• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مسؤولياتنا اليوم كشبان مسلمين/ ج (2)

أسرة

مسؤولياتنا اليوم كشبان مسلمين/ ج (2)
ذكرنا في الجزء الاول من الموضوع أن مسؤولياتنا اليوم كشبّان مسلمين كما هي مسؤوليّاتنا بالأمس وزيادة. وقد تناولنا بعض هذه المسوؤليات وهنا نستمر في عرض المزيد من هذه المسوؤليات:   5- مسؤوليّة الكلمة الطيِّبة: ليست الكلمات التي نتفوّه بها فقاقيع صابون تطفو على سطح ألسنتنا لتنفجر في الهواء بسرعة.. فالكلمة في الإسلام مسؤوليّة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، رقيب يراقب أقواله في الخير وفي الشرّ، ذلك لأنّ اللِّسان كما في الحديث: "مفتاح خير ومفتاح شرّ". ومسؤوليّة الكلمة تتحدّد في التفكير بها قبل إطلاقها، واختيار الأحسن من بين الكلمات الحسنة الكثيرة، واتِّباع الأسلوب الأمثل في إطلاقها، ودراسة انعكاسها وتأثيرها على مَن يتلقّونها. يقول الشاعر: لطِّف حديثك فالنّفوسُ مريضةٌ **** ومِنَ الكلامِ مُحنِّنٌ ومُجنِّنُ وتلك عمليّة تحتاج إلى شيء من التدريب، فالتسرّع في قذف الكلمات كثيراً ما يؤدي إلى نتائج سلبية وأحياناً وخيمة، والتأنِّي في انتقاء الألفاظ وصياغتها بأسلوب محبّب، غالباً ما يؤدي إلى نتائج إيجابية طيِّبة. يُذكر أنّ (ابن المقفّع) الكاتب الشهير، كان مع حكمته وما لَهُ من فضلٍ وبيان، سليط اللِّسان جريئه، حتى أنّ لسانه وتهوّره قتلاه، حيث قال لوالي المنصور بالبصرة كلمة يمسّ فيها شرف أمّه، ودارت الأيام وإذا بالمنصور يطلب من عاملهِ بالبصرة أن يقتل ابن المقفّع، فقتلهُ وقطعهُ إرباً ورماهُ في النّار. إنّ كلماتنا الجميلة هي مثل الهدايا.. يستحسن أن نقدِّمها مغلّفة بغلافٍ جميلٍ حتى تسرّ الذين نقدِّمها إليهم. يقول الشاعر: ذنبي إليكَ عظيمٌ **** وأنتَ أعظمُ منهُ إن لم أكن في فِعالي **** مِنَ الكرامِ فكُنْهُ! وكلماتنا الناقدة مثل وخزات الإبر.. يفضّل أن لا تكون موجعة للدرجة التي تجرح سامعيها. ففي الحديث: "إذا وعظتَ فأوجز". وبعد حين من المراس والتمرين سيكون لنا قاموسنا الخاصّ في الكلمات المهذّبة والكلمات النقديّة الصريحة، فنحن في الحالين نريد أن نصل إلى عقول الناس عن طريق قلوبهم، ولا يكون ذلك إلا باتِّباع الأسلوب الذي علّمنا القرآن إيّاه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 53). فالكلمات كالبضائع في السوق، فيها الجيِّد وفيها الرّديء.. وعلينا أن نتخيّر (الكلمة الطيِّبة) في لفظها وفي معناها وفي مرادها لتكون رسولنا إلى الآخرين.. وتلك ليست مهمّة سهلة، لكنّها ليست صعبة على مَن يعيش مسؤوليّة الكلمة. والكلمات بعد ذلك درجات (طيِّبات) و(خبيثات). هناك (الكلمة المعروفة) التي درجَ الناس على تقديرها واستحسانها: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5). وهناك (الكلمة اللّيِّنة) التي تخفق بأجنحتها فوق سمع السامعين فلا تجرحهم: (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه/ 44). وهناك (الكلمة السديدة) المطبوخة على نار هادئة، والموزونة بميزان الذهب، والتي تهدف إلى الرشاد والتسديد لخطى السامع: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء/ 9). وهناك (الكلمة الكريمة) بما تحمله من جود وسخاء نفس قائلها، بحيث تثري سامعها إن بموعظةٍ أو توجيه أو تصحيح للأخطاء ونقد للعثرات، أو في ثناء وتشجيع وحثّ وشكر: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) (الإسراء/ 23). وهناك (الكلمة البليغة) التي تبلغ أسماع الناس فتؤثِّر فيهم، فكأنّ قائلها يتريّث كثيراً في تقدير إصابتها للهدف، كَمَن يطلق سهماً وهو مطمئنّ أنّه سيصيب كبد هدفه: (أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا) (الذاريات/ 63). إنّ انتقاء الكلمات الأحسن، واختيار الأسلوب الأمثل في إطلاقها، محاولة وتمرين منّا، وتوفيق وهداية من ربِّ العالمين: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج/ 24).   - مسؤوليّة تنظيف الساحة الإجتماعية من الكلمات البذيئة: وأمّا الكلمات الخبيثة التي تحتاج إلى تمرين آخر في اجتنابها، والإعراض عنها، والهروب منها هروبنا من الجراثيم والميكروبات، فمنها: (كلمة الزّور): وهي الكلمة التي لا أساس لها من الصحة أو هي الشهادة بالباطل: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30)، (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) (المجادلة/ 2). ولكَ أن تعرف كيف أنّ (قصّة الإفك)، التي اتُّهمت فيها إحدى زوجات النبي بعفّتها.. كيف كانت مُلفّقة ومُزوّرة ومُفتراة. و(كلمة التشهير والتسقيط): بما لا يبقي حرمة للآخر المسلم: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ) (النساء/ 148). و(الكلمة المزخرفة): التي لها شكل جميل، وهي إمّا خاوية من الداخل أو تحمل مضموناً قبيحاً: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأنعام/ 4). ومثلها (الكلمة المزوّقة المزيّفة) التي لها رنين ووقع في السمع لكنّها منقوعة بالسمِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة/ 204). و(الكلمة المتأفِّفة): التي يُطلقها الإبن العاقّ أو المسيء بوجه أبويه وكأنّه يصفعهما بها: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) (الإسراء/ 23). فنحنُ في سوق الكلمات، كما نحن في سوق البضائع، لابدّ أن نتخيّر أجودها.. فالكلمة الجيِّدة كالبضاعة الجيِّدة تحتاج إلى أن ندفع من أجلها ثمناً أكبر، لكنّها تدوم أكثر وتترك تأثيراً أكبر، والكلمة السيِّئة أو الرّديئة علاوة على أنّها سريعة التّلف فإنّ لها ضريبتها أيضاً في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة. فإذا كانت الكلمة من نوع الكلمات الطيِّبة، فهي: الهادية، والمرقِّقة للقلوب، والفاتحة للأذهان، والمشجِّعة على فعل الخير، والمعلِّمة، والمربِّية، والمفتِّحة لنوافذ البرِّ والإحسان. وإن كانت من صنف الكلمات الخبيثة، فهي: الجارحة للمشاعر، المخدشة للذّوق، المثيرة للعواصف، المفجِّرة للغضب، الفاتحة لأبواب الشّر. كلمتك إذاً مسؤوليتك، وما دامت في عهدتك وتحت طيّ لسانك فأنت قادر على التحكّم بها، فإذا خرجت صارت في عهدة الآخرين وعليها تترتّب النتائج السلبية والإيجابية. وكشباب، ما زلنا نتعلّم درس الكلمات في مدرسة المسؤوليّة ستواجهنا كلمات: الوعد والعهد والتعليم والوعظ والدّعوة إلى الله والتأييد للعدل وللحقِّ والرّفض للباطل وللظّلم.. وهي كلمات تحتاج إلى الصِّدق أوّلاً. فعلى سبيل المثال فإنّ كلمة (الوعد) مسؤولية، فأنت حين تعدني بشيء لابدّ أن تفي به، ذلك أنّ "المؤمنُ إذا وَعَدَ وَفى"، وكما قيل في الأمثال: "وَعد الحرِّ دَيْن".. ولنتذكر دائماً أن كلمة (نعم) ليست سهلة كما نظنّ. قال الشاعر: إذا قُلتَ في شيءٍ: نعم فأتمّهُ **** فإنّ نعم دَيْنٌ على الحُرِّ واجبُ وستواجهنا كلمات: السخرية والإستهزاء والإنتقاص والتّجريح وإثارة الحساسيات والتناقض والإفتراء والمداهنة. وهي كلمات شائعة للأسف يتداولها بعض الناس غير ملتفتين إلى أنّها تشبه الشرارات التي تشعل الحرائق، أو المعاول التي تهدم البيوت، أو المطارق التي تكسر القلوب. كلمتك صوتك.. هي أنت.. فلا تتبرّع بها بالمجّان.. ولا تجعلها السّفلى في تأييد باطل هنا ومنكر هناك. كلمتك ليست نبرة صوتك أو أحرفاً تائهة.. إنّها مسؤوليّتك.   6- مسؤوليّة العمل: إذا كانت مسؤوليّة الكلمات والأقوال هي هذه، فكيف يا ترى تكون مسؤوليّة الأعمال؟ نحن أتباع دين يريد لنا أن نقرن (القول) بـ(العمل).. وأن لا تكون كلماتنا فضفاضة أوسع من حنجرتنا، وأكبر من حجم قدراتنا، ولا تلتقي بأقوالنا من أيِّ طريق: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة/ 44)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3). فلو أنّك وجدتني أتحدّث عن قيمة الصِّدق وأثره في إشاعة الطمأنينة بين الناس، وحين تصحبني تجد لي كذبة هنا وكذبة هناك، فكيف سيكون انطباعك عنِّي؟ ستعتبرني منافقاً أو متناقضاً أعيش الازدواجية بين كلمتي وبين موقفي، ممّا يدعوك إلى النفور منِّي، وقد تتقلّص الثِّقة وتنعدم بيننا جراء ذلك. إنّ الفتى الذي غرقَ في المرّة الثالثة بعدما كذب على أصدقائه أنّه يغرق في المرّتين السابقتين، كان كذبه هو الذي تسبّب في غرقه، فهم عندما هرعوا لنجدته في المرّة الأولى والثانية، كانوا يظنّونه صادقاً.. إنّه هو الذي خانهم في المرّة الثالثة ولم يخونوه أو يخذلوه أو يتردّدوا في نجدته. والمسلم الذي يحمل فكر الإسلام ولا يعمل به، يصدق عليه تشبيه: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) (الجمعة/ 5)، إذ ما فائدة مكتبة فيها كتب قيِّمة يحملها حمار؟ إنّه يتحسّس ثقلها على ظهره لكنّه لا يشعر بثقلها المعرفي في عقله وقلبه وحياته. ولعلّ الذين يقولون إنّ العمل هو أفضل أسلوب للتأثير محقّون، فالأعمال عادة تتكلّم بصوت أعلى من الأقوال، ولذا جاء في الحديث: "كونوا دُعاة للناس بغير ألسنتِكُم، حتى يروا منكم الورع والإجتهاد والتقوى، فذلك داعية". وكلمة (فذلك داعية) دلالة على قدرة العمل الخارجي على التأثير. يُحكى أنّ عالماً كان يُحاضر في جمع من الناس، فطلبَ إليه أحدهم أن يُخصِّص حديثه في المرّة القادمة عن مساعدة المحتاجين، فوعدهُ لكنّه لم يتحدّث في الموضوع إلا بعد عدّة أسابيع، وحينما سألهُ المُقترح لماذا تأخّر عن طرح الموضوع، فقال له: لأنّني لم أتمكّن خلال الفترة الماضية من مساعدة المحتاج، فأجّلتُ الموضوع حتّى أتمكّن من أن أسدّ حاجتك أو حاجة غيرك، لأنّني لا أحب أن أتحدّث في موضوعٍ ولا يجد الناس له صدقيّة عندي. فأنت مثلاً تقرأ في كتاب الله الكريم: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105)، فهل تغلق سمعك عن النِّداء وكأنّ الأمر لا يعنيك؟ ألست المسلم الذي يقول الخير ويعمل الخير؟ وكما أنّ اللّغو واللّهو والثرثرة والتصرّفات اللامسؤولة ضيّعت من طاقات شبابنا الكثير، فإنّ الخمول والكسل والتقاعس والإسترخاء الطويل أخسرنا من طاقاتهم أكثر وأكثر. ولذا، ففي موسم العطاء (مرحلة الشباب) نحن مسؤولون عن كلِّ عمل ينفع الناس ويكون لله فيه رضا، وأن نقول قليلاً ونعمل كثيراً، وأن نجانس بين أعمالنا وأقوالنا، حتى يرى الناس منّا الصِّدق. قيل إنّ تاجراً تعرّض متجرهُ لحريقٍ ودمّر له أمواله، فاجتمعَ إخوانهُ من التجّار، وأظهروا له أسفهم وحزنهم على ما أصابه، وكان كل متحدِّث منهم يُخاطبهُ: إنّني أشاطركَ الأسى في مصابكَ الأليم، إلى أن قام شخص وبيده كيس نقود، وقال: إنِّي أشاركك مصابك العظيم بعشرة دنانير، والتفتَ إلى مَن كانَ جواره وسأله: وأنتَ بِكَمْ تُشارِك؟ فقال: بعشرة، ثمّ فُتح باب الإكتئاب، فاجتمع للتاجر المنكوب مال عوّضه عن بعض خسارته. هناك لعن كثير للظلام يتفشّى بين الشبان وبين الأكبر سنّاً، ولكنّ القليلين هم الذين يشعلون الشّمعة.. فكن من هؤلاء الذين يُقلِّصون الدوائر السوداء ويفتحون ويوسِّعون الدوائر البيضاء، إنّها مسؤوليّة الحياة المسلمة.   7- مسؤوليّة التّفقّه في الدِّين: التفقّه في الدِّين مسؤوليّتك كشابّ منذ أن تطأ قدمك ساحة البلوغ. وهي مسؤوليّة تتطلّب التعرّف على حلال الله وحرامه في شؤون الحياة كلّها. إنّ الثقافة الفقهيّة ليست حاجة كماليّة بل هي حاجة أساسية، على اعتبار أنّها تحدِّد لك موقفك الشرعي من الأحداث والسلوك والمعاملات والعلاقات، ذلك أنّ الشريعة هي قانون الحياة الإسلامية ودستورها، وأي جهل بالقانون يؤدِّي لا محالة إلى عدد من المخالفات التي تضرّ بالمخالف نفسه من جهة وبمَن يتعامل معهم في المحيط الاجتماعي من جهة ثانية. فالحلال ما سمحت به الشريعة ورخّصت العمل به، والحرام ما لا تجوِّز فعله، فهو خط أحمر. والحلال أوسع دائرة من الحرام.. وما حرّم الله شيئاً إلّا وفيه ضرر وأذى، وما أحلّ شيئاً إلّا وفيه نفع ومصلحة، سواء عرفنا النّفع هنا والضرر هناك أو لم نعرف. والشريعة الإسلامية هي أشبه بإشارات المرور في الشوارع الحياة.. منها ما هو أخضر يفتح المجال للحركة بشروط، ومنها ما هو أصفر يدعو للتوقّف والتريّث، ومنها ما هو أحمر يمنع الحركة ويجمِّدها، ومنها ما هو مفتوح بلا قيد ولا شرط. والمسؤوليّة الشرعية تتطلب منِّي كشابّ أن لا أقدِّم رجْلاً ولا أؤخِّر أخرى إلّا في معرفة: هل هذا يُرضي الله أم يُسخطه؟ هل هذا ما أجازه بحدود أم لم يجزه مطلقاً؟ هل يكره لي أن أفعل ذلك أم أنّه يستحبّ، أم أنّه مباح؟ إنّ الطريق إلى هذه المسؤولية يمرّ عبر الرّجوع إلى الأمناء على الشريعة ممّن وثق الناس بعلمهم وبدينهم وبأخلاقهم ممّن يستنبطون أحكام الحلال والحرام من مصادرها الشرعية المعتبرة. حيث يمكن الإستفادة من كتب الفقه الميسّرة، أو المواقع الإلكترونيّة لعلماء وفقهاء مرموقين ومشهود لهم بالعلم والفقاهة، ومن المجامع الفقهيّة ذات السّمعة الطيِّبة. ثمّ إنّ السؤال عن كلِّ ما يعترض طريق الشاب من أمر لا يعلم هل هو ممّا يقع في دائرة رضا الله أو خارج تلك الدائرة، يقلِّل من احتمالات الإنزلاق في مطبّات المخالفة الشرعية والوقوع في الإثم والمعصية. هناك فرق بين فتاة تُقدِم على السّتر الشرعي (الحجاب) وهي متفقِّهة بالدِّين، أي تعرف أنّ الله تعالى أمر به، وأنّ التخلي عنه معصية، وبين فتاة ترتديه وهي تُراعي العُرْف الإجتماعي الذي يعيب على البنت البالغة أن تبقى سافرة؛ لأنّها إذا انتقلت إلى مجتمع أكثر انفتاحاً وتساهلاً، فربّما ستتخلّى عن سترها؛ لأنّها لم ترتديه عن قناعة عقليّة. كما أنّ هناك فرق بين شابّ يلتزم الموقف الشرعي من العمل في بار تُباع فيه الخمور، فلا يقبل حتى ولو لم يجد عملاً، وبين آخر يتحلّل من المسؤوليّة، فيقول: أنا لا أشربها، أنا أقدِّمها فقط. هذه وغيرها من الأمثلة، ليست خاضعة للذّوق والمزاج والرأي الشخصي.. هذه مسائل تحتاج إلى (استشارة فقهيّة)، كما أنّ المرض الذي يصيبني ولم يسبق لي أن تعاطيتُ الدّواء المُشافي له، يستدعيني أن أرجع إلى (استشارة الطبيب). لقد سادت النظرة إلى أنّ التفقّه في الدِّين يعني: التعرّف على مسائل الصلاة والصيام والزّكاة والطهارة، ونسيان ما عدا ذلك من حركة الشريعة في مدار الحياة كلّها، حتى جاء في الحديث: "ما من واقعةٍ إلا ولها حكم". كما أنّ التفقّه بالدِّين أخذ معنى أوسع من المعنى الدارج فهو: (وسيلة لإصلاح المعتقدات والأخلاق والأعمال، والإنسان من خلال معرفته بالدِّين يتمكّن من التّفريق بين العقيدة الصحيحة والخرافات، وبين الفضائل والرذائل، والخير والشر، ومن ثمّ فإنّ التفقّه في الدِّين يعني معرفة طريق السعادة في جميع الشؤون المادِّية والمعنويّة. فالتفقّه بالدِّين بشكل جامع وكامل هو اساس سموّ وتكامل الإنسان، وطريق للوصول إلى أعلى درجات الإنسانيّة. عن موسى بن جعفر (ع): "الفقهُ مفتاح البصيرة، وتمامُ العِبادَة، والسّببُ إلى المنازِل الرّفيعة"(*). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) الأفكار والرّغبات بين الشيوخ والشباب، محمّد تقي فلسفي، ص 309.

ارسال التعليق

Top