• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ماذا تغيَّر في سلوك الأجيال العربية؟

د. عادل سالم العبدالجادر

ماذا تغيَّر في سلوك الأجيال العربية؟

◄أجيال ذهبت، ولم يذهب ريحها، وأجيال عاصرت وسايرت، ربطت حبلها بوتد الماضي، فأرادت صعوداً بأهدافها وأمانيها فما ارتقت ولا تطورت، فآثرت نزولاً لروح عصرها فانزلقت وتدلت. وجيل اليوم يلهث وراء جديد المعارف، والجديد منها الآن متغير الوجوه ومبعثر الوجود، سريع الخطى وواسع الشمل أحياناً، عميق ودقيق أحياناً أخرى. جيل الماضي جيل "رومانسي"، بدأ ينحسر، وجيل الحاضر جيل "براجماتي" واقعي في نفعيته، ومستمر في تعنكبه... أقصد كالعناكب، لا تعيش في أُسر أو مجتمعات، كلّ منها يعيش بمفرده. فما الذي أحدث هذا الاختلاف وتلك الفجوة بين الجيلين؟ على الرغم من أنّ مفهوم الفضيلة في العالم العربي لم يتغير، وتربية النفس على فضائلها ومُثُلها العليا ظلت كما هي!

فماذا حلّ بجيل الشباب؟ هل فقد أحلامه، أم أنّه لم يعد يحلم أصلا؟ فكلّ خيال في دنياه عرض محقق، في التاريخ والأدب والعلوم والسياسة، وحين استطاع من خلال التلفاز أن يدخل عالم الحقيقة، الذي لم يره أصلا بأم عينيه، بلداناً وأدغالاً وجبالاً وبحاراً، إذ إن حتى حياة الناس أصبحت بين يديه من خلال برامج تلفازية يطلق عليها "عروض حقيقية Realty Shows"، والحفلات الغنائية والاستعراضية، وأخبار العالم المصوّرة، ووصل الأمر إلى أن تنقل القنوات الفضائية الكوارث والحروب على شاشاتها أوّلاً فأوّلاً. وإن هو احتاج يوماً إلى معرفة شيء ما، فإنّ حاسوبه غني بالمعلومات، قواميس ومعاجم لغة وموسوعات ونوافذ على العلوم والعالم، فهو في نظر نفسه غني عن العالمين والمعلمين والموجهين، وربما الوالدين أيضاً، ما دام بقدرته معرفة أي شيء متى ما يشاء. ما عاد هذا الجيل يلعب! فلماذا يلعب وبين يديه الأدوات والألعاب الحاسوبية، التي لا يبذل معها مجهوداً حقيقياً، سوى التركيز في الوهم؟! من كرة القدم والألعاب الرياضية الأخرى، إلى الرماية وسباق السيارات، وربما المشاركة في الحروب. حتى الشطرنج وألعاب الورق باتت في حاسوبه متاحة، يستدعيها متى ما أراد، ويلعبها مع خيالات أصدقاء وهمه. إنّه يأكل ويشرب وينام حاضناً حاسوبه، ويصحو من نومه معانقاً هاتفه الجوال (المحمول)، ليقرأ ويتكلّم بقلبه، حتى كاد يفقد نطقه. أفي ذلك خير أم فيه شر؟ هل ستستقيم حياة هذا الجيل مع كلّ هذا الرفاه والترف؟ وهل بأيدينا اختراق أسوار العزلة التي شيدها أبناؤنا حولهم باسم الحرّية والاستقلالية الذاتية؟

 

جيل الأمس:

وعندما نتابع جيل الأمس، نراه جيلا أهدته الأيام سبيل مصالحة النفس والزمن، وأهدَتْه رومانسيته عبق الماضي بجمال الذكريات التي ارتبط معظمها بالشعر والأغاني والأدب والتاريخ الجميل، رغم معاناته قلة توافر الحاجات الأساسية والمتطلبات الكمالية. ولكنه جيل استطاع أن يحطم أسوار الحاجة بمعول الأمل، ويتخطى آلامه بالجد والعمل. إنّه جيل لم يجرِ أو يبحث عن السعادة، فقد وجدها داخل قلبه ونفسه. كانت سعادته بطيب العيش والهدوء والسكون، لتعتلي وجهه ابتسامة الرضا، وتقرّ عينه بما هو متاح. جيل أحب الماضي وتصالح مع الحاضر وأمِن المستقبل، على الرغم من عثرات الماضي وأزمات الحاضر وغموض المستقبل. ليس بالأعمار تقاس الأفكار، فالحكمة ليست حصراً على الكبار، والتجديد ليس حكراً على أحد.

جيل الشباب اليوم جيل جميل، ولكنه لا يفرّق بين الخوف وبين الحذر، ولا بين التسرّع وبين الإقدام، ولا يحسب قياس فائدة الأشياء إلّا من خلال حساب فائدته الشخصية أوّلاً، الأمر الذي يجعل أغلب هذا الجيل يدور دائماً في محيط دائرة ذاته.

ولعلّ فقدان لغة التعبير يتصدر جميع العقبات في قدرة الآخرين على فهم متطلبات وطموحات وإنجازات هذا الجيل، فإذا فُقِد استيعاب المفاهيم ضاعت نتائج البحوث والدراسات، وما شابهها من الإبداعات العلمية والعملية. ولذا، علينا أن نسعى أوّلاً إلى اتفاقٍ بين الجيلين على لغة التفاهم، منهجاً وأسلوباً وطريقة، ومن ثم يكون التواصل أكثر فاعلية وأكثر نجاحاً. ولنضرب على ما ذكرنا مثل استخدام الإنترنت في بداية استعمال جيل الشباب لها، لقد صعب على بعضهم منذ البدايات الأولى للتواصل أن يتحدثوا كتابةً (Chatting) في ما بينهم باللغة الإنجليزية، في الوقت نفسه الذي لم تكن فيه ألواح الحروف الحاسوبية (Keyboards) مهيأة لمساحة استخدام الحروف العربية، فأبدع هذا الجيل في التواصل والاتصال بعضهم مع البعض الآخر، باستخدام الأرقام والرموز والحروف الإنجليزية للتعبير عن مراده، كاستخدامه 3 عن حرف (ع) و3 (غ) و6 (ط) و6 (ظ) و7 (ح)، وهكذا... جهلاً وإسفافاً بقواعد وضعها المتخصصون باللغات منذ القرن التاسع عشر في نطق الحروف العربية من خلال كتابتها بالحروف اللاتينية، تلك التي تسمى Arabic Transliteration. إنّ عناء البحث أمر شاقّ، لكن نتائجه أكثر استمراراً وأوسع مجالاً في دعم الإبداع والاستفادة من الإنتاج، أما السهل الهشّ فعادة ما تذروه الرياح فيكون هباء منثوراً. وبمثل هذا جاءت الاختصارات على الأسماء، فبعض الاختصارات ساعد على حفظ المسميات وسهولة كتابتها وفهم نشاطها العام، ونقصد بذلك أسماء المنظمات والمؤسسات والشركات الكبرى، مثل "يونسكو UNESCO"، منظمة الأُمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة United Nations Educational, Scientific and Cultural، و"إياتا IATA"، المؤسسة العالمية للنقل الجوي International Air Transport Association، و"أيوباك IUPAC"، الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقيةThe International Union of Pure and Applied Chemistry، وغير ذلك كثير. ولكن، أن تُختصر بعض الأسماء والعناوين بدافع الكسل أو "التنطع"، أو ربما الجري وراء التغيير اللاواعي من أجل التميّز، أو عدم القدرة على التعبير كأقل تقدير، فهذا أمر يثير العجب.

 

شطط الكتابة الجديدة:

وعندما نتتبع ما هو متداول ومنتشر عبر رسائل الإنترنت بين أبناء هذا الجيل في الآونة الأخيرة، نرى عجباً: "لول" Laughing over Loud يضحك بصوتٍ عالٍ، "أوجي" OJ عصير برتقال، ويصل الشطط إلى كتابة الجملة العربية بالحروف اللاتينية!! وهكذا... ولربما ارتبطت تلك الأنماط الكتابية بغربة الشباب في مجتمعاتهم العربية، وزاد على ذلك التطور السريع جدّاً في تكنولوجيا الاتصالات. لقد أصبحت هذه الأنماط الغريبة إلى حدّ ما لغة التواصل بين أبناء الجيل، لتحل مشكلة اغتراب الشباب في الكتابة. إنّ استخدام الشباب لغة يتميزون بها جعلهم عرضة للانتقاد، ولكن، الانتقاد الأكبر يقع على عاتق المثقفين والمتخصصين في اللغة والتربية، ودورهم في جذب الشباب إلى لغتهم الغنية بالمفردات، من دون تشدق أو تعقيد... أو ألم لفظي. يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه "أدب الكاتب": "وهذا ليس بمحمود، يريد الإيجاز، ولا بمختار في كلّ كتاب بل لكلّ مقام مقال، ولو كان الإيجاز محموداً في كلّ الأحوال لجرّده الله تعالى في القرآن الكريم ولم يفعل الله ذلك، ولكنه أطال تارة للتوكيد، وحذف تارة للإيجاز، وكرر تارة للإفهام".

وأخيراً، لابدّ لنا أن نتعرف لجيل اليوم بنجاح أغلب جهوده في المثابرة والعزيمة على التقدم إلى الأفضل وتحقيق ما لم نستطع، نحن جيل الأمس الرومانسي، أنّ ما نحققه من نجاحات، صعبت علينا وسهلت عليهم جدّاً. حتى ترى اليوم طفلاً يستطيع الدخول على البرامج الحاسوبية بسرعة تفوق سرعة واحد من الجيل السابق. أضف إلى ذلك، أنّ المرأة في هذا الجيل حققت كلّ آمال وطموحات، وحتى أحلام، مثيلاتها من الجيل السابق، في الحرّية والاستقلالية اللتين هيأتاها إلى اتخاذ القرارات الصائبة في مختلف المجالات، فهي حرة في اختيار حقل التعليم الذي تريده واقترانها بالزواج ممن يناسبها، وذمتها المالية مستقلة عن أبيها وزوجها وأبنائها.

كما نلاحظ أنّ هذا الجيل الجديد الجميل قد تحرّر من قيود العصبية والعنصرية، والتفرقة بكلّ ألوانها وأنواعها، في سبيل التعايش في سلام ومحبة.►

 

المصدر: مجلة العربي/ العدد 679 لسنة 2015م

ارسال التعليق

Top