• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قضية العدل.. تنزيه الله في أفعاله

د. محمد أحمد عبد القادر

قضية العدل.. تنزيه الله في أفعاله

تشكل قضية العدل مع التوحيد المحور الأساسي الذي يدور حوله فكر المعتزلة، كما أنّه يضع حدوداً حاسمة بين مذهب المعتزلة ومذهب غيرهم ممن يتشابهون مع المعتزلة في بعض الخصائص، إذ أنّ للتوحيد والعدل عند المعتزلة معنى محدداً ومستقلاً جعل لهؤلاء (نظرية) محددة المعالم، يستطيع كل من يطالعها أن يتعرف على أصحابها.
يقول الخياط المعتزلي: لسنا ندفع أن يكون بشر كثير يوافقوننا في التوحيد ويقولون بالجبر، وبشر كثير يوافقوننا في التوحيد والعدل ويخالفوننا في الوعد والأسماء والاحكام، ليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول.
وإذا كان المعتزلة يحبون أن يلقبوا بأصحاب التوحيد والدل، فانّهم لإتجاههم الخاص في فهم العدل وبحصرهم أنفسهم في دائرة العدل يكادون أن يقتصروا في تسمية أنفسهم بالفرقة (العدلية) أو (العدليين). وتأتي الصلة الوثيقة عندهم بين أصلي التوحيد والعدل وهي أنّهما _بما يتفرع عنهما من قضايا _ يدوران حول ركيزة هامة ألا وهي تنزيه الله سبحانه، فإن كان التنزيه لله تعالى في ذاته وصفاته فذلك هو التوحيد، وإن كان التنزيه لله تعالى في أفعاله فذلك هو العدل.
فالعدل مصدر عدل يعدل عدلاً، وقد يذكر ويراد به الفعل، ويذكر ويراد به الفاعل. فإذا أريد به الفاعل فذلك على طريق المبالغة لأنّه معدول به عما يجري على الفاعلين. والعدل اصطلاحاً فيما يرى المعتزلة هو ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة. "فإن قيل أنّه تعالى عدل، فالمراد به أنّ أفعاله كلها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه. وأنّه لا يكذب في خبر، ولا يجور في حكمه، ولا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، لا يظهر المعجزة على الكذابين، ولا يكلف العباد مالا يطيقون ولا يعلمون، بل يقدرهم على ما كلفهم، ويدلهم على ذلك، ويبين لهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة".
يتعلق التوحيد بالبحث في الوجود الإلهي من حيث هو ذات مطلقة ولذلك فهو من الناحية الفلسفية يعتبر أدخل في مبحث الانطولوجيا أو الوجود بوصفه قمة وكمال الوجود. أما العدل فيتعلق بالفعل الإلهي من حيث صلته بالإنسان، تلك الصلة التي يجب أن يسودها من جانب الله تعالى _وفقا لرأيهم _ العدل المطلق. وهكذا فإنّ أصل العدل يندرج تحت ميتافيزيقا الأخلاق أو الأسس الميتافيزيقية للأخلاق، أو الأصول العقائدية التي تقوم عليها الأخلاق.
ولعل المعتزلة في اختصاصهم (العدل) ليكون أهم صفات الفعل الإلهي على الاطلاق لكون العدل هو قمة الفضائل التي تحكم الأفعال المتعدية إلى الغير لاسيما في علاقة رب بمربوبين أو خالق بمخلوقين، ويقاس عليه علاقة الحاكم بالمحكومين. فالله سبحانه _عندهم _ جميع ما (يفعله) بعباده عدل، إذ لا يتصور غير ذلك، ولا يشذ عن ذلك من أفعاله _سبحانه _ إلا ما يتعلق بابتداء خلق الإنسان المكلف واحيائه، أو بالأحرى ما يتعلق بقانوني الإحياء والإماتة فهما ليسا بمجال تقويم بحكم أخلاقي.
من مظاهر العدل عند المعتزلة:
1_ الله لا يفعل القبيح وأفعاله كلها محكمة (مقدمة في نسق):
إنّ الله سبحانه _عند المعتزلة _ لا يحب الفساد ذلك (إِِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/90) وبيان قولهم إنّ الله لا يفعل القبيح ولا يأمر به هو أنّه سبحانه عالم بقبح القبيح، وأنّه مستغن عنه وعالم باستغنائه عنه، وأنّ من هذه حاله لا يفعل القبيح بوجه من الوجوه. والمعتزلة مجمعون على أنّه تعالى لا يفعل القبيح، وأنّه سبحانه لديه القدرة على فعل القبيح ولكنه _لحكمته وعدله _ لا يفعل. ولكن يشذ عن هذا الاجماع كل من النظام وأبي علي الاسواري والجاحظ الذين ينفون القدرة على فعل القبيح أصلاً.
وإذا كان في العالم ما يتصوره الإنسان شراً، فذلك مما خفى على علمه البشري إذ أنّ هناك حكمة من وراء ذلك (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/49). يقول الخياط: حقيقة انّ الله وهو المصيب للنبات بما يعتريه من قحط وجدب، ولكن ذلك لا يعد من جانبه سبحانه شراً أو فساد، إذ ليس كل ما تكرهه النفس قبيحاً. وانما القبيح هو ما كان ضرراً خالصاً أو عبثاً محضاً وذلك كله في حق الله محال. وهكذا يفرق المعتزلة بين الحسن والقبح في الأفعال من جهة، والضرر والنفع من جهة أخرى. فليس كل ما هو نافع حسناً ولا كل ما هو ضار قبيحاً، ولكن حكمة الله تجعل أحياناً مما يعتقد أنّه ضار حسناً وتجعل مما يعتقد أنّه نافع قبيحاً. يقول تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى/27).
2_ الله لطيف بعباده:
لقد فصل المعتزلة الحديث عن اللطف الإلهي بوصفه واحداً من أهم مظاهر العدل الإلهي. واللطف بصفة عامة هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب أما إلى اختيار الواجب أو إلى ترك القبيح. وتختلف الاسامي عليه فربما يسمى توفيقاً، وربما يسمى عصمة إلى غير ذلك أما بالنسبة للطف الإلهي فهو كل ما يقرب الإنسان من الطاعة ويبعده عن المعصية. ولما كان الله (عدلاً) في حكمه، رؤوفاً بخلقه، ناظراً لعباده لا يرضى لهم الكفر ولا يريد ظلماً للعالمين، فهو سبحانه لم يدخر عنهم شيئاً مما يعلم أنّه إذا فعله بهم أتوا الطاعة والصلاح.
فاللطف عند المعتزلة إذن يحمل على أنّه: عون وانقاذ من الله تعالى، بغيرها يظلم الإنسان. فالعقل هو أول مقتضيات التكليف وأهم مظاهر اللطف، فإذا ما فقد الإنسان العقل زال عنه التكليف. وإذا كان الله قد أودع في الإنسان الشهوة _ابتلاء_ فقد أكمله بالعقل (تحكماً). ومن ثم فإنّ المعتزلة يذهبون إلى ضرورة النظر العقلي كأداة معرفية تبصره بعواقب الأمور وتدفعه إلى العمل الصالح وتمنعه من ارتكاب الشرور والمعاصي.
ولا يتعارض عدل الله ولطفه مع خلق الشهوة في الإنسان، لأنّه إذا زالت الشهوة زال التكليف إذا لم يحصل ما يقوم مقامها. ومن جهة أخرى ليست الشهوة ملجئة الإنسان إلى الرذيلة ولكنها محك للتقويم الأخلاقي إذ كلما كانت الشهوة قوية وكانت قوة الامتناع مواكبة لها فذلك (أكمل). ونحن نجل عفة الشاب عن الشيخ الهرم ذلك أنّ قوة الامتناع مع شدة الاغراء ارتفاع الهمة وعلو الدرجات. وإذا كان العقل هو مناط التكليف وأهم مظهر للطف الله بعباده بوصفه الوسيلة المميزة بين الخير والشر في الأفعال، فإنّ إنزال الشرائع وبعثة الأنبياء والمرسلين انما هما تمام اللطف من الله بعباده. فالشرائع هي بمثابة (مناهج) للأوامر والنواهي الإلهية، والأنبياء والرسل هم (القدوة) في التطبيق، وهل ذلك منه تعالى إلا عدل ولطف. يقول تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15)، ويقول تعالى: (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء/ 165). وجملة القول في ذلك أنّ الله لم يدخر عن عباده شيئاً من الألطاف التي بها يعدلون عن طريق البغي من غير إلجاء وإلا لإرتفع التكليف ولما كان هناك مبرر لحساب.
3_ الانسان حر فيما يفعل (النتيجة):
يأتي تصور المعتزلة لحرية الإرادة الإنسانية نتيجة منطقية لنسق معتزلي في (العدل) كل المقدمات فيه تشير وتؤكد أنّ القول بحرية الإنسان في أفعاله هو النتيجة الطبيعية لمثل تلك المقدمات وإذا أردت أن تخص نظرية أو تصوراً وتعتبره علماً على الفكر المعتزلي كله. على كثرة نظرياته وتصوراته _فقولهم بحرية الإنسان ما في ذلك شك. وداعيهم في تأكيدهم (الحاسم) على حرية الإنسان أنّه لو كانت الأفعال الإنسانية من صنع الله لبطل الأمر والنهي وبعثة الأنبياء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبحت المعاقبة والمساءلة، لأنّه لا يجوز أن يأمر الله بما لا يفعله وينهى عما خلقه.
وفي هذا (الاحتجاج) العقلي _في سبيل تأكيد الحرية _ يتأدى المعتزلة إلى أنّ التسليم (بالجبر الإلهي) سوف تترتب عليه نتائج منها عدم جدوى وشرعية دعوة النبي الكفار إلى العدول عن الكفر إلى الإيمان، لأنّ الله _وفقاً للموقف الجبري _ هو خالق الكفر فيهم وهو المانع لهم عن الإيمان. فلا سبيل إذن إلا القول بحرية الإنسان واثباتها دعماً للعقل والواقع، وإلغاء لكل التصورات الجبرية إزاء هذه القضية، وتنزيهاً للذات الإلهية عن كل نقص خاصة الظلم (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (الحج/10).
وإذا كانت الأدلة العقلية على إثبات الحرية عند المعتزلة هي (المستند) فإنّ كثيراً من دلائل النقل _فيما يذهبون _ تؤيد ذلك وتدعمه. من ذلك قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/29). وسلك المعتزلة طريقتهم في التأويل بالنسبة لظاهر الآيات التي تتعارض وما يذهبون إليه.
وفي سبيل تأكيدهم على حرية الإنسان ذهبوا إلى أنّ الإرادة سابقة على الفعل المراد، حيث يريد الإنسان في الوقت الأول ويفعل في الوقت الثاني. ولا تكون الإرادة عندهم مصاحبة للفعل المراد إلا في الأفعال الاضطرارية التي تنتفي معها الحرية. وفيما عدا ذلك فإنّ الإرادة _في كل الأفعال الإرادية _ تسبق الفعل بحيث تكون هناك (وقفة) للاختيار بحيث يكون أمام الإنسان سبيلان فأما أن يفعل أو لا يفعل.
في إطار (التوحيد) دفعهم موقفهم المتطرف _كرد فعل لموقف الحنابلة _ إلى المبالغة في إثبات خلق القرآن ومحاولة فرض تلك (العقيدة) عن طريق السلطة والدولة، مما يتصور معه أنّ مخالفهم في الرأي (كافر). كذلك دفع بهم الشطط الفكري إلى مخالفة النص الديني واجماع الأمة في كون الله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة. ووقفوا تجاه تلك المسألة موقفا غريباً كان الواضح من خلاله أنّه لا يهم أن يكون متفقاً مع النص الديني _ الذي أولوه أحياناً _ ولا مع ما أجمع عليه المسلمون، بقدر ما يكون منسجماً مع (تصورهم) للتوحيد والتنزيه. ومتسقاً مع نزعتهم العقلية.
وعلى سبيل المثال تكلفوا في مسألة (وجوب فعل الاصلح على الله تعالى) ومهما قيل من اختلاف بين المعتزلة البغداديين والمعتزلة البصريين في هذا الصدد إلا أنّ تصورهم (العام) حول هذه المسألة ظل عنواناً سيئاً على تطرفهم في جعل الصلاح يصدر عن (اللطيف بعباده) وجوباً. فكيف يوجبون على الله شيئاً وهو سبحانه (الموجب) لكل شيء. إنّ أفعال الله تعالى _مع التسليم بعدله _ انما تصدر لحكمة معينة وليست لوجه المصلحة، أو تدور (الأفعال) الإلهية كلها وفقاً لصالح هذا الكائن (المذلل) الذي هو الإنسان، انّه سبحانه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء/23). ومن جهة أخرى فإنّ (رؤيتهم) في حرية الإنسان ليست (بالعقيدة) التي ربما (يكفر) من يقول بغيرها.
يحسب للمعتزلة أيضا _بشهادة كتب الحضارة والتاريخ الإسلامي _ أنّهم واكبوا في نشأتهم قمة الحضارة الإسلامية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، تلك الحضارة التي أطلق عليها بعض المؤرخين (عصر النهضة الإسلامية)، وانّه لغريب أيضا أن يواكب أفول نجمهم بداية انهيار الحضارة الإسلامية. وإذا كنت استبعد أي نوع من أنواع الإرتباط السببي في هذه المسألة إلا أنّها (ظاهرة) جديرة بالملاحظة والإشارة إليها.

المصدر: الفكر الإسلامي بين الابتداع والإبداع

ارسال التعليق

Top