• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العـزّ في العفو عن الآخرين

عمار كاظم

العـزّ في العفو عن الآخرين

ربّما يتصوّر بعض الناس أنّ العفو يمثّل ذلّاً وإنّ الإنسان الذي يعفو، ضعيف في موقفه جبان ذليل والناس يلومونه بقولهم أنت لم تأخذ حقّك ضربك فلان فلم تضربه وشتمك فلم تشتمه، فيما يقول الحديث: «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزّكم الله». المسألة إذن هي أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيك عزّاً من عنده ونحن نعرف أنّ العزّ ليس من الناس (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26). وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يا سفيان! مَن أراد عزّاً بلا عشيرة وغنىً بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته». وعلى هذا الأساس ينبغي لنا أن ننطلق لنربِّي أنفُسنا على هذا الخلق الإنساني الذي يفتح قلوب الناس، عليك بدلاً من أن تغلقها عنك، والذي يمكن أن يحلّ المشكلة بدلاً من أن يعقِّدها. وكان الإمام (عليه السلام) يعبّر عن مسألة امتناعه عن شفاء غيظه من الناحية الأخلاقية فيقول: «متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت» فإذن أنا عندما أغضب فسأقف بين حالتين: حالة العجز التي يريد الله منّي أن أصبر عليها، وحالة القدرة التي يريدني الله أن أعفو عنها. وهذا هو الخطّ الإنساني الإسلامي عند الإمام عليّ (عليه السلام): «الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل وتؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»، أي حاول أن تعفو لتعرض أمام نفسك هذه الصورة: أنت مذنب أمام الله وتطلب من الله العفو والصفح وهؤلاء المذنبون أمامك ويطلبون منك العفو والصفح، فإذا كنت لا تعفو عنهم، فكيف تطلب من الله أن يعفو عنك. وإذا كنت تأمل من الله أن يعفو عن ذنبك وأن يصفح عنك فعليك أن تفكر بأن تعفو عن هؤلاء وتصفح عنهم. ثمّ نلتقي بالإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الاتجاه في دعاء (أبي حمزة الثمالي) عندما يقارن العفو عند الله بالعفو عن العباد الآخرين: «اللّهُمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفُسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا»، يعني نحن لسنا أكرم منك، نحن نعفو عمّن ظلمنا وأنت لا تعفو عنّا وقد ظلمنا أنفُسنا وقد ظلمناك حقّك، هذه معادلة لا تصح لذلك فلتعفُ عنّا يا رب إذا عفونا عن الذين من حولنا. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير خلائق الدُّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك، وفي التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشَّعر ولكن حالقة الدِّين». نخلص من ذلك إلى أنّ مسألة العفو في الإسلام هي مسألة تتوازن مع مسألة الحقّ.

الإسلام يعطيك الحقّ ويطلب منك أن تعفو عفو صاحب الحقّ عن حقّه ويعدك الله بالأجر غير المحدود على عفوك. وبهذا يكون العفو في الإسلام إنسانية عندما ينفتح على الناس الذين لا يضرهم العفو، كما هو حال المجرمين الذين لا يزيدهم العفو إلّا إصراراً على الاعتداء والإجرام. ويبقى الإسلام في أخلاقه واقعياً يدرس الإنسان في نقاط ضعفه ونقاط قوّته فيجعله يعيش التوازن بين الحقّ وبين العفو وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه وأن نتخلّق بأخلاق الله: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النِّساء/ 149). هذه هي الأخلاق غير التجارية وهي أن تعطي في الوقت الذي يمنعك الآخر.

والآن نأتي للجائزة، فما هي جائزتك إذا كنت عافياً عن الناس، تعفو عن زوجتك إذا أخطأت وتعفو عن ولدك أو عن جارك وعن صديقك إذا أخطأوا، ما هي الجائزة المعدّة لك من قبل الله؟ لقد جاء في الحديث أنّه: إذا أوقف العباد نادى منادٍ ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة. قيل مَن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ألم تسمعوا قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (الشورى/ 40).اهتمامه بالأمة: فمن صور اهتمامه بالأمة، ما ذكرته سيرته العطرة في هذا المضمار: - ابن إسحق، قال: «كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت، يأتيهم رزقهم، وما يحتاجون إليه، لا يدرون من أين يأتيهم، فلما مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ذلك». عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «إنه كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره حتى يأتي بابا فيقرعه، ثم يناول من كان يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيرا لئلا يعرفه». وعن عمرو بن ثابت: {لما مات علي بن الحسين، وغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ قيل: كان يحمل جُرب الدقيق على ظهره ليلاً ويوصلها الى فقراء أهل المدينة سراً}.

عن عمرو بن دينار، قال: {دخل علي بن الحسين عليه السلام على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه يعوده، فجعل يبكي ويقلق، فقال له علي: (ما شأنك؟) فقال: عليَّ دَيْنٌ، قال: (كم هو) قال: خمسة عشر ألف دينار، فقال: (هو عليَّ) }.

{وكان عليه السلام إذا قصده سائل يقول له: (مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة)}.

{وكان إذا ناول الصدقة السائل، قَبّلَهُ ثم ناوله}.

ولقد بلغ من اهتمامه بالفئات المستضعفة في الأمة أن حرر الأرقاء من أسيادهم، فكان يشتري في كل عام عددا كبيرا منهم، من أجل تحريرهم، وخصوصا في العيدين، وكانت معاملته لهم معاملة النِّدِّ للنِّدِّ، فلم يكلف أحدا فوق طاقته، ولم يؤذِ أحدا أبدا، وقد أسماه البعض من أجل ذلك (محرر العبيد).

ولقد أعتق مرة عبداً من عبيده، كان قد أُعطِيَ فيه مبلغاً ضخماً ليبيعه، فرفض وأعتقه.

حلمه وتواضعه: وهذا طرف آخر من أخلاقه العظيمة: «شتم رجل زين العابدين(عليه السلام) فقصده غلمانه، فقال: (دعوه) ثم قال للرجل: (ألك حاجة ؟) فخجل الرجل، ثم أعطاه ثوبا وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». «وسبه رجل مرة، فسكت الإمام عليه السلام عنه، فقال الرجل: إياك أعني، فقال الإمام: (وعنك أغضي)». «وكانت له جارية تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها، فرفع رأسه إليها، فقالت: (والكاظمين الغيظ) ، قال عليه السلام (قد كظمت غيظي)، قالت: (والعافين عن الناس) قال عليه السلام: (عفا الله عنك)، قالت: (والله يحب المحسنين) قال: (اذهبي فأنت حرة لوجه الله عزوجل)». وانتهى إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم وقال: «إن كنتم صادقين غفر الله لي، وإن كنتم كاذبين غفر الله لكم». «ونال منه الحسن بن الحسن فشتمه، فلم يكلمه، فلما إنصرف، قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه، فقالوا له: نفعل، وقد كنا نحب أن تقول وتقول، فمشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) . فلما بلغ منزله وناداه، خرج إليه متوثبا للشر وهو لايشك أنه إنما جاءه مكافيا على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين عليه السلام (يا أخي! إن كنت قلت ما في فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في يغفر الله لك). فقبل الحسن ما بين عينيه، وقال: بلى، قلت ما ليس فيك وأنا أحق به».

ومن مصاديق إنسانيته المثلى كذلك، أنه كان له ابن عم فكان علي بن الحسين عليه السلام يأتيه بالليل متنكرا فيناوله شيئا من الدنانير، فيقول له: لكن علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله خيرا، فيسمع الإمام عليه السلام ذلك، ويحتمل ويصبر ولا يعرفه بنفسه، فلما رحل الإمام عليه السلام إلى ربه تعالى، فقد الرجل تلك الصلة المعتادة فعلم أنها منه، فجاء إلى قبره باكيا.

هذه بعض شواهد منهاجه في التعامل مع الناس وقد كان بحق الصورة التجسيدية المثلى للمنهج الإلهي الكريم.

ارسال التعليق

Top