• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التجارب.. ثـروة الحياة/ ج(3)

أسرة

التجارب.. ثـروة الحياة/ ج(3)
11- تجارب متفرِّقة: أ- في القراءة: يقول شخصٌ مغرم بالقراءة، ويوصف بأنّه دودة كتب: أنا لا أملّ من القراءة أبداً، فالكتاب صاحبي وأنيسي وإذا تعبت من القراءة فإنني أستريح بالقراءة. فإذا تعبتُ من قراءة الكتب العلميّة والفكريّة الدسمة، فإنّني ألجأ إلى الكتب الخفيفة التي تهوِّن متاعبي، وتلك هي الكتب الأدبيّة التي أجد فيها متعة القراءة ومتعة الذّوق والفنّ معاً.   ب- التّدوين وتسجيل الملاحظات: رأيت شخصاً ذا ثقافة عالية وعلاقات اجتماعية واسعة مع المحيط الثقافي والسياسي والفكري، وقد لفتَ انتباهي أنّه لا يغادر قلمه وورقته، فهو يسجِّل دائماً أيّة فكرة طريفة، أو معلومة جديدة، أو رقماً مهمّاً، بل وحتى النكتة التي تزرع الابتسامات على الوجوه. وقد عرفتُ منه أنّ الذاكرة لا تستطيع أن تحمل ذلك كلّه، فلابدّ من تسجيله على الورق للعودة إليه كلما دعت الحاجة والضرورة. وتذكّرتُ أنّ في تراثنا الإسلامي ما يشجِّع على ذلك، فلقد قيل: "ما كُتب قرّ وما حُفظ فرّ"، فالكتابة أبقى من الحافظة، وأقوى من الذاكرة. فكم هو جميل أن يكون لدى أحدنا مفكّرة لتدوين رؤوس الأقلام أو النقاط المهمة واللّفتات الذكية، وما يدرينا فلقد نجد في أرشيفنا ذات يوم ما لم نكن نقدِّر قيمته في حينه.   ج- الإيحاء الذاتي: إذا رأيته تعجبك همّته، فهو حركة لا تفتر، ولولب لا يهدأ، ولقد راقني أن أتعرّف على سرِّ ذلك فيه، فقال: ألسنا سنفد ذات يوم على ربِّ العالمين.. في يوم نسمِّيه بـ(يوم القيامة)؟ قلت: بلى. قال: ألسنا نقف في ذلك اليوم الرهيب العصيب، لنقدِّم حساباتنا بين يَدي بارئ الخلائق أجمعين؟ قلت: بلى. قال: أليسَ يتمنّى المقصِّرون منّا لو أنّهم لم يقصِّروا، وأنّهم لو عادوا إلى الدنيا، لعملوا أضعاف ما عملوه يوم كانوا فيها؟ قلت: بلى. قال: أنا أستحضر ذلك كلّه، وأشعر كما لو كنتُ سجيناً في سجنٍ مؤبّد، ثمّ يتلطّف ربِّي ومولاي، فيقول لي: سأكتب لك الحرِّية من جديد، شرط أن تعمل لرضاي فبمَ تعدني؟ فأقول له على الفور: لك أن أعمل في رضاك ما دمت حيّاً. وهكذا، كلّما بردت همّتي، وفتر سعيي، وتقلّصت حركتي، وجدتُ ما أوحي به لنفسي أنّ الحياة ساعة فلأجعلها طاعة.. وهكذا كان!   د- العلاقات الإجتماعية: نقل لي صديق أنّه كان ذات يوم نزيلاً في أحد الفنادق، وكان في باب ذلك الفندق رجل تبدو عليه علامات الهدى وسمات الصلاح والإيمان، وكانت له دكّة بسيطة يبيع فيها بعض احتياجات الناس، وبعدما توثّقت الصحبة، سألت: أراك لست بحاجةٍ إلى مثل هذا العمل. فتبسّم، وقال: بالفعل، فأنا بفضل الله ميسور الحال. فسألته: ولِمَ إذن قعودك من الصباح حتى المساء في هذا المكان لتكسب القليل من المال؟ فتبسّم ثانية، وقال: لكنّني أكسب من خلاله الكثير من الأصدقاء.. وها أنتَ واحد منهم! فطلبتُ منه أن يوضِّح لي أكثر، فقال: إنّ هذا الفندق أشبه بمحطّة يأتي نزلاؤها من كلّ مكان، ولأنّني منذ مطلع شبابي، كنتُ أبني علاقات اجتماعية مع شرائح مختلفة من الناس لأنتفع من تجاربهم، ولأساعد مَن يحتاج منهم إلى المساعدة، وأتفهّم مشكلة مَن يعاني من مشكلة وأعينه على إيجاد حلّ مناسب لها، فلذا قرّرتُ أن لا أترك هذه (الهواية) مع دخولي مرحلة الشيخوخة، وقد تفتّق ذهني عن هذه الدكّة التي جلبت لي زبائن كثيرين اشتريتُ منهم أكثر ممّا بعتُ لهم! فما أحوج الشاب والفتاة إلى علاقات إيمانيّة وإنسانيّة هادفة، يتعرّفان من خلالها على الناس، ليزدادا ثقافةً وتجربةً ووعياً في التعامل، وقدرة على الفرز والتشخيص، وسعة في الأفق الإجتماعي والنفسي والعملي.   هـ- زكاة المشاعر: قرأتُ على إحدى صفحات الإنترنيت ما كتبته إحدى الأُمّهات عن مشاعرها في يوم عيد الفطر السعيد، حيث تقول: "دخلتُ دار رعاية اليتيمات بلا إعداد مسبق، فقابلتني عيونهم البريئة المليئة بالدموع.. وتمسّحوا بي كالقطط الصغيرة.. فوجدتني أقف للحظة ثمّ أحملهم بحبٍّ غير مبالية بحالتهم وهيئتهم، وجلسنا معاً لساعات لم أشعر بمرورها، ولم أكن أحمل معي إلا قليلاً من الحلوى، ولكن ما كانوا يحرصون عليه هو أن أضمّهم إلى صدري وأقبِّلهم. وخرجتُ وقد امتلأ قلبي بمشاعر فيّاضة وصفاء نفسي كنتُ أفتقده من قبل، فسبحان الله ما أحوجني إليه. شعرتُ يومها بنسياني لنعمٍ كثيرةٍ لا أحمدها ولا أشعر بها.. أبسطها وأعظمها أنّ لي أباً وأمّاً، وأنِّي لستُ مجهولة النسب والهوية، وأنّ لي مَن يرعاني ويضمّني ويمنحني الدِّفء العاطفي والأمان...". إلى هنا وينتهي حديث زائرة الميتم، لكنّني تركتُ هذه المشاعر الرقيقة الدافئة تتسلّل إلى نفسي، فشعرتُ بها تكهربني ويهتزّ لها كياني.. وقلت: لم تكن اعتباطاً التوصية الشديدة اللّهجة التي ذكرها القرآن بشأن اليتيم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9). والوصية التي أوصى بها رسول الله (ص) بضرورة كفالة اليتيم حتى اعتبر كافله رفيقه في الجنّة. ورميتُ ببصري في الشارع، فرأيتهم أبناء الفقراء والشهداء والحروب التي أكلت آباءهم وحرمتهم من أبسط وأغلى حقوقهم.. الرعاية الأبوية.. فدمعت عيناي وانفطر قلبي وجاشت مشاعري.. فقلت: ربّما لا تملك ما تكف به يتيماً.. لكنّك حينما تملك (زكاة المشاعر) أن تمسح رأس أحدهم برقّة وحنان.. وأن تحتضنه.. وتُقبِّله.. وتُسمِعه كلمات حلوة تُشعِره أنّ المسلمين إخوته وآباؤه وأرحامه.   و- لمعالجة الكآبة: لا نقدِّم لك وصايا الأطبّاء وعلماء النفس، فلعلّك واجدها هنا وهناك، وما أكثرها هذه الأيام التي يعيش فيها بعض الشباب السّأم والضجر والمَلَل والكآبة، إنّما ننقل لك بعض تجارب شباب عاشوها ونجحوا في التغلّب عليها. يقول أحدهم: أُعالجها بقراءة القرآن.. كانت آيات الرحمة والنِّعمة واللّطف الإلهي والجنّة والنعيم، وتصوير ما في الدنيا بأنّه لعب ولهو، وأنّ الحياة الحقيقيّة هي الدار الآخرة، وأنّ السعيد الذي يعمل صالحاً فيهنأ في الدنيا ويسعد في الآخرة.. فرأيتُ في (عيادة القرآن) من العلاج والدواء ما لم أجده في صيدليات العالَم كلّها. ويقول آخر: أعالجها بالكتابة.. فأنا أسرد عواطفي وخواطري وهمومي وسمومي على الأوراق.. فأشعر ببرد الخاطر وهدوء البال وسكينة النفس. ويقول آخر: أُعالجها بالصحبة الصالحة.. فكلّما ضاقَ صدري زرتُ أخاً في الله مؤمناً.. يزيد في صبري وثقتي بالله وإحساسي بتفاهة الدنيا، واعتزازي بالقيم والفضائل، وينقل لي من تجارب الصالحين ما يُبدِّد أية كآبة أشعر بها. ويقول آخر: أُعالجها بالمرور والتوقّف مليّاً أمام بعض الأحاديث الشريفة والروايات والحِكَم، لأرى أنّ حالي ليس فريداً، وأنّ مَن عاش القُرب من الله، أنساه همومه الصغيرة وشغله بالهمّ الأكبر. ويقول آخر: أعالجها بزيارة الأحياء الفقيرة، لأشكر الله على ما أنعم عليَّ.. وربّما زرتُ المستشفى لأتفقّد بعض المرضى ولأشعر بعظمة نعمة الصحة التي أنعمها الله عليَّ.. وربما زرتُ المقبرة لينشرح صدري أنّ حدود الدنيا هي هذه، وأنّ ما بعدها خير وأبقى.   ز- مدرستي الثانية: تقول إحدى الفتيات المثقّفات بعد أن نالت حظّاً من التعليم لا بأس به: لقد كان إلى جانب مدرستي – التي تعلّمتُ فيها – مدرسة ثانية.. تلك هي أمِّي.. ففي كلّ يوم كنتُ آخذ منها درساً لا تقُدِّمه المدرسة لي. فلقد رأيتها وهي تدير البيت والأسرة بحكمةٍ عالية، فلديها سعة صدر عجيبة.. فإذا جاء أبي مُتعباً أو مُتألِّماً أو شاكياً من أمرٍ رأيتها: الصّديق الصّدوق، والممرضة الحانية.. والمعين الذي لا يبخل بنصح وبكلمة طيِّبة وبمشورة رائعة.. كانت تتحدّث معه وكأنّها خبيرة نفسيّة. وإذا عانى أحد أولادها وبناتها من أمرٍ دراسيّ أو حياتي أو أي شيء آخر، تراها كالمستنفرة لا تهدأ حتى يزول ما به من شعور بالضِّيق أو الألم أو الإنزعاج. عجيبة هذه (الإسفنجة) التي تمتصّ كلّ ما بنا. وتكتم ما في نفسها فلا يعلمه أحياناً إلّا الله. تعلّمتُ منها.. أنّها قريبة جدّاً من الله تعالى، فهي تجد عنده كلّ شيء.. عافيتنا.. ونجاحنا.. وسلامتنا.. وتوفيقنا.. ورزقنا.. ولا يفتر فمها من الدعاء لنا. وفوق هذا وذاك.. كانت ذات حكمة في التعامل البسيط والعميق مع المشكلات التي تواجه الأسرة.. فقد نتحيّر في مسألة، حتى إذا جاء دور (ماما)، قالت بلطفها المعهود: "ضيِّقها تضيق.. وسِّعها تتوسّع". وكم هي تنظر إلى البعيد.. كانت تشير عليَّ أن لا أصحب فلانة.. وكنتُ أتضايق من بعض آرائها، رغم أنّها تُبيِّن لي بعض الأسباب.. لكنّها تقول أيضاً: غداً ستدركين أنّ ما أشرتُ به عليكِ هو الصواب.. ويأتي الغد وهو يحمل صواب رأيها. أمِّي مدرستي الثانية التي تعلّمت منها الحياة.. وإنِّي لأنصح أخواتي الفتيات أن يتعلّمن دروس الحياة من أُمّهاتهنّ، خاصّة إذا كنّ على وعي وإيمان وفهم عميق للحياة.   ح- العبادة العمليّة: نقل لي شخص يعرفه عن كثب، قال: في ليلة القدر الماضية سألني: ما هي أعظم الأعمال في هذه اللّيلة؟ فقلتُ له: الصلاة، الدعاء، قراءة القرآن، وما إلى ذلك ممّا ذكُر في الكتب من برامج عبادية لإحياء هذه اللّيلة العظيمة. فقال: هذا كلّه صحيح، لكنني أزيدك أن تنال معي ثواب هذه الليلة بأن تسأل لي عن عائلة لا معيل لها، تعاني العوز والفاقة. وبعد السؤال والتحرِّي، عثرتُ على عائلةٍ مسحوقة، فأخبرته عنها، فقال: هَلمّ إليها، فذهبنا، وقال: إسأل عن احتياجاتها، فسألت وأخبرته، فحمل مبلغاً من المال في ظرف، وقال: قدِّمه إليهم. وفي طريق العودة فاجأنا حادث حريق في أحد البيوت فالتفت لي صاحبي وقال: هذا جزء آخر من إحياء هذه اللّيلة، وقد عملنا على نقل المصابين إلى المستشفى والسهر على راحتهم، وقد دفع المحسن أجور علاجهم.. وبقينا هناك.. حتى مطلع الفجر.. وحينما رأيت وجه صاحبي متهلِّلاً مستبشراً، فسألته عن ذلك، فقال: أسأل الله أن يكون قد تقبّل إحياءنا لهذه اللّيلة العظيمة. إنّ ساحة العبادة واسعة سعة الحياة.. وبإمكان كلّ شابّ وفتاة أن يجعلا من موقع العلم والصداقة والكلمة الطيِّبة والنصح والرحمة بالآخرين.. والصبر والتحمّل موقعاً للعبادة. لقد كان هناك طبيبٌ يحمل في حقيبته أدوات الفحص المعروفة، حتى في زياراته للأصدقاء والأقارب والجيران، وكان يجري في نهاية الزيارة الفحص مجّاناً على كبار السن والأطفال، ويتلطّف في التعبير عن أمله بالشِّفاء للمريض وسعادته للأصحّاء منهم. وكان يطالبهم بإراءته الأدوية الموجودة لديهم ليُخبرهم بالصالح والنافع منها، ومجال استخدام كلّ دواء.. وكان يعتبر ذلك عبادة. فهل لكَ أن تبحث عن مجالات تُمارس فيها العبادة بهذا المعنى؟!   ط- تدبّر آية يوميّاً: هذه تجربة شخص دخل الإسلام بعد أن كان يدين بدينٍ آخر[1]، فلقد وجّه عنايته لقراءة القرآن والتدبّر في آياته ومعانيه، حيث يقول: "واصلتُ دراساتي عن الإسلام، واقتنعتُ بأنّ القرآن الكريم كتاب متفرِّد ليس من وضع البشر، بل هو بحقٍّ كتاب الحياة والموت ومنهاج السماء للأفراد والجماعات، فيه كلّ شيء بدءاً من السلوك الشخصي للإنسان إلى المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الرائعة للإنسانيّة كلّها". ويضيف قائلاً: "وأستطيع أن أؤكِّد عن يقينٍ أنّني أدركتُ ذات الحقيقة حقّ الإدراك وأنا أقرأ القرآن، فلقد وجدتُ في كلِّ آية فيه فكرة متكاملة لا يرقى إلى قولها بشر. لهذا جعلتُ في نظام حياتي اليوميّة أن أقرأ كل يوم آية وأتدبّرها، وكلّما جرّدتُ عقلي من كلِّ شائبة قوي إحساسي بأنّ هذا القرآن إنما جاء من ذات عُليا سامية أعلم من كلِّ البشر.. تتحدّث للإنسان وهي تخدم ذاته.. وإذا استقامت ترشده إلى المسلك الصحيح في حياته".   ي- جمعيّة محاربة المُنكر: كانوا مجموعة من الفتيان حباهم الله ببصيرة واعية، وكانوا يتألّمون لمرأى المنكرات تشيع بين الكبار والشبان، فتمخّضت حساسيّتهم لهذا الوضع عن فكرة التقت عليها آراؤهم جميعاً، وهي أن يكتبوا رسائل إصلاحية تتضمّن بعض الآيات والأحاديث الشريفة التي تنهى عن خلقٍ معيّن يمارسه الشخص الذي يبعثون له برسالة.. وقد تطلّب ذلك، أن يقرأوا القرآن، ويتعرّفوا على الأحاديث الشريفة المطهّرة، وأن يردفوا ذلك بعباراتٍ مُهذّبةٍ، فيها دعوة للشخص أن يُبادر – قبل فوات الألوان – لتجاوز المنكر الذي هو فيه، من قبل أن يأتي وقت لا تنفع فيه حسرة ولا ندامة. ومن خلال مراقبة سلوك الذين كانوا يرسلون لهم هذه الرسائل الإصلاحيّة، انتهى فعلاً بعض مَن كانوا يمارسون المنكر، وهم لا يعلمون أيّ رسل بعثهم الله إليهم، ليرسلوا لهم هذه الرسائل التي كانت سبباً في هدايتهم. إنّنا يمكن أن نبتكر وسائل كثيرة لإصلاح الناس وهدايتهم بشكل رفيق ورقيق ومؤثِّر.. المهم أن نكون من أهل الصلاح، وأن نعرف ما هو صالح وما هو طالح، لنمارس أعظم مسؤوليّة إسلامية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد.. فالتجارب كثيرة.. والنافع منها الذي أثبت نجاحه وتأثيره جديرٌ أن يُعمَّم ويُنشَر.. انقل تجربتك لصديقك.. انقلي تجربتك لأختك.. وخذا من تجاربهما الصالح والمفيد، فإناء حياة الواحد منّا أوسع من تجاربه وحده، فلنضمّ إليها تجارب الآخرين أيضاً.
[1]- هو الدكتور فاندوبيك، الذي تسمّى فيما بعد باسم (محمّد المهدي).

ارسال التعليق

Top