• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التواصل والتكافل والتطهّر الروحي في الشهر الفضيل

التواصل والتكافل والتطهّر الروحي في الشهر الفضيل

◄في هذا الشهر الكريم؛ شهر رمضان المبارك، يريد الله تعالى لكلّ واحدٍ منّا أن يفحص عقله في كلّ ما يختزنه من أفكار، لما قد يدخل فيه على مدى سنةٍ من بعض أفكار الباطل، من خلال ما يقرأه الإنسان أو يسمعه أو يفكِّر فيه، وذلك بفعل غفلته عن عناصر الانفتاح على الحقّ، أو تأثّره ببعض الأوضاع أو ببعض الناس. وهكذا أيضاً، لابدّ من أن يفحص الإنسان قلبه، لأنّ القلب قد يختزن في داخله بعض المشاعر التي قد تتمثَّل في محبّة مَن عادى الله، وفي بغض مَن والى الله، لأنّ مشاعرنا وأحاسيسنا قد تخضع لبعض الحالات النفسية التي تنشأ من علاقات معيّنة، ربما تتعقَّد فتتحوَّل إلى حالةٍ من حالات العداوة والبغض فيمن لا يجوز لنا أن نعاديه، ولا يحلّ لنا أن نبغضه. لذلك، لابدّ لنا من أن نجلس مع قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، لنطهِّرها من كلّ القذارات التي قد تعلق بها.

وكذلك، علينا في هذا الشهر الكريم، أن ندرس كلَّ أقوالنا وأعمالنا، فقد نتحدَّث بما لا يرضي الله، كالغيبة والنّميمة والكذب وسباب المؤمن، وما إلى ذلك من الكلمات السلبية التي لا يرضاها الله، وقد نقوم بأعمالٍ لا يرضى عنها، كما في أكل الأموال بالباطل، وفي الشهوات المحرَّمة، إلى غير ذلك من الأعمال المحرَّمة.

التثقُّف بالقرآن

وقد أراد الله تعالى لنا أن ننطلق في هذا الشهر الكريم، لنتغيَّر من حالات السلب إلى حالات الإيجاب، وأن نستفيد من صيامنا، بأن نقوِّي إرادتنا، لأنّ الصيام يمثِّل الوسيلة التي يملك الإنسان من خلالها الإرادة في طاعة الله، ليكون ذلك منطلقاً لترك ما حرَّمه الله عليه في العمر كلِّه، لأنّ مسألة أن يتدرَّب الإنسان على أن يضغط على شهواته وغرائزه وعاداته في شهر رمضان، إنّما هو ليحصل على مناعةٍ نفسيةٍ تؤدِّي به إلى ترك كلّ ما حرَّمه الله عليه في الشهور كلّها، وأن نستفيد من قراءتنا للقرآن قراءة تدبّرٍ وتأمّلٍ ووعيٍ لمعانيه، وكيف يمكن أن ننفتح على الإسلام كلّه في عقيدته وشريعته وأخلاقه وكلّ قيمه، لأنّ الله أراد لنا أن نقرأ القرآن لنضيء به عقولنا وقلوبنا، ولنثقِّف به كلَّ معلوماتنا، لنكون المسلمين الواعين الذين لا ينفتحون على الإسلام من موقعٍ جامد، بل من موقعٍ منفتحٍ واعٍ، يجعلنا نعرف إسلامنا بشكلٍ قويٍّ فيه الكثير من الثقافة.

والمسألة في هذا الإصرار على تلاوة القرآن في شهر رمضان أو في غيره، يُراد من خلالها أن يتثقَّف كلّ مسلمٍ بالإسلام من خلال القرآن، وقد حدَّثنا الله تعالى عن القرآن بأنّه النور: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة/ 15)، فهو النور الذي يضيء العقل والقلب والحياة. وقد أرادنا رسول الله (ص) في الخطبة التي استقبل بها شهر رمضان، أن نطلب من الله أن يوفِّقنا لصيامه وتلاوة كتابه: "فاسألوا الله ربَّكم بنيَّاتٍ صادقة ـ من خلال صدق النيَّة وإخلاصها لله ـ وقلوبٍ طاهرة ـ ليس فيها شيء من الشِّرك والانحراف والعداوة لأولياء الله ـ أن يوفِّقكم لصيامه ـ لتحصلوا على المناعة الروحية والعملية في الإقبال على الطاعة وترك المعصية ـ وتلاوة كتابه ـ لأنّ الإنسان إذا لم يستطع أن يحصل على هذه المناعة الروحية التي تجعله يلتزم خطَّ الطاعة ويبتعد عن خطّ المعصية ليحصل على مرضاة الله، فإنّه يخرج من شهر رمضان شقيّاً لا شقيّ مثله ـ فإنّ الشقيَّ مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".

ثمّ يعالج رسول الله (ص) المسألة الشعورية، فيما يحسّ به الإنسان من جوعٍ وعطشٍ خلال النهار، فيطلب من الصائم أن لا يشغل نفسه بانتظار وقت الإفطار في حالة ذاتية نفسية، بل أن ينتقل، من خلال إحساسه بالجوع والعطش، إلى يوم القيامة؛ ذلك اليوم الطويل الذي يشعر الناس فيه بالجوع وأيّ جوع! وبالعطش وأيّ عطش! "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه".

التكافل الاجتماعي

 ثمّ ينتقل النبيّ (ص) إلى مسألة اجتماعية، وهي أن تشعر بأنّ هناك فقراء لا يجدون من الغذاء ما تجده أنت، وهناك مساكين لا يملكون العيش الكريم: "وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، كلٌّ بحسب قدرته، فإنّ الصدقة تُطفئ غضب الله، وتنمِّي للإنسان رزقه، وتشفي للإنسان مرضه.

ويعالج النبيّ (ص) أيضاً مسألة اجتماعية في تعامل الأجيال بعضها مع بعض، فهناك الكبار من آبائنا وأجدادنا وأُمّهاتنا وذوي العلم والسّنّ في مجتمعاتنا، والله سبحانه يريد للأجيال الجديدة من الصغار، أن يوقِّروا الكبار ويحترموهم، وأن لا يسيئوا إليهم، بل أن يتعاملوا معهم على أساس أنّهم سبقوهم إلى الإسلام، وأنّهم يملكون من التجارب ما لا يملكونه.

أمّا الكبار، فعليهم أن يرحموا الصغار؛ أن يرحموا قلّة تجربتهم، وضعف عقولهم، وأن يعملوا على أن ينصحوهم، وأن لا يتعسَّفوا معهم، ولا يحمِّلوهم ما لا يستطيعون: "ووقِّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم"، فالنبيّ (ص) يريد للعوائل أن تتواصل وتتراحم، سواء كان الرَّحم واصلاً أو قاطعاً، لأنّ صلة الرَّحم تمثِّل القيمة الإسلامية التي يُعطي الله الإنسان الذي يلتزم بها رحمته ومحبّته ورضوانه وكلَّ ألطافه.

"واحفظوا ألسنتكم ليصم لسانك عن كلّ قبيحٍ وحرام، كما تصوم عن الطعام والشراب ـ وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلُّ الاستماع إليه أسماعكم".

أمّا الأيتام، فهم أمانة الله في كلّ مجتمع، وعلى المجتمع أن يتكفَّل بهم، ويتحنَّن عليهم، وأن يحافظ على أموالهم، وأن يتحمَّل مسؤوليتهم في كلّ ما يمكن الإنسان أن يقوم به من تربيتهم وتعليمهم: "وتحنَّنوا على أيتام الناس يُتحنَّن على أيتامكم". وقد أوصى الإمام عليّ (ع) بالأيتام بما يشبه الاستغاثة، فقال (ع): "الله الله في الأيتام، فلا تغبُّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم"، بل احفظوهم كما تحفظون أولادكم، واحموهم من الضياع في متاهات الحياة، حتى تنشئوهم ليكونوا مواطنين صالحين.

التوبة إلى الله

 ويؤكِّد النبيّ (ص) في شهر رمضان، أن يستحضر الإنسان كلَّ ذنوبه السالفة ليتوب إلى الله منها: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، و(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، والتوبة هي الندم على ما فعله الإنسان من ذنب، والعزم على أن لا يفعل ذلك في المستقبل، وهي التوبة النصوح التي يدعو النبيّ (ص) إليها: "وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدُّعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات ـ فالصلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله، وعندما يقف الإنسان بين يدي الله مستشهداً بذلك على عبوديّته له، فإنّه يكون قريباً إليه ـ ينظر الله عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده؛ يجيبهم إذا ناجوه، ويلبِّيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه. يا أيّها الناس، إنّ أنفُسكم مرهونة بأعمالكم ـ فما الذي يحرِّر هذه النفس ويعتقها؟ ـ ففكّوها باستغفاركم ـ أن نستغفر الله في الصباح والمساء، ليستذكر كلّ إنسانٍ ذنبه، ويستغفر الله منه ـ وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخفِّفوا عنها بطول سجودكم ـ اسجدوا لله سجوداً طويلاً، لأنّ الإنسان عندما يسجد لله، يشعر بإخلاص العبودية له والقرب منه ـ واعلموا أنّ الله أقسم بعزّته أن لا يعذِّب المصلّين والساجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين". وأيّ جائزة أعظم من هذه الجائزة؟!►

ارسال التعليق

Top