• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معنى المظلومية في ساحة كربلاء

عمار كاظم

معنى المظلومية في ساحة كربلاء

إنّ المظلوميّة والمأساة نوعٌ من أنواع البلاء والامتحان، الذي يُعتبر من السُّنن الإلهيّة الجارية على الخلق، والتي من شأنها تحقيق أهداف إلهيّة في هذا الوجود، سواء على مستوى الكمال الفردي؛ باعتبار ما للمظلومية أو البلاء ـ بشكلٍ عام ـ من أثرٍ فعّال على مستوى تربية الفرد وبنائه نفسياً؛ ليكون محلاً لفيض الرحمة والهداية الإلهيّة، أو على مستوى الكمال العام؛ باعتبار ما يحقّقه الفرد أو الجماعة الداخلة في هذا الاختبار، والناجحة فيه من أن يكونوا الأُسوة الحسنة للمؤمنين في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة، أو الحفاظ عليها بمستوى من المستويات. إنّ المأساة والمظلومية الحقّة دائماً ما لا تقف عند حدود مكانها ولا زمانها، بل لها القدرة الكامنة لتصل إلى أبعد مدىً يمكن أن تصل إليه، وهو أمرٌ حريٌّ بالتدبّر؛ فمن المؤكّد أنّ للمأساةِ انطلاقتين: انطلاقة في زمانها التي تتعرّض من خلاله للصعوبات، والنفي الدائم، والمظلومية، وتنتهي دائماً بخسران كثير من أفراد الثورة، إلّا أنّ الانطلاقة الثانية هي الكفيلة بإحياء الأُولى وإعادتها إلى الواجهة، حين تتحوّل إلى قضية إنسانية، فتصيرُ قضيةً عامّةً تتبنّاها البشريةُ بمختلف قومياتها وأطباعها وديانتها، فتتحوّل من إطارها المحدود إلى قضية عالمية.

إنّ عالمية المأساة ليست إلّا دغدغةً لمشاعر الإنسان، حين لا يكون هناك جامعٌ مع الإنسان الآخر إلّا الإنسانية وحدها، وهنا لابدّ من ملاحظة: إذ لا يعني ذلك نبذ كلِّ مشتركٍ بين الإنسان والإنسان الآخر، والتواصل معه عبر الإنسانية وحدها، فللدِّين موقعيةٌ في نفس الأفراد، تجعل الانجذابَ للآخر المشترك معه في ذلك الدِّين أقوى حِراكاً وفاعلية، فالأُخوّة في الدِّين هي أسمى أُخوّة يمكن أن تُحرّكَ الإنسان تجاه أخيه الإنسان، والدِّين أقدر على تحريك الإنسان تجاه الآخر؛ لأنّه يجد نفسه مسؤولاً عن مناصرة الحق، غير أنَّ الرّابط الإنسانيّ لا يمكن أن يحدّه دِين، فلا يهمّ الإنسان المتديّن لأمرِ مَن لا يَدينُ بدينه، وهو ما صَرّح به أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام): «فإنّهم (الناس) صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق».

لقد أثبتت المأساة قدرتها على تحريك الإنسان ليتجاوب معها تجاوباً فاعلاً، فتتحوّل المأساة من أُفقها الضيِّق إلى قضيةٍ عالمية، هذا الأمر ينطبق على كربلاء وأحداثها، والمظلومية التي وقعت على أهلها، حيث بدت صحراء كربلاء لغةً خضراء، تتناقلها الأقلام والألسن بمختلف قومياتها وطوائفها ودياناتها، لتغدو مأساةً إنسانيةً عالميةً، بعد أن كانت حِكراً على تلك البقعة الرَّمضاء النائية. إنّ عاشوراء كانت حركة على مستوى الذهنية الإسلامية التي يريد أن يطلقها باتجاه قضايا الحرّية والعدالة. إذا ما أردنا عاشوراء إسلامية متحرّكة، فيجب الانطلاق على أساس أن تبقى عاشوراء لله ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللإسلام، وأن تبقى عاشوراء في كلّ الأجيال صرخة الحرّية والعدالة، عندما ينطلق الذين يستعبدون الناس ليفرضوا عليهم العبودية، أو الذين يظلمون الناس ليفرضوا عليهم الظلم، فإنّ هذا هو طريق عاشوراء.

من أهمّ الوسائل التي تُمهِّد الأرضية لتسلّط الظالم على الناس هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ من طبع الإنسان إذا تعدى تعدّياً بسيطاً، ولم يواجه نهياً صريحاً عن هذا التعدّي، ولم يتّضح له مدى شناعة فعله؛ عند ذلك سيستسيغ ذلك التعدّي ويستصغره، باعتبار أنّ الناس لم تستنكر عليه فعله، وإذا استساغ ذلك، تعدّى تعدياً أعظم منه، حتى يتسلّط على الناس، وبذلك يشيع الظلم بينهم، بخلاف ما لو استنكر الناس عليه ذلك، ونهوه عن فعله؛ فسيكون هذا الاستنكار منهم رادعاً ومانعاً عن تكرار ذلك الفعل منه، وبذلك سينتهي عن التعدّي على الآخرين. إذاً؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الوظائف التي إنْ تركها الناس تسلّط الظالم عليهم، فترك هذه الوظيفة العظيمة يُمهِّد السبيل، ويُوجد الأرضية المناسبة لصناعة الظالم، فيكون وجود ظالم ومظلوم من النتائج الطبيعية لترك هذه الوظيفة. وهذا الأمر كان عاملاً مهمّاً في إيجاد الظالمية والمظلومية في كربلاء؛ حيث ابتُليت الأُمّة في ذلك الوقت باللامبالاة في الدِّين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُشير إلى هذه الحقيقة قول الإمام الحسين (عليه السلام): «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً». حملت ـ مأساة كربلاء ـ في صفحاتها من معاني وصور المظلومية والاضطهاد والقهر ما لم تره العيون إلّا فيها، وانطلاقاً من حجم المظلومية والمأساة يُلاحظ بأن النصوص المحيطة بفاجعة كربلاء قد امتلأت بعبارات ومعاني الظلم والمظلومية.

تؤكّد الأحاديث والنصوص الدينية على أنّ الأُمّة الإسلامية ـ بل الإنسانية بأكملها ـ هي التي تتحمّل مسؤولية الظلم والاضطهاد الذي تعرّض له الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيرته وحركته الإصلاحية. فالإنسانية بكافّة ألوانها وأطيافها بين ظالم للإمام الحسين (عليه السلام) أو راضٍ بظلمه وساكت عنه، وبين رافض متضامن وزائر وثائر مُطالب بدم الحسين (عليه السلام)، ولا مجال للحياد أبداً، فإما مع أو ضد. ينبغي أن تبقى مسألة التوظيف لثقافة المظلومية وآلياتها من الملفات المفتوحة، والمتحرّكة في مُجمل متغيّرات واقعنا الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي وأمثال ذلك، فالمظلومية الحسينية من المظلوميات العالمية النابضة بالحياة، والمؤثّرة في الوجدان الإنساني بشكل عام، ولا معنى لحبس هذه المظلومية الخالدة وتطويقها في دائرة مذهبية أو دينية معيّنة؛ وذلك لأنّ أهدافها ومبادئها وغاياتها السامية، التي قامت من أجلها، كانت عامّة وشمولية وواسعة بسعة الإنسان على اختلاف ميوله توجّهاته الدينية البشرية.

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يقول في توصيف معالم هذا اللون من المظلومية: «إنّ الدُّنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها واستمرّت جدّاً، فلم يبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً». ويقول أيضاً (عليه السلام) في كلمته المشهورة: «وأنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب». ومن هذا المنطلق؛ تُصبح ثقافة التوظيف الديني والأخلاقي للمظلومية الحسينية في واقعنا معناها: وجوب وقوف المظلوم بوجه الطغاة والظالمين والمفسدين بكلّ اباء وحرّية؛ للدفاع عن الدِّين بجميع فصوله وأُصوله وفروعه، وقِيَمه وشعائره وقوانينه، وأهدافه وغاياته.

ارسال التعليق

Top