• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خلق الموت والفناء.. وتفرد الخالق بالبقاء

د. عائض القرني

خلق الموت والفناء.. وتفرد الخالق بالبقاء
◄الموت هو الوقوف على ساكن، وإعلان الخاتمة، نذير النهاية، الموت مخلوق غامض، شجاع يتسلق الجدران، ويصعد الحيطان، لا يحتمي منه بقلاع، ولا يمتنع منه بحصون: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء/ 78)، واقف في الطريق بالمرصاد: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (الجمعة/ 8)، زائر لا يستأذن، وضيف لا يعرف المجاملة، الناس عنده سواسية، الثري واسع الغنى كالفقير المتهالك، ليس له وقت في الزيارة معلوم، وليس له زمن في اللقاء مفهوم، مزاجه عجيب، ونبؤه غريب، يدلف في السحر، ويقدم في الظهيرة. يا نائم الليل مسروراً بأوله **** إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا الموت ينزل الراكب من على ظهر البعير، ويرجل الفرس من على صهوة الفرس. لا يرجئ الجائع حتى يشبع، ولا الظامئ حتى يروى، ولا النائم حتى يستيقظ، ولا المسافر حتى يقيم: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف/ 34)، قيس بن ساعدة عنده كباقل، وحاتم لديه كمادر، وعنترة في حكمه كأبي حية النميري، قدم على الخليل والنمرود، وزار موسى وفرعون، واختطف بلالاً وأمية بن خلف، إذا تمت ليلة العرس، وحفلة الزواج، ومهرجان الأفراح، وضرب دف الطرب، ولعلع صوت الأنس، وأضيئت مصابيح السرور، فاجأ الحفل يقبض العريس، وأبكى الحضور، ونغص السمر، وكدر السعادة، وجدد العويل، وقلب الفرح إلى ترح. إذا اجتمع الوالد بولده، وأنست الأم بأبنائها، وطاب اللقاء، وحصل الوصال، وعم البشر، دخل فجأة فأخذ الأب، والتقم الأُم، وحمل الابن ليضعه في حفرة الموت، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمه، وهو يصيح وأمه تولول وأبوه ينوح، فلا يرحم ولا يقف ولا يراجع نفسه، إذا حاز التاجر تجارته وأحرز بضاعته وجمع ماله وعدده، وظن أنّ ماله أخلده، قفز عليه الموت من نافذة القدر، فوضع خده على التراب، ونثر دنانيره، ومزق أكياسه، وعبث بدوره، وعطل قصوره. إذا ولي صاحب المنصب منصبه، وسعد بمنزلته، وتساقطت عليه أوراق الحظ وخطابات التهنئة، وبرقيات التبريك، سقط الموت على رأسه فجأءة، فقلب كرسيه وسحب سرسره، فحول الهناء عزاءً، والفرح ترحاً، والعطية بلية. إذا استوى الشاب على سوقه، وصلب عوده، وقوي متنه، واهتزت كتفاه، وترنح عطفاه، طرحه الموت أرضاً، فبقر بطنه، وجدع أنفه، وفقأ عينيه، ودق جمجمته، وحطم عظامه، وهلهل أسنانه، ومزق لسانه. الموت يصرع الشجاع والسيف في يده، وخوذته على رأسه، لا الكريم يشفع له جوده، ولا البخيل يمنعه إمساكه، ولا المقدام يذوذ عنه بأسه، ولا الجبان يحصنه فراره. الموت لا يستحي من الكل، ولا يرهب الجميع، ولا يوقر الأحياء: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (الرحمن/ 26). يموت الكل إلا واحدا، ويذهب الجميع إلا واحداً (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص/ 88). الموت قذيفة لا يدري من أين تأتي، مرة من فوق، ومرة من تحت، تارة من اليمين، وأخرى من اليسار. الموت ينزع العينين، ويشق الشفتين، ويفصل الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من الكتفين، فمهمة الموت نثر المنظوم، وهدم البناء، وطمس الجمال، وتفريق المجتمع، الموت دمع وعويل وأسىً ولوعة وأسف، الموت وداعٌ إجباري وهجوم خاطف، واقتحام مأساوي، هدد الله بالموت اليهود فتعلقوا بأذيال البقاء، وناداهم: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 94)، احتمى الملوك بالجنود فنجوا إلا من الموت، اتفق المريض والطبيب وصانع الدواء وبائعه وصارفه على خطة يسلمون فيها من الموت، فماذا حصل؟ مات المداوي والمداوى والذي **** صنع الدواء وباعه ومن اشترى الموت لا شماتة فيه لأنّه عام لا خصوص له، مطلق لا يقيد، حر وليس بعبد، أنزل آل كسرى في الحفر، وسحب سيف ذي يزن من غمدان، وبطش بالمناذرة، وداس الغساسنة، هجاه الشعراء فجعلهم أثراً بعد عين، وحذر منه الخطباء فجرهم من على المنابر، ووصفه الأطباء فقتلهم بعقاقيرهم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنعام/ 61-62). خلق الله الموت ليبقى وحده، وأوجد الفناء ليرث أهل الأرض والسماء، وكتب الهلاك على الكائنات ليكون المتفرد بالملك عن جميع المخلوقات. (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (مريم/ 40)، تحدث عن الموت بصفته من قدر الله، وفيه على الفرد مصيبة، وعلى الجماعة رحمة، فكيف لو بقي من مات؟ كيف يكون عيش الناس؟ كيف لو أن كل ابن تمنى أن أباه لم يمت فما مات، كم سنجد من الآباء والأجداد الأكابر الذين هم بحاجة إلى رعاية وعناية فالموت فيه راحة للأموات والأحياء. المصدر: كتاب العظمة

ارسال التعليق

Top