظ من سباب وشتم، وتعرض لتنقص الآخرين والنيل منهم، هو أساس الحديث النافع، أمّا البذاءة والتلفظ بقبيح الألفاظ، وسلاطة اللسان كلّ ذلك يؤدي إلى نتيجة سلبية لدى الآخر الذي يستمع إلى حديثك، والله – عزّوجلّ – يقول: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج/ 24).

وقد كان بعض الشعراء يرفض الهجاء، ويأبى أن يقوله، كما في قول الشاعر:

وأغفرُ عوراءَ الكريمِ ادخاره **** واعرضُ عن شتمِ اللئيمِ تكرُّما

ويقول آخر:

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني **** فمضيتُ ثمَّتَ قلتُ لا يعنينِي

-         عناصر التحدُّث:

إذا كان لكلّ قول أسباب تسنده، وعناصر تدعمه وتقويه، فإنّ التحدُّث يحتاج إلى ما يلي:

1-    الحاجة: وهي الدافع الرئيس للحديث، فقضاء حاجات معاشنا، وحياتنا يدفعنا للحديث. فحاجتك إلى التعلم، أو السؤال عن شيء، أو الوظيفة، أو إيصال رسالة، دوافع للحديث.

2-    موضوع الحديث: لكلّ حديث موضوعه وفكرته التي يقوم عليها، فهناك فرقٌ بين خطبة تُلقى في جمهور حاشد، أو محاضرة في حضور متخصّص، أو حديث جانبي لدعوة، أو سؤال عن الأهل والحال والأولاد والوظيفة، والجو والسياسة والأدب، وغير ذلك.

3-     الأسلوب: يتوقف البناء الأسلوبي للحديث على موضوعه وشكله، فهناك فرق بين أسلوب الإلقاء أو الحوار أو الجدل، أو في طلب حقّ، أو الدفاع عن مُتّهم، أو الهجوم على باطل، فالألفاظ والمعاني يجب أن تتوافق مع الفكرة المطروحة للنقاش، وقد جعل الجاحظ أسلوب الحديث طبقات.. وعقد الجاحظ باباً في أنّ قول كلّ إنسان على قدْر خُلُقه وطبعه.

4-    طبقات الصوت: لا نشعر، ونحن نتحدّث بتغيّر طبقات صوتنا، فنجد الحدّة والشدّة التي تنتاب أصواتنا في حالة الغضب، واللين والرقة في حالة الرضا، كما أنّ الضغط على الحروف، وإخراج الألفاظ من مخارج فيها ترفيقٌ أو تفخيمٌ يُنبئ بنوعية الحديث المثار، وتستطيع أن نستشفّ طبيعة الحديث من خلال استماعنا للأداء الصوتي، فالهمس يُنبئ عن حديث ذي طبيعة سرية، والحديث المصحوب بالابتسام والقهقهة يدل على الطرافة، أمّا تلك النبرات الآمرة أو الناهية، فموضوع الحديث يدل على أنّه من الأعلى للأدنى، والاستعطاف والرجاء يُعطي انطباعاً بأنّ الحديث من الأدنى للأعلى.

والتدريب على الصوت وتحسينه وتجويده وضبطه ضرورة، كالتدريب على القراءة والكتابة، يقول الجاحظ: (وكانوا يُروّون صبيانهم الأرجاز، ويُعلِّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت، وتحقيق الإعراب؛ لأنّ ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الجرم. واللسان إذا أكثرت تقليبه رقَّ ولان، وإذا أقللتَ تقليبه، وأطلتَ إسكاته جسأ وغلُظ).

-         أغراض التحدُّث:

للتحدّث – كونه وسيلة التعامل الأساسية – أغراض عديدة، نوجزها فيما يلي:

- القدرة على التعامل مع الآخرين، فالإنسان في تعامله اليومي يحتاج لهذه المهارة حاجته إلى طعامه وشرابه.

- الأداء الوظيفي، فالقدرة على التحدّث قد تكون شرطاً من شروط القبول الوظيفي، فكثير من الوظائف يرتبط بالقدرة على الإقناع، مثل: المعلمين، وموظفي المتاجر، ومندوبي الشركات، ورجال الإعلام والاستعلام، وممن تقوم وظائفهم على مقابلة الناس، مثل: الأطباء، والمحامين، والسماسرة... إلخ.

- الدعوة إلى فكرة أو منهج، أو اتجاه، وأصحابها من أكثر الناس اهتماماً بالحصول على هذه المهارة؛ لأنّها تجعلهم قادرين على التعبير عن أفكارهم بطلاقة وحيوية، وإبراز مناهجهم في صورة لائقة، وتقديم اتجاهاتهم في ثوبٍ أخّاذ من القبول والإقناع.

- تكوين الشخصية: السعي إلى تملّك هذه المهارة، والرغبة في إتقانها، كونها أساساً في تكوين الشخصية، وتكميلها وتجميلها.

·      ومن اللطائف في مهارة التحدُّث:

وقف رجل حسن الشارة، جميل الملبس، على أحد العلماء، فسأله فأخطأ ولحن. فقال له العالم: البس على قدر لسانك.

- القول السيِّئ:

نظر بعضهم إلى رجل يفحش في القول، فقال له: يا هذا، إنمَّا تُملي على حافظيكَ كتاباً إلى ربِّكَ، فانظرْ ماذا تقول.

وجاء في نهاية الأرب:

-         مما قيل في اللسان:

من محاسنه: إذا كان الرجل: حادّ اللسان قادراً على الكلام، فهو: ذرب اللسان، وفتيق اللسان. فإذا كان جيِّده، فهو لسن. فإذا كان يضعه، حيث أراد، فهو ذليق. فإذا كان فصيحاً بيِّن اللهجة، فهو حُذاقيّ. فإذا كان مع حدّة اللسان بليغاً، فهو مسلاق. فإذا كان لا يعترض لسانه عُقدة، ولا يتحيَّفُ بيانه عُجمة، فهو مصقع. فإذا كان المتكلم عن القوم، فهو مدْرهٌ.

-         فصل في عيوبه:

الرُّتَّة: حُبسةٌ في لسان الرجل، وعجلة في كلامه.

اللُّكنة والحُكْلة: عقدة في اللسان وعُجْمة في البيان.

الهتهتة بالتاء والثاء: حكاية التواء اللسان عند الكلام.

التَّعتعة بالتاء والثاء: حكايةُ صوت الألكن والعيّ.

اللُّثْغة: أن يصيِّر الراء لاماً من كلامه.

الفأفأة: أن يتردّد في الفاء.

التَّمتمة: أن يتردد في التاء.

اللَّفف: أن يكون في اللسان ثقل انعقاد.

اللَّيغ: ألا يُبيِّن الكلام.

اللَّجْلجة: أن يكون فيه عيّ وإدخال بعض كلامه في بعض.

الخنْخنة: أن يتكلّم من لدن أنفه. ويقال: هي ألا يُبيِّن الرجل كلامه، فيخنخن في خياشيمه.

المقمقة: أن يتكلّم من أقصى حلقه. ►

 

المصدر: كتاب مهارات الاتصال اللغوي

تعليقات

  • 2021-07-01

    هاشم سالم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شكرآ لكم على هذا المقال الرائع وانا في بداية المشوار يدفعني إلى الاستمرار

  • 2021-12-13

    محمد

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاكم الله كل خير على ما تقدموه لنا من معلومات وفوائد لكي تبني مجتمع مثقف وعاقل، لدي سؤال من فضلكم عن كيف يقوم المتحدث المتميز بالتحضير للخطاب وحفظه. هل المتحدث يحفظ الخطاب؟ هل يكتب الخطاب ثم يحفظه ثم يرويه أمام الجمهور؟ وشكرا اتمنى منكم الرد إنشاءاللّه ❤️

ارسال التعليق

Top