• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الدين يصنع فريضة الوحدة

الشيخ حسن الصفّار

الدين يصنع فريضة الوحدة

◄إنّ العمل من أجل وحدة الأُمّة الإسلامية، وتعزيز تماسكها وتلاحمها، هو من أهمّ الفرائض والواجبات، وخصوصاً في هذا الزمن العصيب، الذي تراجعت فيه مكانة الأُمّة على المستوى العالمي، وأصبحت دولها تصنَّف ضمن خانة الدول النامية، أو العالم الثالث، وعادةً ما تحتلّ أواخر الدرجات ضمن أيّ تقرير دولي لرصد مسيرة التقدّم العلمي، أو التنمية الاجتماعية.

وإذا كانت الوحدة مطلوبة على كلّ الأصعدة والمستويات، فإنّها أكثر إلحاحاً وضرورة على الصعيد الديني، ذلك أنّ العامل الديني هو من أعمق العوامل وأشدّها تأثيراً على نفس الإنسان وسلوكه.

فالقيم الدينية الصحيحة، حين تأخذ موقعها في نفوس أبناء المجتمع وأفكارهم، تدفعهم إلى أعلى درجات التماسك والتلاحم، وتصنع منهم أفضل واقع وحدوي، وتمنحهم القدرة على تجاوز عوامل التجزئة والنزاع.

وهذا ما حصل بالفعل عند انبثاق نور الإسلام، ودخول القبائل العربية إلى رحابه، حيث نقلهم من حالة التشرذم والاحتراب إلى آفاق الإخوة والتآلف يقول تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103).

وقد عبَّر القرآن الكريم عن المستوى الرفيع لوحدتهم وتماسكهم، بأنّهم: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4)، كما وصف رسول الله (ص) تلك الدرجة العالية التي بلغوها من التوحد والتضامن، بأنّهم أصبحوا بمثابة جسد واحد. جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله (ص): "مَثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى".

هذا هو العطاء الطبيعي للقيم الدينية الصحيحة، التي تزرع في النفس روح المحبّة للآخرين، واحترامهم، وتربّي على أخلاقيات التعاون وخدمة المصلحة العامّة، وتحصّن الإنسان عن التأثير السلبي للعصبيات العنصرية والقومية والقبلية والفئوية. وكما أنّ الدِّين بقيمه وتعاليمه الصافية يكون مصدراً وصانعاً لأرقى حالات الوحدة والانسجام في الأُمّة، فإنّه عندما تتعرّض قِيمه ومفاهيمه للتحريف والتزييف، يُساء استخدامه كأشدّ معول للتفرقة والخصومة والنزاع، وطالما استغلت الأديان في تمزيق الشعوب، وإشعال الفتن والحروب، حين يتّخذ البعض من الدِّين غطاءً لنزعة الهيمنة والاستبداد، ويحتكر لنفسه حقّ فهم الدِّين وتفسيره، وفقاً لتوجهاته السياسية والفكرية، قامعاً لكلِّ الآراء الأُخرى، ومُصادراً لحرّيات معتنقيها، والذين سيضطرّون للدفاع عن حقوقهم، ونصرة آرائهم ومذاهبهم في تفسير الدِّين وفهمه، ما يقود الأُمّة إلى حالة الفتن المذهبية، والصراع الداخلي، وعادةً ما تكون الخصومات الدينية في المجتمعات هي الأكثر حدة وعنفاً.

وقد حذَّر القرآن الكريم من استخدام الدِّين أداةً للفرقة والنزاع، يقول تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم/ 31-32). ويقول تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

إنّ تعدُّد الآراء والاجتهادات في إطار الدِّين هو أمر طبيعي لا مناص من حدوثه وحصوله، فالدِّين مجموعة من النصوص المنقولة، يستخدم العلماء والفقهاء عقولهم لفهمها وإدراكها، ولأنّهم بشر يتفاوتون في مستوياتهم العلمية ومداركهم الفكرية، ويتنوعون في بيئاتهم وتجاربهم، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك التفاوت والتنوّع على أفهامهم وتفسيراتهم للنص الديني، فضلاً عن إمكانية اختلافهم في إثبات صدور ذلك النص بالنسبة إلى ما عدا القرآن الكريم، لأنّه قطعي الصدور.

لكنّ تعدُّد الآراء واختلاف الاجتهادات لا يؤدِّي بالضرورة إلى النزاع والخصام، بل يثري حركة المعرفة والاجتهاد، ويشجع التنافس العلمي الإيجابي، ويتيح أمام الأُمّة أكثر من خيار شرعي في التعامل مع قضايا الحياة على ضوء مختلف الاجتهادات. وقد عاش أئمّة الدِّين وفقهاء الأُمّة في العصور السابقة مع بعضهم البعض، يتواصلون علمياً ومعرفياً، يتتلمذ بعضهم على بعض، ويحاور بعضهم بعضاً، ويأخذون عن بعضهم بعضاً، ويتبادلون المودة والاحترام، حتى جاء جيل من الأتباع لأُولئك الفقهاء، ينقصهم الإخلاص للدِّين، والتخلّق بآدابه، والوعي بمصلحة الأُمّة، فحوّلوا انتماءهم لأُولئك الأئمّة الأعلام، إلى عصبية مذهبية، وتكتل فئوي، وانحياز طائفي، فذاقت الأُمّة وبال الفتن والنزاعات، ما بدَّد شملها، ومزَّق وحدتها، وخصوصاً في عصرنا الحاضر، حيث جنح التطرّف والغلوّ ببعض الفئات إلى تكفير مخالفيها من المسلمين، واتهامهم بالشرك والضلال والابتداع.

تجاه هذا التطرُّف الخطير على وحدة الأُمّة وأمنها واستقرارها، كان لابدّ من دور للواعين المصلحين، للتذكير بفريضة الوحدة الواجبة، وللتأكيد على احترام كلّ المذاهب الإسلامية وحرّية الانتماء إليها، وأن تعدُّد المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية، أمر مشروع وقديم الوجود في تاريخ المسلمين، وهو لا يبرّر النزاع والخلاف، ولا ينبغي أن يؤثِّر في علاقات الأخوة والمواطنة بين أبناء الأُمّة.►

ارسال التعليق

Top