• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دَرْبُ الثقافة الطويل

فردريك معتوق*

دَرْبُ الثقافة الطويل
◄من المعارف الشعبية والعامة إلى المعارف العلمية والخاصة: كيف انتقلنا من الثقافة الشعبية إلى الثقافة العالِمة؟ وما الفرق بينهما؟ أسئلة تراودنا أحياناً ونبحث عن أجوبة عنها. الثقافة الشعبية هي ثقافة عامة الناس، المنتشرة على جميع المستويات الاجتماعية والتي تطال حقول الحياة اليومية كافة. أما الثقافة العالِمة فهي تلك الثقافة التي انطلقت في الأساس من عناصر الثقافة الشعبية لتتخصص فيما بعد ببعضها ولتجعل من حقلها حقلاً خاصاً بالعلماء. جذع الثقافة إذاً واحد، يقوم على تجارب وخبرات الإنسان المتراكمة في الحقول كافة، لكن توجّه الثقافة يتّخذ في الحياة العملية إما منحى الثقافة المعروفة بالشعبية وإما ثقافة أهل العلم والعلماء، فتسمى الثقافة العالِمة. يتمفصل كل من هذين المنحيين على عناصر وأساليب التعبير الخاصة بالثقافة الأخرى، دون أن يعني ذلك أنّ الخلاف قائم بينهما. فشكل التعبير يختلف فقط. الثقافة الشعبية هي أقدم عهداً من الثقافة العالمة، فأول شكل للثقافة كان شعبياً، أفرزته تجارب الحياة اليومية للمجتمعات الأولى المعروفة في البشرية. ميزة هذه الثقافة الشعبية الأولى أنّها كانت تتمحور حول أمور الحياة العملية، حول المأكل والمشرب وأسلوب الإنتاج ومناسبات القبيلة أو الشعيرة الاجتماعية. لذلك فإنّها كانت ترتدي طابعاً عملياً يطال مختلف نواحي الحياة، لا تخصّص فيها ولا تخصيص. أمّا الثقافة العالِمة فهي أحدث زمناً، خرجت من بطن الثقافة الشعبية لتنحصر في مجالات محدّدة اعتبرها بعض المثقفين مميّزة وأكثر أهمية من سواها. استئثار بعض الأشخاص بهذه الفروع الثقافية والتعمّق والتخصّص بها أدّى بعد فترة إلى نشوء ثقافة عالِمة، لها أهلها وأطرها الخاصة. وبسبب هذين الأفقين المختلفين فإنّ الثقافة الشعبية تميّزت عن الثقافة العالمة بكون عناصرها أكثر تشعّباً وتشمل مجالات واسعة، في حين أنّ عناصر الثقافية العالِمة هي أكثر تحديداً وتنحصر في مجالات معيّنة. انفصال الثقافة العالِمة عن الثقافة الشعبية أدّى، بعد فترة، إلى انشطار الثقافة العالِمة (ثقافة المتعلّمين) إلى فرعين متميّزين هما الثقافة الأدبية والثقافة العلمية. وقد استغرقت عملية الانشطار هذه وقتاً طويلاً قبل أن تحصل في القرن السابع عشر في أوربا حيث أُنشئت في لندن عام 1662 أول جمعية تُعنى بالاكتشافات العلمية على أساس تجريبي، مع اعتراف ملكي بها، وما لبث أن لحق بهذا الحدث إنشاء أكاديمية العلوم الرسمية في باريس، بعد سنوات قليلة.   -        ملكية الثقافة الشعبية: الثقافة الشعبية هي عادةً غير معروفة المصادر بالتحديد، أما الثقافة العالِمة فمعروفة المصادر والأصول بشكل دقيق. تقوم الثقافة الشعبية على سلسلة معارف مشتقّة من تجارب عامة، لا خاصة، ومن استخلاصات ترتدي طابع العمومية. فالمثل الشعبي مجهول الأب، وهو غير الحكمة المأثورة عن فلان أو فلان. والرقصة الشعبية لا تعود بأصولها إلى اسم محدد بل يبقى مؤلفها مجهولاً. وزغاريد الأعراس التي تتناقلها حناجر النساء وألسنتها غير معروفة المستنبط. كل تعابير الثقافة الشعبية هي من الناس وإليها، ومن العامة وإليها. أمّا الثقافة العالِمة فإنها تقوم على تحديد دقيق لأصول المعرفة، فيقول فلان عن فلان حول هذه المسألة أو تلك ما يلي. وتحديد الأصول خطوة ضرورية لمن يعيش في فلك الثقافة العالمة، حيث إنّ الفرد هو محرّك الأفكار والتصوّرات فيها لا العامة. بالتالي فإنّ المطلوب من الإنسان الذي يطّلع على إحدى تعابير الثقافة العالِمة هو تأصيل الفكرة أو المعادلة أو العبرة. إن ما هو مطلوب في إطار الثقافة الشعبية هو مشاركة الفكرة أو العمل، لا تأصيله. الثقافة الشعببية هي ملك العامة وبمتناول الجميع، أما الثقافة العالِمة فإنها ملك فئة من الناس وبمتناول الخاصة. تصرّ الثقافة الشعبية على بقائها ملكية مشاعية، يلجأ إليها من يشاء وفي الوقت الذي يناسبه، ولا ضرورة لخطوات مسبقة في هذا التجاه، فالذي يدخل إلى الثقافة الشعبية يدخل بشكل عفوي ودون أن يمرّ بامتحان دخول، حيث إنّ المشاركة مفتوحة للجميع. ويمكن لحامل الثقافة العالِمة أن يدخل في أي لحظة حقل الثقافة الشعبية دون أن يترتب عليه أن يخلع ثقافته العالِمة أو أن يقوم بامتلاك شبكة رموز محدّدة تسمح له بالدخول في مدار الثقافة الشعبية. بالمقابل، لاوجود للملكية المشاعية في إطار الثقافة العالِمة. فعلى من يريد أن يدخل إلى عالم الثقافة العالِمَة أن يخضع لامتحان يرسب أو ينجح فيه. ومدى نجاحه في هذا الامتحان خاضع لامتلاكه رموز العلم بشكل مقبول ودقيق. كما أنّ على حامل الثقافة الشعبية الراغب في الدخول إلى فلك الثقافة العالِمة أن يخلع ثقافته العامة والشعبية وأن يعتبر أنّ هذه الثقافة هي ثقافة الشارع، لا ثقافة بيوتات العلم، وأن يفك ارتباطه بها بشكل مسبق لكي يبدأ تلقينه المبادئ والأصول التي تسمح بقبوله في صفوف العالمين. الثقافة العالِمة لا تقبل بالدخول العفوي إلى بيتها، بل أنّ هذه الزيارة ينبغي أن تخضع لسلسلة امتحانات يقرّ فيها، بشكل من الأشكال، الإنسان الممتحن، أنّ الثقافة الشعبية هي ثقافة سطحية وأولية، لا تليق بمستويات المعرفة العالِمة. وإجراء القطع الذاتي مع هذه الثقافة شرط لا تستقيم من دونه عملية الدخول إلى هيكل المعرفة والعلوم الأصيلة. يتناقل الناس الثقافة الشعبية من دون وسطاء معتمدين. أما الثقافة العالِمة فترعى شئونها فئة اجتماعية محددة يُطلَق عليها اسم أهل العمل. للدخول إلى الثقافة الشعبية لا مفاتيح منهجية (كإتقان المبادئ والأصول) ولا أشخاص بالتالي يقومون بعملية تلقين هذه الأصول المنهجية. فالثقافة الشعبية لا تعتبر نفسها ثقافة ولا تدّعي امتلاك حصن حصين لتدافع عنه، بل تكاد تنصهر في الحياة اليومية ومع الحياة العملية. لذلك فإنها لا تشعر بحاجة إلى وسطاء يرعون خُطا المريدين. بل إنّ الثقافة الشعبية هي بمثابة قوالب جاهزة، موروثة عن الأجداد، يجد فيها من يشاء نماذج جاهزة لسلوكه الثقافي ككل. وميزة هذه القوالب أنها جاهزة ومبسّطة لا تحتاج إلى وسطاء يقومون بعملية تلقين أصولها.   -        الثقافة العالِمة المركّبة: أما الثقافة العالمة فهي ثقافة مركّبة، تفترض أن يدخل مريدها إلى أصولها ودهاليزها. وإلا استحال عبوره إليها. الثقافة العالِمة تدّعي أنها ثقافة، بل تذهب أبعد من ذلك فتدّعي أنّها الثقافة الوحيدة، غير معترفة بالثقافة الشعبية وبقوالبها التي انطلقت منها هي ذات يوم، في العصور الغابرة. لا إطار مؤسّسياً للثقافة الشعبية، أما الثقافة العالِمة فتؤطرها مؤسسات. الثقافة الشعبية منتشرة في الشارع والحارة والحيّ والقرية والمدينة. أينما ذَهَبْتَ تلتقي بها، فلا حاجة إلى أن تقصد ملاقاتها لكي تلتقيها، إنّها تعترضك في كل مكان تقريباً، إذ لامكان محدّداً تنحصر أو تختبىء فيه. كل الأمكنة مكانها وشموليّتها تجعل من كل مجال مجالاً لها. أمّا الثقافة العالِمة فهي في موقع مختلف، إذ إنّ أهل العلم يستأثرون بها ويحصرونها في أماكن محدّدة سرعان ما تحوّلت إلى مؤسسات. فإن أردت أن تلتقي الثقافة العالِمة عليك أن تذهب إلأ أصحابها وأن تنضوي تحت لواء مؤسساتها التي تجسّدها المدارس والأكاديميات. ملاقاة الثقافة العالِمة لا تحصل عفوياً، بل إنّ المرء ينبغي أن يقصد هياكل المعرفة ومؤسساتها المدرسية والأكاديمية بشكل متعمّد لكي يلتقيها. وإلا لما أتت هي إليه كما هو الحال بالنسبة إلى الثقافة الشعبية. تسعى الثقافة العالِمة لأن تكون أمكنتها ومجالاتها معروفة وظاهرة، لكي تفرض نفسها أكثر ولكي يكون حضورها الاجتماعي أقوى وقعاً. وهذا السعي المقصود في الظهور الذي تتميّز به الثقافة العالِمة لا نجده عند الثقافة الشعبية التي لا يطمح أهلها إلى فرضها وفرض الاعتراف بها من خلال مؤسسات محدّدة. لكي تحصل على الثقافة العالِمة ينبغي عليك أن تطلبها طلباً وأن تسعى إلى تحصيلها من المؤسسات التي هي محصورة فيها. أمّا الثقافة الشعبية فلا حاجة لأن تطلبها حيث إنها موجودة في الشارع.   -        تجليات الثقافة الشعبية: تتجلّى الثقافة الشعبية في الحياة اليومية وفي الأعياد (التي هي كسر مؤقت للحياة اليومية ولكن في منحى موازٍ لهذه الحياة، لا في منحى مناقض). أمّا الثقافة العالِمة فلها مناسباتها الخاصة وشرعيّتها الرسميّة. لا تُمنح ولا تُعطى الثقافة العالمة، كما هو الحال بالنسبة إلى الثقافة الشعبية، بل تُحصّل تحصيلاً. وهذا التحصيل الذي يمرّ ببيئة اجتماعية محدّدة (أهل العلم) وبمؤسسات تعليمية محدّدة (الأكاديميات الجامعية والمدارس) يمرّ أيضاً وبالضرورة بمناسبات محددة (نهاية الامتحانات)، تُعطى على إثرها للمتفوّقين – لا لكل الناس – شهادات معترف بها رسميّاً. فالامتحانات والشهادات التي تُعطى لطلاب العلم المتفوقين وحفلات التخرّج هي المناسبات الخاصة التي تتفاعل من خلالها الثقافة العالِمة مع عامة الناس. تأتيهم من فوق، تقطّر عليهم مناسبات الإلتقاء لكي تمنح لنفسها ولأهلها هالة من الأهمية ومن الرصانة ومن الشرعية. الأعياد، التي هي مناسبات الثقافة الشعبية، لا تعلّق نفسها فوق رقاب الجمهور كالسيف، بل إنها تدعو الجميع إلى المشاركة على قدم المساواة، مانحة الجميع المقدار نفسه تقريباً من عناصرها وتجلّياتها. أمّا الشهادات، التي هي مناسبات الثقافة العالمة، فإنها تخضع لعملية إخراج مسرحية أو سينمائية إلى حدّ ما، حيث إنها تحاول بالمكابرة والانتفاخ والتعظيم أن تعظّم من شأنها هي. فللشهادات ومنحها مناسبات خاصة، لا عامة، تسعى خلالها الثقافة العالِمة أن تزيد من أهميتها وأن تقنع الناس أن ما تقدّمه إلى حفنة من الميسورين تعليمياً هو شيء ثمين جدّاً. الثقافة الشعبية لها جمهورها. أمّا الثقافة العالِمة فلها سوقها. توجد الثقافة الشعبية، ثقافة عامة الناس، أينما وُجِدَ الناس. لا حاجة لوسطاء أو لمؤسسات أو لشهادات امتياز. تسعى الثقافة الشعبية إلى أن تواكب جميع مناسبات الحياة اليومية والحياة العملية. ولذلك فهي حاضرة دائماً، عبر تجليّاتها كافة، في قلب جمهورها، تشاطره عواطفه وتجيب عملياً عن أسئلته المختلفة. وعلاقته بها تشبه إلى حدّ ما علاقة الإنسان بأمّه التي هي مستعدّة دائماً لتلبية حاجات وأسئلة ولدها. يشعر الجمهور بالدفء في حضن الثقافة الشعبية. أما في إطار الثقافة العالِمة فيشعر وكأنه مفطوم، مُبعد إلى حدّ ما عن حضنَ الثقافة، لا تربطه بها علاقة عاطفية، بل إنّ العلاقة العقلية والذهنيّة، الباردة، هي السائدة بينه وبينها. لذلك نلاحظ في الأعياد الشعبية تداخلاً كبيراً بين الإنسان والعيد وانسجاماً مع الطبيعة والناس لا نجد مثيلاً له في الثقافة العالِمة. فللثقافة الشعبية جمهور كبير من المتعاطفين. جمهور يشارك ويتعاطف ويتشاطر مع الآخرين روح المشاركة. أما الثقافة العالِمة، ثقافة المؤسسات، فإنّها الثقافة التي يتناولها الفرد على البارد والتي ينسجم معها تدريجياً – أو لا ينسجم – طبقاً لسلّم من التلقين والتعليم وتسلسل في الرتب والشهادات. وطبقاً لسوق الكتاب والمجلة والصحيفة... إلخ. تقوم الثقافة الشعبية بشكل أساسي على التقليد، أمّا الثقافة العالِمة فإنها تقوم على الأبحاث. لا طموح للثقافة الشعبية في قلب موازين الثقافة السابقة لها، بل قبول وارتضاء بما هو موجود. لا تعتبر الثقافة الشعبية أنها تحمل مهمة محدّدة تقوم على ابتكار نماذج جديدة وقوالب مجددة لما هو معروف وقائم في التراث والتقليد. فالثقافة الشعبية ليست صداميّة بمعنى أنّها لا تحمل مشروعاً محدّداً لقلب الواقع السابق ولتشييد واقع آخر بديلاً له. لا تعتبر الثقافة الشعبية نفسها ثقافة صاعدة يتحتّم عليها محاربة ثقافة بالية ومنحطّة. بل على العكس، تعتبر الثقافة الشعبية نفسها أنها مجرّد مجموعة قوالب للتعبير عن نماذج سلوكية وثقافية واجتماعية على ضوء تجارب الأجداد والأقدمين.   -        ثقافة تتخطى الشعبية: أما الثقافة العالِمة فإنها تفهم نفسها بشكل مختلف وتعتبر، قبل كل شيء، أنّ مهمّة ما ملقاة على عاتقها. وهذه المهمّة هي، باختصار، تخطّي الثقافة الشعبية وتشييد ثقافة جديدة بديلة لها. تتشعّب أشكال الثقافة الشعبية، لكن سقف التجديد فيها لا يتعدّى التنوّع. أما الثقافة العالِمة فإنها تسعى إلى تطوير دائم في أشكالها ومضامينها. عندما يدخل التجديد إلى الثقافة الشعبية تبقى أشكال هذه الثقافة مجال تحركه، حيث إنّ مضامين الثقافة الشعبية هي بمثابة نماذج معرفية ثابتة وموثوق بها. لذلك فالتجديد – إن حصل – لا يطال هنا سوى بعد أشكال التعبير. وتبقى مضامين الثقافة الشعبية بمنزلة نماذج ثابتة وإلى حدّ ما جامدة، بمعنى أنها لا تقبل التحديث. فالملفت للإنتباه، عبر العالم كله، إنّ أشكال الثقافة الشعبية تفضّل الموت والانتهاء كما هي، في شكلها المعروف والتقليدي، على التطوّر وعلى أخذ معنى ومنحى آخر. يتوقّف عيد شعبي معيّن، إن لم يعد يجد من يحتفل به، ويتوقّف العرف الشعبي عن العمل إن لم يعد يجد من يتابعه. لا يسعى إلى تغيير شيء في نفسه، بل يبقى كما هو. فإما أن تأخذه كما هو وككل، وإما أن تبتعد عنه. فالثقافة الشعبية تتميّز بكونها إما قائمة على الشكل المعروفة به وإما ساقطة، لا تعرف الحلول الوسيطة لأنها تقوم على آليات التضامن وعلى مبدأ المشاركة. فعندما يُسقط الجمهور مشاركته تسقط الثقافة الشعبية وتصبح بالية وتتقهقر بسرعة في أذهان الناس. أما الثقافة العالِمة فهي أصلب وأقوى ولا تسقط بالسهولة نفسها وذلك لسببين: السبب الأوّل هو قيامها على جهاز متكامل يرعى شئونها ويهتم بها (أهل العلم والمؤسسات التعليمية) والسبب الثاني هو مناعتها الداخلية، كونها تقوم على التجديد الدائم في أشكالها ومضامينها. علاقة الثقافة الشعبية بالسلطة باردة أو هامشية، في حين أنّ علاقة الثقافة العالِمة بالسلطة متناسقة وبنيوية.   -        ثقافة تقليدية لمجتمع غير صناعي: كانت الثقافة الشعبية التقليدية تنتمي إلى السلطة القائمة في السابق في بلدان العالم ما قبل الصناعي – وحالياً في عدد كبير من البلدان النامية التي لم تدخل بعد الطور الصناعي. جاء انحسار الثقافة الشعبية نتيجة لانحسار النماذج التقليدية التي كانت سائدة في السابق إما بسبب التصنيع (اليابان وكوريا) وإما بسبب سياسات التحديث التي اتبعها حكّام بلدان العالم الثالث، وخصوصاً بسبب التبعية الاقتصادية لنظام الاستهلاك الرأسمالي الذي يستتبع قبولاً بنظام معرفي وثقافي مطابق له. أشكال السلطة المعاصرة لا تتعاطى إلا في ما ندر مع أشكال الثقافة الشعبية بشكل بارد، فإما التعالي على تعابير الثقافة الشعبية انطلاقاً من ذهنية تدّعي الانتماء إلى الحداثة، وإمّا إدخال الثقافة الشعبية في قفص الفولكلور حيث يتمّ تحنيطها ودفنها حيّة. ففي البلدان المصنّعة تتعاطى السلطة السياسية مع الثقافة الشعبية بشكل أبوي، حيث تسمح لنا بالإطالة الفولكلورية عليها (في البلدان الرأسمالية أو بالإطالة الأيديولوجية ولخدمة الأهداف الاشتراكية) (في البلدان الاشتراكية). فالثقافة العالمة، منذ أن نشأت، رافقت السلطة السياسية وكانت دائماً في خدمة هذه السلطة، لكي تستفيد جدلياً من حماية هذه السلطة ومن اعترافها بها، مما يدخلها ويدخل أهل العلم في مصاف أهل السلطة. تنتشر الثقافة الشعبية في الريف بشكل أساسي، في حين أنّ الثقافة العالِمة تنتشر في المدن والتجمّعات المدينية بشكل رئيسي. تختفي البنى التقليدية في المدن الحديثة بسبب وجود السلطة الفاعل فيها وانتشار أجهزة الدولة وخدماتها التي تقضي على أشكال التضامن الآلي، كما لاحظه ذات مرة دوركهايم، لتحلّ محلّها أشكال التضامن العضوي. ولذلك فإنّ معقل البُنى التقليدية هو الريف حيث تبقى المعادلات السياسية القديمة على حالها مدّة أطول وحيث لا تتبدّل الذهنيات سوى بشكل بطيء جدّاً. كما يلاحظه جورج غورفيتش. لذلك فإننا ندرك بسهولة كم أنّ الريف يبقى الحضن الدافىء للثقافة الشعبية ولتعابيرها كافة. ونلاحظ أيضاً كم أنّ الذاكرة الشعبية تعمّر أكثر في الريف حيث تبقى النماذج القديمة حية ومعترف بها ومعتمدة إلى حدّ ما. في الريف تُقام الأعياد الشعبية وترتدي أجمل أشكالها. فالجمهور الذي هي بحاجة إليه والذي يقوم كما أسلفنا على حسّ المشاركة الجماعية القوي، موجود في الريف أكثر منه في المدينة. في الريف تعمّر الأعراف التقليدية وتُعتبر عملة رائجة ومقبولة. وفي الريف أيضاً تجد نماذج السلوك التقليدية ونماذج التذوّق التقليدية أفضل جمهور لها. نمط الحياة التقليدية القائم في الريف يساعد كثيراً على تأمين الاستمرار للثقافة الشعبية، حيث إنّ الحياة الزراعية تقوم على نظام دائري، تتعاقب فيه الفصول بشكل ثابت، دون أن تتغيّر، مما يجعل المزارع يعيش معرفياً في عالم تكاد لا تتبدّل فيه الأمور الحياتية، بل تتكرر إلى ما لا نهاية. حياته تشبه إلى حدّ بعيد حياة أبيه وحياة جده وحياة أسلافه كافة. من هنا، فالمزارعون وأهل الريف يميلون عادة، في كل بلدان العالم، إلى فهم أمور الحياة الدنيا على أنها ثابتة وواحدة ومتكررة بشكل دائري ومغلق، كما في الطبيعة من حولهم. تُفضّل الثقافة الشعبية الانتقال شفوياً، في حين أنّ الثقافة العالِمة لا تثق بالانتشار الشفوي وتفضّل الانتقال الكتابي. تماماً كما تفضل الثقافة الشعبية البقاء في الريف، فإنها تفضّل أيضاً الانتقال شفوياً من جيل إلى جيل. وتعتمد بشكل أساسي في هذه العملية على الذاكرة الجماعية القوية جدّاً في المجتمعات التقليدية كما لاحظه في بداية هذا القرن لوسيان ليفي – بروهل. أفرادٌ يعلّمون أفراداً آخرين مما يتذكرونه من تعابير ثقافية شعبية تنتمي إلى الماضي.. هكذا تنتقل الثقافة الشعبية، كما هي، في قوالبها التقليدية، من جيل إلى جيل. عندما تكون البنية الاجتماعية في حالة تحرّك يومي ومكثّف تنتقل تعابير الثقافة الشعبية في كل مناسبة وذكرى – وما أكثرها. لذلك فإنها تنتقل دون نقصان من شخص إلى شخص آخر بحيويّة. أما عندما تكون البنية التقليدية في حالة تداعي فإنّ ممارسة، ثمّ نقل تعابير الثقافة الشعبية، يصبحان أكثر تباعداً. وهنا يزداد الخوف على هذه التعابير من الاندثار الذي سبّبه انتقال المجتمع من بنية إلى بنية أخرى، مع ما يستتبعه ذلك من اختفاء إحياء هذه التعابير التدريجي وسقوطها في النسيان الفردي ثمّ الأوسع نطاقاً: الجَماعي.   -        الكتاب ذاكرة حيّة: من جهتها تؤمّن الثقافة العالِمة استمراتها من خلال أداة مضمونة هي الكتاب. فالذاكرة أداة غير مضمونة وينتهي مفعولها بانتهاء عمر صاحبها. فكم من تعبير ثقافي شعبي تقليدي اختفى مع اختفاء ممارسه وناقله. تسمح لنا المقارنة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالِمة أن نلاحظ أنّ الحوافز التي وضعتها لنفسها الثقافة العالِمة أفادت الثقافة والعلوم بشكل واسع. فتطوير العلوم سح بالوصول إلى العديد من الاكتشافات التي ساعدت على تخطّي مشكلات كانت مستعصية في السابق. فالتمايز المتعمّد الذي أراده أهل العلم ذات يوم والذي مشى على خطاه الذين خلفوهم كان مفيداً، حيث إنّه سمح بتراكم التجارب وبابتكار تعابير جديدة طوّرت العلوم كافة وساعدتها على أن تتبلور طبقاً لحاجات الإنسان التاريخية. فلو بقيت الثقافة على شكل واحد ووحيد لما تطابقت مع انسانية ووعي الإنسان، ولما تعمّمت أشكال التفكير والاستخلاص والاستنتاج، ولما ساهمت مع الإنسان في تخطّي صعوبات مادية ضخمة كان بدأ يصطدم بها في القرن التاسع عشر وحتى قبل ذلك. فطموح الثقافة العالِمة هو الذي غيّر وجه الكون إلى حدّ كبير عبر تجليّاته المختلفة والمتجدّدة دوماً.►   *عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية   المصدر: مجلة (العربي/ العدد 636 لسنة 2011م)

ارسال التعليق

Top