• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حصاد شهر الصيام

حصاد شهر الصيام
العبادات الإسلامية: مدارس تعبوية.. تملأ النفوس المؤمنة بطاقات هائلة.. ثمّ تجند هذه الطاقات للقيام على مسرح الحياة بمنجزات خالدة. ومن أهداف العبادات بعامة، تقوية "الامتثال" لأوامر الله ونواهيه.. إذ أنّ الإرادة الإنسانية تستجيب للترويض، وتكتسب القوة والصلابة بالممارسات الفعلية، أكثر من طرح الأفكار النظرية.. ومن هنا كانت العبادات من أنجح عوامل تقوية الإرادة وإصلاحها. وميزة "الإمتثال" لأوامر الله ونواهيه تعني: الاقدام على أداء ما أمر الله بفعله، والاحجام عما نهى الله تعالى عن ارتكابه.. وحينئذ، تنشأ لدى المسلم "إرادة قبول" و"إرادة رفض". وشهر الصوم، بما فيه من تحول في السلوك المعتاد، وما يلزم فيه من امساك عن أمور محددة.. فإنّ الصيام فيه من أهم الوسائل الفعالة التي تنمي لدى المسلم "إرادة الرفض". والصيام، إذ يتكرر كل عام، فإنّه يجدد في نفس المسلم حيوية الإرادة التغييرية.. ويعمق لديه صلابة الإرادة الرافضة. ولكن أين يتجه التغيير؟ وأين ينصب الرفض؟ كل منكر مرفوض: لقد أمر الله سبحانه أن نرفض كل المشاهد والوقائع المعادية لمصلحة الإنسان، والمناقضة لدواعي السعادة والأمن والإستقرار الإجتماعي.. وتلك هي "المنكرات" التي نهى عنها الإسلام، وأمر برفضها. الا أنّ الرفض لا يعني "إجتناب" المنكرات فحسب، بل و"تجنيب" المجتمع مغبة آثارها السيِّئة الهدامة، بالإجهاز عليها لتغييرها، وإنهاء الشذوذ والصراع القائم بينها وبين منهج الله تعالى في واقع حياة الأُمّة. فالإرادة الرافضة التي ترعرعت في ربيع العبادة.. شهر رمضان، لا ينحصر دورها، في سائر أشهر السنة، في إطار الإمتناع عن الركون إلى الذين ظلموا.. والكف عن أكل الربا.. أو إجتناب كبائر الأثم والفواحش.. أو إجتناب الرجس من الأوثان وإجتناب قول الزور.. أو غير ذلك من المنكرات.. فحسب بل وتوظيف تلك الإرادة الرافضة من أجل العمل على حماية الآخرين من أخطار هذه المنكرات، إيماناً بالمسؤولية عن المجتمع، وتضامنا مع المؤمنين العاملين. ذلك لأنّ اللعنة إذا نزلت شملت كل الذين لا يتناهون عن المنكر، وانّ فعله قوم آخرون.. لا إخلالاً بقاعدة "شخصية العقوبة"، وإنما تنفيذاً لمبدأ المسؤولية الجماعية: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ... * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) (المائدة/ 78-80). -        الصائم قائم وشاهد: إنّ القدرة التغييرية المعبرة عن إرادة الرفض، في بداية شوال، تكون قد تضاعفت في نفوس المؤمنين، لما يكون قد أحدثه الصيام من رؤية بينة، وتشخيص واضح، للصالح والفاسد من وقائع المجتمع، وأمور المسلمين. لذا فإن ما أفرزته عملية المعاناة والتنمية الروحية، طيلة الصيام، من تطلعات إرادية واعية، يجب أن تنصب على توجيه شراع المجتمع نحو شواطئ الإسلام. فيكون شهر شوال بداية عمل مكثف: بداية تصعيد للمحتوى العقائدي لدى كل مسلم.. بالرجوع إلى الله: إيماناً به، وتوحيداً له، وإعتماداً عليه، وإتباعاً لمنهجه القويم.. إقتداء برسول الله (ص).. وإتباعاً لأهل بيته الطاهرين وأصحابه المتقين. بداية تنسيق للعمل على تحويل الخطب الجوفاء، من مهنة ارتزاق، وهواية ظهور، وأسباب تخدير للجماهير الإسلامية وشل فاعليتها.. إلى "قذاف" موجهة، تنقض على أوكار الفساد، و"أذان" يبعث المستضعفين في الأرض: مقاماً محموداً. بداية تحويل للدراسات النظرية في الكتب الإسلامية، إلى إسلام يملأ العقول.. وينير النفوس.. ويحكم الجوارح.. وينظم العلاقات.. ويقرر الأحكام.. ويحدد المواقف.. ويرسم المصير. وبهذا نحصل من صيام شهر: على مناعة عام. ويكون الصائم منا: قائماً.. شاهداً. والا.. فليس له إلا الجوع والعطش. يا أُمّة محمد (ص): إذا كان شهر رمضان: شهر الله تعالى، فإن جميع الشهور هي شهور الإسلام.. وهذا هو حصاد شهر الصيام. إنّ حصاد شهر الصيام هو أن نقدم للناس نماذج حية من أنفسنا، تدعو إلى الإسلام، وتجسد الإيمان.. تدعو إلى الإسلام لا بالألفاظ المنمقة، بل بتقديم القدوة الحسنة، والإلتزام التام الرائد، بأحكام الإسلام.. وتجسد الإيمان، لا كلاماً معسولاً، وعبارات طنانة مكررة.. بل تعاملا مع الواقع يتطابق مع منهج الإسلام، ويخدع مصالح الجماهير المقهورة. إنّ حصاد شهر الصيام أن نفكر بتناقضات المجتمع التي استمرت.. واستوطنت.. وشاعت.. حتى ألفها الناس فصار المنكر معروفا، والمعروف منكرا!!

إنّ حصاد شهر الصيام أن نشتغل بمآسي المحرومين الذين تواروا عن العيون، خلف استار الشعور بالفردية والأنانية والإنغماس في الحياة المادية.

   المصدر: كتاب دروس في الفكر الإسلامي

ارسال التعليق

Top