• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإبداع والتفكير الإبداعي

أ. د. عثمان حمود الخضر

الإبداع والتفكير الإبداعي

◄الإبداع في اللغة هو إنشاء الشيء على غير مثال سبقه، فيصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنّه: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة/ 117)، والبديع هو أحد أسماء الحسنى، أي هو الخالق على غير مثال سابق. ويأمر الله نبيه محمّد (ص) أن يخاطب قومه: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف/ 9)، أي ما أنا بأوّل رسول بعث للناس حتى تستنكرونني. ويقول سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد/ 27)، أي ابتدعها القسس والرهبان، أي أحدثوها من عند أنفسهم.

 

تعريف التفكير الإبداعي:

التفكير الإبداعي اصطلاحاً هو "عملية عقلية ينتج عنها أفكار جديدة غير مألوفة ذات قيمة بالنسبة للمجتمع في فترة زمنية معيّنة، أو إعادة صياغة أفكار قديمة بطريقة جديدة". التفكير الإبداعي تفكير موجه لحل مشكلة ما بطريقة غير مسبوقة، أو تطبيق حل ما على واقع جديد، توجهه رغبة قوية في البحث والربط بين العناصر والعلاقات المختلفة في الموقف، وهذا يتطلب مرونة في التفكير، وقدرة على رؤية الأمور من عدة زوايا. والإبداع Creativity هو ناتج عملية التفكير الإبداعي. وهناك مفاهيم أخرى تقترب من مفهوم الإبداع وتتداخل معه، ومنها:

·      الجدة أو الحداثة: Novelty هي وصف للشيء الجديد غير المألوف، وليس بالضرورة أن يكون له قيمة.

·      الاختراع أو الابتكار Innovation: هو منتج أو خدمة جديدة ذات قيمة للمجتمع.

·      التجديد أو التحديث Renewal: وهو تحسين القديم وتطويره دون إلغائه.

 

التفكير الإبداعي ومفاهيم أخرى:

قد يكون من المناسب فرز بعض المصطلحات التي يوصف بها المبدعون أحياناً ومنها:

الإتقان: هو الإجادة العالية في إنتاج منتج ما، وليس من الضروري أن يكون جديداً.

الموهبة: استعداد فطري للتفوق في مجال محدد، وليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بالذكاء، فهناك متأخرون عقليّاً لديهم موهبة في فن أو مجال من مجالات الحياة.

التفوُّق: هو تجاوز معظم الأقران في الأداء، أو أن يصل الأداء مستوى رفيعاً متميزاً.

النبوغ: هو البروز والظهور، وتشمل كلّ من تفوق في مجال من المجالات، أو لديه استعداد لذلك، وتشمل الأذكياء والموهوبين والعباقرة، غير أنّ العبقرية أعلى درجات النبوغ.

العبقرية: قدرة خارقة على الإتيان بالجديد في مجال ما تمثل منتهى الجودة والدقة والأصالة، لا يفوقها شيء، تجعل صاحبها في ريادة مجاله.

كما يختلف الذكاء العقلي عن التفكير الإبداعي، فالذكاء العقلي يبحث في الخيار الصحيح وربما الوحيد لحل المسألة، أما الإبداع فيبحث عن عدة "حلول جديدة" غير مألوفة، فهو تفكير حر وليس مقيداً. لذا، فليس كلّ ذكي مبدع، لأنّ الإبداع لا يعتمد فقد على الذكاء، ولكنه يحتاج أيضاً إلى الدافعية المرتفعة التي تستثير الذهن، وتفجر ملكات العقل، كما تحتاج إلى بيئة مشجعة تحتضن المبدع وتستثمر إبداعاته.

لكن الإبداع يحتاج إلى قدر متوسط من الذكاء كحد أدنى؛ لأنّ الإبداع عملية عقلية تتطلب فهماً للموقف أو المشكلة، وإدراكاً لعناصرها، وربطاً بينها، ورؤية الأمور من زوايا مختلفة، ومن الصعب أن يتم ذلك دون قدر معقول من الذكاء. ومعظم المبدعين لديهم مقداراً فوق المتوسط من الذكاء. إذن العلاقة بين الإبداع والذكاء، بوجه عام، علاقة طردية، فزيادة الذكاء تعزز فرص ظهور السلوك الإبداعي، ولكن لا تستلزمه بالضرورة، فهناك فائقون في الذكاء لكن قدراتهم الإبداعية محدودة. غير أنّه بشيء من التدريب على مهارات التفكير الإبداعي، يمكن أن تتحسن ملكات الإبداع لمن لديهم مستويات متوسطة أو مرتفعة من الذكاء.

 

التفكير الإبداعي والتفكير الناقد:

يعد كلٌّ من التفكير الإبداعي والتفكير الناقد من أنواع التفكير العليا لدى الإنسان، ومن الممكن أن يستخدم التفكير الناقد في تقييم الفكرة المبدعة، ومدى أصالتها، وفائدتها، غير أن هناك اختلافاً بينهما يمكن إيجازه على النحو الآتي:

1-    يهتم التفكير الناقد بدقة الفكرة وموضوعيتها ومصداقيتها، إنّه يبحث عن الحقيقة، في حين يهتم التفكير الإبداعي بجدة الفكرة وأصالتها.

2-    يتناول التفكير الناقد فكرة موجودة في الأصل، في حين أنّ التفكير الإبداعي يبحث عن الأفكار الجديدة غير المسبوقة.

3-    التفكير الناقد تفكير تقاربي أي يركز على الفكرة موضوع النقد، فلا يتوسع ولا يتشعب بها، في حين أنّ التفكير الإبداعي تفكير تشعبي، يتوسع في الفكرة وتفاصيلها، ويستخرج منها أفكاراً جديدة.

4-    يتبنى التفكير الناقد سلسلة من العمليات المنطقية في نقده للفكرة، في حين يعد التفكير الإبداعي تفكيراً حراً غير ملتزم.

5-    يمكن التنبؤ بنتائج التفكير الناقد، في حين لا يمكن التوقع بنتائج التفكير الإبداعي.

 

البيئة المبدعة:

ينشط الإبداع ويزدهر عندما تكون هناك بيئة تسانده وتدعمه، هذه البيئة قد تكون الأسرة أو المدرسة أو منظمة العمل أو المجتمع بثقافته العامة، فقد كانت اليونان القديمة حاضنة للمبدعين، حيث احتضنت كلّاً من سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم. ومن سمات هذه البيئة أنّها ترحب بالمبادرات الجديدة والأفكار المبدعة، وتشجعها وتكرمها، وتنشئ لها المحاضن التي تسمح برعاية المبدعين، وتساعدهم على تسويق أفكارهم.

فلا يكفي أن يتصف الفرد بالخصائص الإبداعية، بل لابدّ أن تكون بيئة عمله تشجع على الإبداع وتسمح به، فهي بيئة متسامحة مع الأخطاء، تعطي الأمن النفسي للمبدع، وتحميه من النقد الجارح غير المسؤول، وتمنحه مزيداً من الاستقلالية في تنفيذ مهامه الوظيفية، وتقيم أفكاره بطريقة منصفة، كما تسمح بالتعددية والتنوع، وتشجع على المغامرة والإتيان بالجديد، بل تكافئ عليه. إنّها ترحب بحرية التفكير، وتدفع الأفراد إلى المشاركة في عملية اتخاذ القرار، سواء أكان ذلك من خلال التعرف إلى المشكلة، أو توليد الأفكار والحلول لها، أو اختيار الحل أو الفكرة الأنسب، أو من خلال توفير الظروف المواتية للمبدع لتنفيذها.

نعم، هناك بعض البيئات التي تشجع الإبداع، وأخرى تعوقه، ولكن لا تمنعه! تذكر أنّ الإبداع ينبع من خلالك، وليس من خلال بيئتك. مهما كانت درجة تقييد بيئتك، فما زالت هناك مساحة للإبداع.►

 

المصدر: كتاب التفكير.. أساليب ومهارات

ارسال التعليق

Top