• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سلطة العدالة وقضاء الخصومات

حسن التُّرابي

سلطة العدالة وقضاء الخصومات

أصول العدالة
إن فطرة الإيمان بالله قيّوماً على العالمين خالقاً لبني الإنسان من نفس واحدة منعماً عليهم بطاقات الكون المسخرة، تلهم قوام علاقات الناس على أساس المساواة والسلام، ليسعوا في الأرض جاهدين يكسبون المتاع حامدين الله على فضله، وليصلحوا ذات بينهم عوناً وعدلاً ولا يفسدوها عكساً وعدواً. لكنهم يدركون بالفطرة أنهم متبلون في الحياة الدنيا بعالم مشهود محدود نفوسهم مطلقة الهوى هلوعة، فما لم يتذكّروا الغيب ما كسب بعضهم خيراً إلا ذهب بهم الطمع نحو المزيد العاجل، ولو عدواً على حق الآخرين، أو ذهب بهم الجشع إلى قبض كسبهم دون غيرهم بلا تعاط تفضلاً ولا تعارض عدلاً، وإذ لم يبلغوا مطامعهم أو كُفاهم، لم يمضوا صابرين على الحرمان بل جزعاً إلى العدوان على الآخرين، يستلبون لا يأخذون طوعاً وسلماً أو عوضاً وعدلاً. لكن معرفة الله مقدّر الكون ومسخّره ومصرف البلاء بالدنيا لأجل وملك يوم الدين، عظةٌ ونذير للناس أن يقيموا موازين العدل وألا يظلموا، لأنهم راجعون إلى القضاء عنده تعالى بالحساب الذي يسوّي بينهم، وتذكرةٌ وبشرى بالأجور على ما يصابرون من نقص في حفوظ المكاسب، وقدر في داني طبقات المجتمع، أو ما يشكرون من فيض النعماء فيبسطونها معاملة ومهاداة مع الآخرين. ولئن بدت للناس ظواهر النزاعات البشرية فيهم أن تتّخذ قواهم المتفاضلة أثناء عضل وآلات سلاح وتدابير كيد لإنفاذ الظلم والبغي بينهم، بدوافع الطمع الجزع، تلوح لهم بالفطرة وهديها ضرورة التوالي عباداً لله، والتناصر لإقامة ميزان بسلطان حاكم بينهم، وقاض يكف المظالم ويردها ويحفظ العدالة.
وقد أوحى الله كتباً مرسلة منزلة إلى الناس متصادقة موحّدة تدعوهم إلى عقيدة دين تذكر وتزكّي المفطور فيهم من الإيمان بأصول الهدي العدل، وبمغازي البلاء وعواقبه في الآخرة، وتعلّمهم شريعة تُصلح سيرتهم في الحياة وتضع لهم موازين تصريفها وتنيرهم من الجهل، وتهديهم من الضلال حتى يتبينوا مداعي الاختلاف والظلم ومعايير القسط بين الحقوق، وحدود الوقف عند الحرمات ومقاسم الحق بين الأنصبة. وتعاليم الشريعة هُدَىً يقوّم دوافع الوجدان وضوابطه لكل المؤمنين ليتعايشوا متسالمين على سواء وعدل منكفّين عن البغي والعدوان، وهي مواعظ وبشائر عامة تذكّر العواقب في الغيب صرفاً للهلع والجشع والطمع والعدوان ودعوة إلى التقوى والصبر والشكر والمؤاخاة والمراحمة، وهو ترقية لأخلاق سلوك المجتمع كله كيف يتعارفون ويتناصحون ويتعاونون على طيب المسالك، ويتناهون ويتضاغطون بحافز المحامد ورادع الملامات، تدفعهم للزهد والصبر في التواضع والتعاقد والتجامل الطيب، وتعصمهم من التدافع والتظالم والجناية والخيانة في ما بينهم. والشريعة تعزز واقع هواديها إلى العدل ونواهيها عن الظلم، وصية للمؤمنين أن يصوبوها تفصيلاً إلى كل شعاب الحياة التي تصرفها الابتلاءات وتكيّفها العلاقات، وذلك بتفقه مبادئها اجتهاداً ترشد به البصائر لتبلغ كل منازل الحياة، وتتزكّى التقوى لتطهر كل المواضع، ثم توصي بالشورى التي يتواصل بها اجتهاد الرأي، ويتضاعف العلم المتبادل، وتتبارك الحياة العامة فتتكثّف المنصاح والأعراف الاجتماعية المعهودة اللازمة. والشريعة من بعد تُقوّي وقع هديها في النفوس وفي المجتمع تكليفاً بقُومية حاشدة ضابطة محيطة مسيطرة من علٍ تدور فيها بين جمهور المجتمع شوراه، ويرتفع إجماعه بنهج مرسوم ويقوم عليه سلطان ببناء منظوم تتنزّل منه أحكام شرعهم وأمرهم بقوة نافذة تبسط العدل وتصد الظلم فعلاً في الواقع.
وتقوم في إطار السلطان أنظمة شورى تستمد الرأي من هُدَى الشريعة الخالد، ومن مادة الرصيد المتوافر من الفقه المستنبط من أصولها، ومن عبرة العلم بسيرة ابتلاءات الحياة الماضية ضوءاً على القادمة، فتصدر عن ذلك عموم أحكام لمدى من المواقع والأحيان. والعموم في أحكام الشورى أنها تقع أوساعاً يضيق مداها درجاً صدوراً من أعلى أصعدة السلطان إلى أدناها، والعموم كذلك أنها تسري أمدية آجالها درجات، لكنها كلها تتجه نحو المستقبل تنظم منظور الحياة ليأتي على الخطة المشروعة والرسم الموضوع. وسواءً في ذلك العموم مدى وأمداً ما تجسده حياة جمهور المجتمع إيماناً والتزاماً، بعموم نصوص الشريعة الخالدة، أو ما يصدر من التشاور برأيه الذي يتوافق فيخرج إجماعاً يوقع هدي تلك النصوص حكماً على خصوص المعهود والمعاصر من الحياة، أو ما يفوّضه ذلك الجمهور إلى من يمثّله في أنظومة نيابية تتشاور فتصدر تشريعات عامة تفصل ذلك الهدي الأعلى على الواقعات الحاضرة، أو ما يتفرّع تأسيسه على ما سبق من أنظومة أميرية بأصعدة متدرّجة من قمتها إلى أدناها من الإدارات تشرّع أحكاماً أكثر تفصيلاً لتلك التشريعات الأعلى الأعم بأوامر تعمّ وقد تخاطب أحوالاً أو أفراداً، لكنها لا تخص عين الموقع بل قد تتجاوزه إلى أي متنزل آخر لحكم الأمر توالياً على مثله في الكيف والحيث الذي يتقصده الأمر.
ذلك العموم في حكم الشورى بالإجماع والتشريع والأمر خطاباً لكل الناس أياً من يوافي الحيث المنصوص وتوجهاً لمستقبل الحوادث متى وقعت مطابقة للكيف المقصود يتميز عن حكم القضاء. فالقضاء يتولاه من في أنظومة من السلطان لكنه لا يدبّر لواقعات مجملة منظورة، ولا يخاطب أعياناً مجهولة، بل هو تشريع حكم منقلب على حادثة ماضية تتنزل على مخاطب بعينه. فهو يخصّ ولا يعم، يحكم في الشأن المخصوص المعنى ويقضي لعين الخصم أو عليه. وإذا نُوسب إلى مفعول الأنظومة التشريعية، هو مثل نسبة القضاء إلى القدر. فالله القادر في الأزل الغيبي المطلق يقدر كل شيء تقديراً، وحيثما ومتى أمر الله المقدَّر أن يكون كان في سياق الوجود المكاني والزماني واقعاً مقضياً وأمراً مفعولاً، إذ انقضى تقديره عند ذلك الأين والأجل، ووقع مقدوراً على فعله عين المقضي به. لكن ما يقضي به الله قد لا يكون قدراً طبيعياً يتنزّل مفعولاً واقعاً طوعاً أو كرهاً، بل قد يكون شرعاً للإنسان أمراً نازلاً من الأزل بالوحي، لينظم حياة بني الإنسان ما آمنوا به طوعاً. فمن حيث النسبة يصبح لهم كأنه قدر أعلى، يقضون هم به ينزلونه تديّناً وإسلاماً على واقعهم الأدنى في عهدهم وحالهم. وذلك التنزيل منهم قد يكون تخطيطاً وتشريعاً يقدّر المنظوم من وقائع المستقبل، فإذا انقضى أجل فأوقعوه فعلاً، أصبح حكماً قضاءً ينفذ في خصوص الواقع ويخاطب عين المعني به، ويقضي بذات التكليف المقدّر في التشريع أمراً مفعولاً. فالوجود الطبيعي للكون موحّد تنتظم تراتيبه وتتّسق من أعلاها إلى أدناها درجات أسباب وتجلّيات أقداراً وأقضية على التوالي. هكذا جاء التقدير لخلق السموات والأرض واقعاً قضاءً حتماً في أيام: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة/ 117)، (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 96)، (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (فصلت/ 12)، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (المرسلات/ 22). وهكذا جاء الشرع قضاءً مكتوباً يخاطب البشر طوعاً لا كرهاً، بعد تقدير الخلق والابتلاء والتكليف والمسؤولية ليتحّد به المؤمنون مع الطبيعة الطائعة ولتتحد بذلك حياتهم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) (الإسراء/ 23)، (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 3). ويجيء يومَ القيامة الحسابُ والجزاء قضاءً بحكم الله أحكم الحاكمين: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام/ 57؛ على قراءة "يقضي")، (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الجاثية/ 17).
وكلّفت الشريعة المؤمنين طوعاً أن يُنزلوا أحكامها المشروعة درجات بالحكم تشريعاً وأمراً. والحكم والإحكام – لغة – الإنزال للحق بأدقّ الوجوه وأتقنها وأضبطها وأوثقها ليوافقه الواقع كحكمة اللجام. فالقرآن كتاب حاكم حكيم، شريعة من الله نحو الواقع ومنه تتنزل الأحكام من أولي الأمر الحكّام تشريعاً حتى تقع عند الدرجة الدنيا حكم حاكم قاض في عين واقعة. فالقضاء أدقّ وأدنى ما يتنزّل تقاةً من البغي والظلم. وإذا صلح المجتمع الحكم الأعلى تراضياً على عموم المحتكم إليه من فقه الشرع، فرشدت أعرافه عدلاً في العلاقات أغنى ذلك عن كثيف التنزل أوامر مفصلة إلى مواقع الخصام بين الناس ليفصل فيها القضاء، وإذا طابت أخلاقه قاسطاً في كل علاقاته وأحواله اتّقى كثرة النزول إلى القضاء في أعين أحواله. ومن دواعي اتّقاء القضاء خُلقاً – أولاً – انتشار العلم والاجتهاد بمعايير العدل حتى تترسخ في النفوس وتنبسط في الوعي المتفقّه وينضبط بها الأفراد، يواقعون حياتهم عفواً على أصول الشرع ونصوصه وما يليها من فروع أحكام وأعراف وآداب مرجعاً لكل مسالكهم، لئلا يضلّوا في جهالة بالموازين العُلى الضابطة والمعايير المحتكم إليها، وتهديهم التقوى التي تفعم بها القلوب ليقاوموا نوازع الهوى ألا يطففوا المكاييل المتوازنة ليّاً إلى أنفسهم، أو محاباة لذوي القربي، أو انعطافاً جانحاً إلى ذوي حال يشفق فقرهم، أو تُعجب زينة غناهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 135). ولئلا تتكثف خلافات المؤمنين وتغزر حاجاتهم إلى أن يقضي بينهم سلطان يفصل الخلاف، فإن الدين يؤسس علاقاتهم على مشاعر في وجدانهم من التساوي أصلاً والإخاء إسلاماً، ومواقف تقيهم من سوء الظن والغضب الجانح. ثم إن المجتمع المؤمن كله يتزكّى بأخلاق التعارف والتناصح بالحسنى ليجتنبوا الخصومات والجنايات الداعية والقضاء بينهم.
ويستغني المؤمنون عن السلطان ناظماً لعلاقاتهم، بالسعي منهم إلى وصلها وتسويتها تراضياً وتواثقاً بالمعاقدات والمعاهدات، يفي كل بوعده متذكّراً راجياً عاقبة الجزاء في اليوم الآخر، راغباً لدنياه مال الصدق والوفاء بالعهود استقامة وأمناً وعواناً، راهباً عاقبة القطيعة والشقاق والخيانة اضطراباً وتصدّعاً، ويذكره المجتمع إذا غفل عن دواعي ذلك إيماناً بالغيب ورشداً بالشرع ويحيطه بمشهود دوافعه وضوابطه. وفي سبيل اتّقاء فتن الخلاف وسوء التفاهم التي قد تعرض لهم يتذكّر المسلمون حين ينظمون حياتهم بالعقود، أن يوثقوها بما يُؤمّن الوفاء بها صدقاً ميسوراً ويعسر نقضها غفلة أو غدراً، فخوفاً من أن تُنسى العهود يذكر القرآن أطرافها بإقامة الشهادة عليها حتى إذا نسي طرفٌ التزامة المعهود، أو أخذه الشيطان فأنكره، ذكّره وشهد عليه الشهود. ولذلك يتحرّى في الشهود ذوو الخبرة في الشأن المعهود، بل يتضاعف عد الشهود إن لم يتوافر إلا من لا يعهدون شأن العهد، ليتذكروا هم حدوده. وليغالب العقد عواقب الخلاف فيه يوصي القرآن بكتابته مهما صغر قدر أمانته، فالخير ألا يزدهد المؤمنون الحاجة عندئذ لخطّه في سجل لئلا يتركوا ثغرة، ولو كسمّ الخياط للذاكرة تنسى، أو للشيطان يدخل بينهم. والوصية أن تحرر شروطا لعقود بيّنه يُمليها من تقع عليه لئلا ينكر من بعدُ أو لئلا يكتب عليه تعهد أثقل مما حق، وأن تكون الآجال مسماة لئلا ينزلق مكلف إلى المطل، ومد الأجل تمتعاً أطول بالمعهود وتمادياً في حرمان الآخر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282).
ويذكّر هَدْي الدين المؤمنين عموماً بأن يتهيأوا لطوارئ المساءة في علاقاتهم بروح المعافاة مسحاً وطمساً، لما وقع على المؤمن من أخيه فضلاً في سبيل الله لا إصراراً على المناكرة والخصام، والمسامحة صفحاً بجانب الشقاق والإقبال درءاً للمكافحة سوءاً بسوء، والمغافرة غطاءً لما وقع من ظلم وغضب بجديد من العلاقة العامرة بالتراحم والموادة لا بالتلاحم والمنازعة: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37). إن مفزع المؤمنين الأوفق إذا طرأ الخلاف وخيف أن يشتدّ، أن يتصالحوا ليعدلوا ما بينهم طوعاً وإحساناً من ذات أنفسهم، أو استعانة تستدعي الأهل أو الصحب ومن هم أَولى وأقدر وأحرص على تسوية ذات البين من دون اللجوء إلى القضاء السلطاني: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 182)، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35)، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 128-129). تلك كلها تدابير مجتمع مؤمن تقيّةً منم ضراوة اللجوء إلى القضاء، كلّما زكّت نفوسه وطابت دواعيها وحسنت أخلاقه وتمّت ضوابطها، استغنى عن القضاء السلطاني وقضى الناس أمورهم وسوّوها في خاص علاقات الحياة، وكلّما ضعفت فيهم التقوى وأفقرت التدابير الهدية التقية تكثّفت بينهم الخصومات، وغلظت وظيفة القضاء، لا سيما أن الحياة إذا تطوّرت وتقدّمت عمارتها واتّسع متاعها وتقارب فيها الناس حضراً واتّصالاً وتعاملاً، فإن المؤمنين إذا لم تتداركهم تزكية مواكبة لذلك الابتلاء المتضاعف، اشتجرت فيهم عوامل الخصام واضطروا إلى ازدياد عدّ قضاتهم واشتداد سلطاتهم واتّساع ولايتهم ليحفظ المجتمع مستوى الواقع من التدهور. إن الأخلاق الهدية والنظم العامة المرضية في مجتمع المسلمين، لا بد من أن تكافئ تكاثر فرص المظالم وفتن المخاصم، لأنها تلطف في النفوس بواعث الجزع والغيرة والعدوان، وتخفف دوافع وساوس الشيطان إلى الجنوح إلى الظلم ورده بمثله، وتحبس الناس دون الوقوع في الخلاف المتفاقم والتورط في فتن المظالم.
لكن المجتمع مهما يبلغ من الزكاة، يقيم السلطان لزاماً يعوّل عليه في شرع ما لم يشرع أفراده لأنفسهم ضبطاً وعرفاً، وفي إنفاذ ما لم ينفذوه طوعاً وعفواً، ويعوذ به ليقضي بينهم ما أفلت من حياطة نظمهم الخاصة ومن ضبط ما وقع بينهم بغياً وظلماً ومضارة ومنازعة، ولم يستدركوه تعافياً وتصالحاً.
إن الدين عندئذ يدعوهم إلى التقاضي لدى السلطان ليحفظوا حرمات أنفسهم ويصونوا سلامة مجتمعهم من الظلم الواقع في الدنيا، ويتّقوا من وراء ذلك عواقب القضاء بينهم متظالمين يوم القيامة. ويشرع لهم الدين أصولاً في بسط التقاضي وإحسانه وإقامة نظمه وإجراءاته بينهم بمثال حكم الله وقضائه يوم القيامة، على من ظلموا أنفسهم في الدنيا: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65).
وأول هوادي الدين في القضاة والمتقاضين ابتغاء القسط، يتبيّنون وقائع الخصومة وحقائقها صدقاً، ويُنزلون عليها موازين الحق عدلاً، ألاّ يعلو أحد على آخر لأنه ألسن وألحن في رواية الحقائق زوراً وكذباً، أو لأنه أفصح وأنصح في الاحتجاج، فيروغ من الحق إلى الباطل، وألا يتدافع الناس بالجدال الأبلغ وكالة عن خصيم بسيّئ وجوه التعلل والتجوّز، وألا يضار كاتب ولا شهيد لزلزلته عن الحق، ولا يكتم هو الشهادة إثماً، بل يؤديها متجرّداً للبلاغ الصادق عما هو ثابت مجتهداً في تذكّر ما هو واقع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282-283)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 135)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8). فالقاضي والشاهد لا يميلان إلى ذي القربى تشدّهما إليه العصبية، ولا إلى ذي الصفة الظاهرة التي تعطف إليهما النفس، بل يتذكّران الله شهيداً على كل نجوى أو خافية قاضياً يوم لا يُجدي نسب ولا شفاعة، بل يشهد الأنبياء على كل أمة بلّغوها الرسالة، ويشهد الناس على أنفسهم وتشهد الجوارح على أفعالها. والناس بين يدي القضاء خصوماً يقومون مستوين، لا يتمايز مقامهم بل يتوازن كما يأتي الناس يوم القيامة، كلٌّ فرداً لا يرفعه وليّ نصير. ولا حصانة لأحد في الإسلام من سلطة القضاء، لا يتعالى أحد على الحكم الصادرة أصوله من شرع العلي الكبير، فلا الأمير ولا الكبير بمنجىً من المثول أمام القضاء، كأنه قضاء الحياة الأخرى، إذ لا مفر ولا محيص. والقضاء ينبغي أن يجري مجرى المحاكمة فيه علناً، أن يشهدها الملأ ويسمعوا الدعاوى والشهادة والمحاجّة، ويروا استواء المتقاضين الظاهر، ليطمئنوا حق نزول الحكم، ويكون المشهد تذكرة ونذيراً وبشيراً في الدنيا لقضاء اليوم المشهود. وينبغي أن يسير القضاء ويصدر حكمه ناجزاً بناجز فور ما يتيسر بلا مجارّة في الترافع، أو مماطلة في الإجراء، أو تسويف في الحكم، أو تأخير في النفاذ، لئلا يمتدّ متاع الظالمين ويتطاول انتظار الرّاجين العدل، ولكل ساعة من الزمان حساب ينبغي ألا يتأخر عنها نزول الحق، إذ يحاسب المرء يوم القيامة عن لحظات وقته في ما قضاها، وإن كان يلهيه في الدنيا الأمل ليتمادى في الغفلة عن الغيب والأجل، فإنه يوم القيامة قريب بحساب الأزل، وعنده يسأل الرجعة ليستدرك ما فرَّط فيه من الوقت. وما تبيّن الوقائع ويثبت الحق المضرور أو الحد الممرور إلا وجب على القضاء أن يسارع فيعدل ويرد الحق أمانة إلى أهلها، ويرفع الضرر المستمر ويدرك سالفة الجناية بعاقبة سرعى. والعقوبة لا تثبت إلا ببيّنة أقطع للشك من بيان تراجح الحقوق في المعاملات بين الناس، حيث يتكافأ العوض والضرر، أما أذى العقاب فإنه يُصيب الجاني وحده لا بد من أن يُستوثق ثبوت استحقاقه. والقاضي لا بد من أن يتذكر الأصل الذي يتأسس عليه حساب يوم الدين، أنه لا يُساءَل ويحاسَب أحد على جناية إلا إذا سبقها بلاغ بنذير العقاب، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى. فالعقوبة ينبغي ألا تنال إلا الجاني يؤخذ بجريرته، مهما انضافت المسؤولية عن تعويض الضرر في المعاملات إلى غير المتسبّب المباشر، إلى من قد يرجع إليه من الغُنم شيء ومن الغرم سبب يكفله. ثم ختام القول في ختام القضاء، أنه ينبغي بعد الحكم الرجوع إلى الصلح بين الخصوم سعياً بين الظالم والمظلوم، إلى المعافاة والمصافحة والمغافرة التي قد تسبق القضاء كله بداراً، وسعياً لدى الجاني ليتوب من قريب، حتى لا ينتهي  القضاء بالحكم مودعاً لمشاعر الغبن والخسران والأذى عند المحكوم عليه أو المعاقَب، أو فرحاً وإعراضاً عند المحكوم له، لا سيما أن الضرّ قد لا يعوَّض مطلقاً في الزمان، والجناية قد يبقى أثرها ولا ترفعها العقوبة والمقاصّة، ووشائج صلات المؤمنين لا بد من أن تؤصل إذا قطعت لعلها تثمر تقوى وبركة: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 9-10).

المصدر: السياسة والحكم (النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع)

ارسال التعليق

Top