• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أيام الضيافة الكريمة

عمار كاظم

أيام الضيافة الكريمة

إنّ أبواب الرحمة الإلهية مفتوحة واسعاً أمام عباده دوماً إلّا أنّه هنالك على مرّ السنة محطات زمنية تكتسح فيها الرأفة السماوية عدداً لا حصر له من عباد الله بعد أن تنهمر عليهم بمنتهى السخاء. شهر رمضان، شهر نزول النعم الإلهية الفياضة، إنّها حقيقة أكّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته المعروفة بالخطبة الشعبانية، التي ألقاها ذات يوم جمعة أخيرة من شهر شعبان في استقبال شهر رمضان المبارك، جاء فيها: «أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيّام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات.

هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب فسلوا ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم...». شهر رمضان، شهر الصيام، شهر يختبر فيه ملايين من بني الإنسان المتحررين من عبودية النفس بفعل التحكم فيها خبرة «تعاظم المراقبة الذاتية على النفس» في ظل هذه الممارسة البناءة الهادفة لنيل مرتبة أسمى من مرتبات العبودية لله. يتمثل أدنى مظاهر هذه الممارسة المتميزة في الإمساك عن تناول الطعام والشراب منذ طلوع الفجر وحتى غروب الشمس وتجنب سائر المحرمات الأخرى. أما كنهها وحقيقتها فإنّها تعني وتتطلب تنقية الآذان والأعين وجميع أعضاء الجسم والمواهب والقابليات من المحرمات والقبائح. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام وجارحتك وجميع أعضائك من القبح». هو شهر ترق فيه القلوب، وتقل فيه الذنوب، وتقرب فيه الآمال. شهر لا يقاس ببقية الأيام، فهو خير مصحوب من الأوقات، وخير شهر في الأيام والساعات. عندما يطل علينا شهر رمضان تطل علينا أفواج الرحمة والغفران، وتعمنا بشائر الفوز والرضوان في دار السلام، حيث الأمن والأمان، في دار محفوفة بالملائكة الكرام يقومون على خدمة ضيوف الرحمن. إنّ رمضان هو (شهر الله) الذي ينهلون فيه من فيض النور الذي اختص به هذا الشهر المبارك، فهو شهر الانتصار على النفس الأمّارة باجتنابها المحظورات، وتركها الملذات، تطمينا للنفس عن مقارفة الهوى، وابتعاداً بها عن لذائذ المنى، باذاقتها لوعة الجوع والعطش لتعرف قدر النعم الموهوبة لها. من بركات هذا الشهر انزال الله كتابه الكريم الذي جعله هدى للناس، ودستوراً للحياة السعيدة التي يريدها الله لعباده تكرمة لهذا الإنسان الخليفة الموجود على الأرض. وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، إذ تقدر فيها أعمال العباد من خير وشر. فهي الليلة التي يتحدث الله تبارك وتعالى عنها باستفهام مهيب وتنبيه خطير فيقول: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر/ 2)، إنّه إعلان عن عظمة أمر خطير وعظيم، وكيف يتصوره البشر، وليس عجباً أن يخبر القرآن عنها بهذه الطريقة وهي ليلة تقرير المصير (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 4). مصير الإنسان الذي يطمح إلى العافية، ويريد السلامة، ويشتاق إلى السعادة ليعيش معافى من ويلات الزمان، وتقلب الحدثان فينتهز الفرصة الثمينة بالعودة إلى رحاب الإيمان، بالاستغفار، وطلب العفو بإخلاص نية، وصدق عزيمة، توبة نصوح تقرّبه من ربّه ليتقبل منه عمله بأحسن القبول فيرى حسن الوفادة من ربّ غفور عطوف. وهكذا كان شهرُ رمضان سبيلَ الله الذي أراد للإنسان أن يبدأ رحلته إليه في ما أثاره فيه من أجواء، أو شرّع فيه من شرائع، أو حرّك فيه من أوضاع، وقد منحه الله شرف الانتماء إليه، ليعيش الشعور بالمضمون الروحي الذي يجعل الزمن إلهياً يحمل في داخله سموّ المعنى الإلهي في ما يختزنه من رحمة وعافية ومغفرة ولطف ورضوان، وفي ما يمكن للعباد أن يحصلوا منه على المزيد من ذلك كلّه. وليس معنى ذلك الاختصاص بالانتماء، بأنّ الشهور الأخرى تفقد هذه الصّفة في طبيعتها الزمنية، وفي الألطاف الإلهية المحيطة بها، لأنّ الزمن كلّه خلْقُ الله الذي جعله مفتوحاً على الحياة كلّها، من أجل أن ينال فيه الإنسان رضاه، من خلال حركته في مواقع طاعته في ما كلّفه به من الأعمال التي تصل به إلى مواقع القرب منه، لأنّ المسؤولية لا تختصّ بزمنٍ معيّن.

ففي كلّ لحظة زمنية، مهما صغُرت، تكليفٌ شرعي يتوجّه فيه الله للإنسان بأن يقف فيه عند حدوده، ولكنّ معنى هذا الاختصاص ـ فيما يبدو ـ هو الانفتاح الكبير لله فيه على عباده بفيوضات رحمته، بما لم يجعله الله لزمن آخر في ما هي القيمة، وفي ما هو المستوى في الكمية والنوعية.. وهذا ما تعبّر عنه الكلمات المأثورة عن رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، في ما رُوي عنه من خطبته التي استقبل بها شهر رمضان، في آخر جمعة من شعبان، فقد جاء فيها:

«أيها الناس، قد أقبل عليكم شهر الله بالرحمة والبركة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، قد دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتُم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكُم فيه تسبيح، ونومكُم فيه عبادة، وعملكُم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيات صادقةٍ وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكُم لصيامِه وتلاوةِ كتابه، فإنّ الشقيّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهرِ العظيم».

فنحن نلاحظ في هذه الكلمات، احتضان الله للإنسان برحمته وبركته ومغفرته في هذا الشهر، فقد حوّل فيه نومه إلى عبادة، وأنفاسه إلى تسبيح، وتقبّل فيه عمله، واستجاب فيه دعاءَه بالدرجة التي لم يمنحها له في أيّ شهر آخر. إنّه الإحساس الإنساني الروحي الحميم بالجوّ الرمضاني الذي يدخل إليه الإنسان ضيفاً مكرّماً، يتغذّى بالرحمة والبركة والمغفرة في أجواء العطف واللطف والحنان بشكل مميّز حميم، حيث يعيش الإحساس بإنسانيّته المنطلقة من روح الله عندما نفخ فيه الروح فأعطاه شيئاً من سموّها الذي يتصل بالله، وينفتح عليه في محبةٍ واحتضان، حتى يحسّ في هذا الاندماج الروحي بالعلاقة التي ينسى فيها عبوديته، وهو في قمة الخشوع في ممارستها.

 

ارسال التعليق

Top