• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مشكلة السلطة في المجتمعات العربية

جهاد العيدان

مشكلة السلطة في المجتمعات العربية
◄إنّ أهمّ ما يميّز العلاقة الحياتية داخل الإطار الاجتماعي هو نوع السلطة. وماهية العلاقة بين القاعدة (الشعب) والهرم (السلطة)، وهذا يعني انّ العلاقة تستند إلى خصوصيات وآليات ومعادلات معينة بعضها ثابت والآخر متحرك. وبناءً على هذا المعطى، يرى الدكتور (أحمد يوسف أحمد) بأنّ المجتمعات مسؤولة عن (الواقع الناتج) فهو من وجهة نظره ليس قدراً مقدوراً علينا لكوننا نملك دائماً المشاركة في صنعه ولو بالإضاءة الفكرية، وإذا كانت مشكلة السلطة تعود في وجه من وجوهها العديدة إلى طبيعة المجتمعات، فإنّ هناك من يرى بأنّ نوعية أو طبيعة الوضع الهرمي، هو المسؤول عن إشكاليات الواقع، ذلك لأنّ السلطة قادرة على (تنميط) الوضع وقولبته بما ينسجم وطروحاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية وأحداث التغييرات الجذرية أو الشكلية حسب المرتكز الأيديولوجي الذي تستند إليه أو تتكئ عليه. والعلاقة الثنائية بين القاعدة والهرم تأتي ضمن سياق تراكم كمي ونوعي من الإفرازات التاريخية والثقافية والنفسية وحتى القبلية، أيّ هناك أطر تأريخية وعقائدية (أيديولوجية) وثقافية (فكرية) وهي مؤثرات أساسية لصياغة أو رسم الحالة السياسية السائدة في المجتمعات، إلا انّ هذه الحالة لم تخضع إلى هذه الأطر بشكل مستديم بعد نشوء الدولة الحديثة في العالم العربي إذ دخل العامل الدولي بما هو وضع استعماري أو تبشيري أو تغريبي أو سلطوي (فوق الهرمي) كرقم حدّي في أحداث نوع من العلاقات الجديدة، متباعدة عن جذورها الأساسية ليمكن من خلالها الإخلال بالوضع الجغرافي للعالم العربي لمصادرة جزء من الأرض لصالح الترجمة الاستعمارية المنقحة بصورة الدولة العبرية الراهنة. والثابت هو انّ الكتلة المجتمعية العربية تعاني من إزدواجية متوالدة ومتضاعفة وهي خاضعة لمزيج من الصراعات النمطية والطبقية والفكرية والبيئية والحضارية وحتى الإنتاجية. وهذه الإزدواجية تقابلها قضية الفراغ الاجتماعي، أيّ اختفاء عناصر الارتباط أو مقومات الإنشداد المصيري، أيّ هناك ظاهرة تغييب للعامل الشعبي أو رأي الأُمّة ليكون الحضور الآحادي لدكتاتورية السلطة أو قيمومة الهرم المطلقة. وقد ناقش هذه القضايا "البرت حوراني" في العديد من مؤلفاته، ففي القسمين الأخيرين من كتابه (تاريخ الشعوب العربية) بعنوان (عصر الإمبراطوريات الأوربية وعصر الدولة الوطنية العربية) يتتبع حوراني انهيار نظام الحياة الإسلامي ذاك ومعالم النظام الجديد، فقد وصف الاجتماع العربي الحديث بدقة وحساسية وشفافية اسية "لقد انهار نظام الحياة ونظام الحضارة تحت وطأة الاستعمار الأوربي والحضارة الأوربية الهاجمة والمستولية" وعنوان المرحلة اليوم حسب رأي "البرت حوراني" في فصل كتابه الأخير (اضطراب الأرواح) فالعربي المسلم يعاني (ضياعاً) ناجماً عن اختراق الغرب عالمه وتدميره فوق رأسه، لقد سقط النظام القديم وقام نظام، أو لا نظام جديد، فاضطربت علاقة المدينة بالريف، والحاكم بالمحكوم، والمثقف الجديد بالجماعة، والجماعة بالعالم من حولها. وهذا يعلل الأطروحات المتضادة للحاضر والمستقبل من العلمانية العنيفة وإلى الأصولية العنيفة، ومن الدولة الشديدة السطوة وإلى الدولة الشديدة الضعف في الوقت نفسه. ويبدو انّ شبكة (الارتطام السيكو – سياسي) بين السلطة والمجتمعات واتساع دائرة الارتطام وانعكاسات هذه الحالة على الدوائر الاجتماعية العديدة أنتج فوضوية جديدة في طبيعة هذه العلاقات، مما ولّد حيرة علائقية للهوّة الظاهرية بين الزمان الثقافي والمكان السياسي والاجتماعي، فهناك فهم تحقيبي لإشكالية السلطة في العام العربي، وهناك فهم انثروبولوجي وتحديثي دون مقاربة أُسيّة للحالة العربية الذائبة في الواقع الرسالي أو بالأحرى في الواقع (جيو – رسالي)، بيد انّ الصحوة الدينية الأخيرة انتجت شكلاً اقترابياً من هذا الفهم إلا انّه لدى السلطة بات مموهاً بتعريفات إختراقية من قبيل وصف حالة الوعي أو الصحوة الجديدة بالإرهاب أو الأصولية مما خلق عوامل تتشذّر في واقع العلاقة بين الهرم والقاعدة، سيندفع تدريجياً نحو حالة الفوران أو الالتهاب، وربما ستؤدي هذه العلاقة المقلوبة إلى ظواهر عنف خطيرة.   السلطة والإشكالية: إنّ مسألة السلطة تبقى إشكالية عويصة تتسم بخطورة قصوى، نظراً لارتباطها بحياة المجتمعات وبواقع التطور المتنوع والمختلف المقاييس والأشكال والمعالم كالذي يرتبط بالحياة السياسية أو الاقتصادية أو حتى الأمنية للمجتمعات، فهناك بلا شك ارتباط (تحدوي) ملغوم لدرجة انّ السلطة تمثل تحدياً للمجتمع والمجتمع يمثل ضدّاً أو نقيضاً للسلطة، لأنّ السلطة في المجتمعات العربية لعبة الأُمم الكبرى أو بقايا الركام الاستعماري السابق إذ لم تكن نتاجاً طبيعياً للعلاقات النمطية والفكرية داخل هذه المجتمعات أي انّ هناك خلافاً فلسفياً عميقاً داخل هذين الإطارين قد يرقى إلى درجة الاستخفاف من قبل بعض الأنظمة بالعامل الشعبي أو المجتمعي. هذا الإسقاط قد يتعدى البعد الشعبي إلى ما يشبه الإسفاف إذ انّ هناك فهماً الغائياً للجانب (الديني السياسي) أو ما يسمى بفصل الدين عن السياسة لتبدو المسألة جدلية وجدلية مركبة قد تصل إلى الأزمة التصارعية بين السلطة والجمهور وما نعنيه بالأزمة هنا اقتصار البناء الفلسفي السياسي على منطق استلهام أو ممارسة السلطة في حدودها الإدارية والسياسية والاقتصادية دون حدود الطموح وإرادة الأُمّة، من هنا تبدو السلطة وكأنّها الرمز الأخير الدال على مرحلة الإلحاق الاستعماري القسري، وتمثل عملية الفسخ أو التجرّد من الارتباط الجغرافي – العقلي مع مكونات، الشخصية المجتمعية والهوية العقائدية للمجتمعات العربية ذاتها، أيّ هناك خصوصية للسلطة الرسمية في العام العربي تختلف كلية أو شبه كلية عن أيّة سلطة أخرى في الكيان العالمي، وإذا كان هناك تفاوت في درجات الحريات والديمقراطيات والعمل السياسي في هذا البلد أو ذاك، فهو يبقى في إطار النسبية وضمن محددات ومؤثرات محلية أو دولية، وحتى هذه المكاسب إذا جاز التعبير تبدو آنية أو مرحلية بحيث لا ترتبط بسلوك سياسي واعٍ أو مبرمج لا يمكن الاعتماد عليه أو الركون إليه فالتجربة الجزائرية كانت من أرقى مستويات العمل السياسي في العالم العربي نهاية الثمانينات، كان من الممكن أن تتبلور هذه التجربة في أنماط مؤسساتية ثابتة فيما لو كتب لها النجاح والاستمرارية والتأقلم مع إرادة الشعب الجزائري، بيد انّ الحرس الاستعماري القديم ومؤسسات السلطة القابضة على الحكم لم تستوعب هذه التجربة، ولم تسمح لها بالتبلور والظهور في هذا النسق الناصع الفضفاض، لذلك انقلبت عليها بشكل دموي سافر يذكرنا بالأحداث الدامية التي شهدتها الجزائر ابّان الاستعمار الفرنسي حتى انّ عدداً كبيراً من الضباط الفرنسيين الشاهدين على تلك الأحداث تذكروا هذه المشاهد المترابطة بين الأمس واليوم؛ إذ دخلت الجزائر في دوامة من الصراع والتنابذ والانزواء رغم الاستفتاء على الدستور السلطوي، وليس الدستور النابع من حركية الواقع الجزائري، مما يشير إلى شبكة مصالح دولية فرضت محددات وضع السلطة وطريقة أدائها وحتى أشكال علاقاتها مع المجتمعات. ومع هذه المواصفات والمحددات، فهناك نوعية المجتمع وصفاته التاريخية وأطيافه الانتمائية العقائدية والانتاجية والسيكولوجية، إذ انّ هذه النوعية والأطياف لها انعكاسات تأثيرية على طبيعة ودرجات ومقومات هذه العلاقات.   المرجعية السياسية للسلطة: إنّ السلطة العربية بدت في غالب الأحيان في حالة هلامية سافرة في العديد من البلدان العربية، وهذا يوضح عدم وجود مرجعية سياسية معينة يستند إليها الوضع السلطوي أو يستمدّ منها عوامل الوجود والبقاء والكينونة، فهناك ثغرت كبيرة للنموذج السياسي العربي يمكن من خلالها القفز إلى أعلى الهرم الحاكم أو التدحرج منه تحت بساطيل العسكر التي تنتمي إليها أغلب الطبقة الحاكمة (الهرمية) مما ولّد بشكل تلفيقي حالة غوغائية معلنة في طبيعة العلاقة بين أقطاب السلطة من جهة وبين السلطة ومحكوميها من جهة أخرى، وبناءً على هذا الواقع المتأزم والمزمن تبادلت الصراعات الداخلية مواقعها في المحتوى الداخلي أو المحلي وتبودلت الصراعات الجانبية في المحتوى الرسمي العربي العام، مما ضاعف من عوامل إخلال المسارات والتوجهات السياسية لدى هذه السلطات، وجعلها في حالة انفصام من مجتمعاتها بشكل أو بآخر. والتجربة السياسية الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي عقّدت من هذه العلاقة ورفعتها إلى حالة تناقضية واضحة. وإذا كان الحوار حاجة إنسانية لازمة قلما يستغني عنها الإنسان، كما يصرّح بذلك فتحي رضوان إلا انّ هذه الحاجة مصادرة من قبل السلطة التي لا تعترف بوضع حواري مع شعبها وتعتبر نفسها فوق أيّ حوار من هذا القبيل. هذه المعادلة أفرزت واقعاً للسلطة أشبه ما يكون القبيلة منه إلى الدولة الحديثة، فهناك ديكتاتورية مقنعة وأخرى متبرّجة ترتكز على دولة الجيش تارة أو دولة الأمن والاستخبارات تارة أخرى، مما قلب المعادلة رأساً على عقب وأوجد مفاهيم خارج إطار المصطلح المعمول به أو خارج الفهم اللغوي لواقع المفردة السياسية المتداولة، فالسلطة هي حاجة أساسية للدولة أو الحكم، ومطلب ضروري لحلحلة المشاكل ومعالجة الأزمات وقضايا الإنسان، لكنها في القاموس اليومي المتداول في أغلب المجتمعات العربية، تحولت إلى عامل تأزيم وحالة تناقضية مع مطلبية الشعب وقد تطرقت ندوة أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي إلى هذه القضية مشيرة إلى وجود تخلف سياسي لدى فهم السلطة، مؤكدة التوجه لتغيير هذا الواقع المتخلف والاهتمام بتحقيق التفاعل بين الشعب والحكم من خلال إزالة الهوة التي تفصل بين السلطة السياسية والجماهير الشعبية، ويستلزم هذا توفير مناخ ديمقراطي يتيح للشعب أن يشارك في بناء مصيره. من هنا كانت السلطة مدخلاً إلى تأسيس الأزمة وليس معالجتها، وباتت نوعاً من قولبة المكبوت كما تقول أدبيات الانثروبولوجيا المعاصرة، وليس التخلّص من المكبوت، بل وبرزت حالة تدافع سلبية – استلابية أفقدت السلطة خصوصية الانتماء والتسالم مع قيم المجتمع وخزينه الفكري، بحيث انعكست هذه الحالة على شكل العلاقة ونوعيتها ليتبلور وضع تعاكسي مترهل، فهناك إشكالية ذات طبيعة مفتوحة ليست خاضعة للمجال التداولي، كما يقول الأستاذ عبدالمجيد بوقربة ويبدو انّ عودة الذاكرة (الصحوة) لدى المجتمعات العربية ولّد تياراً سياسياً واعداً. وكان بالأساس مفصلاً جديداً لجنون السلطة التي لم ترق لها وضعية انقلابية على متبنياتها ورؤاها السياسية، مثل هذه الصحوة وبدل أن تبادر إلى حالة. نقدية ومراجعة دون الانجرار إلى حالة الارتطام الرأسي مع هذا الواقع الوليد ودون الانغماس في الحالة الرومانسية أو الحالة الجنرالاتية ليكون المجال قابلاً لتصحيح الأخطاء وإرساء دعائم جديدة لبناء نسيج من العلاقة المتقابلة السليمة، ولابدّ من التنبيه إلى انّ النظرة السياسية الواعية المستوعبة هي وحدها القادرة على تركيب أدوات العلاقة المطلوبة بين الهرم والمحكومين (القاعدة). انّ ما نحن بصدده من تفاعلات مكبوتة داخل الأطر المجتمعاتية العربية، لهو في الحقيقة تفجّر عنيف لم يمكن أن نسميه ظاهرة الصحوة أو الخروج من قمقم السلطات أو عما يصفه (محمد أركون) بحقِّ (صحوة التوجه الديني وانطلاقه من الحالة الآسرة). فالسلطة رسخت مفهوم السلطة المطلقة التي لا تحتاج إلى تسويغ شرعية أوامرها وضرورة الخنوع لها إلى غير إثبات صدورها عنه مهما كانت مصادمة للأخلاق والدين وقانون العدل مما دفع الأوضاع في اتجاهات تصعيدية لأنّ الضغط وكما يقال لا يولّد إلا الانفجار. وهنا تفجرت الأوضاع بشكل مباشر أو غير مباشر، وبرزت شروخ أساسية في واقع العلائق بين السلطة والمجتمعات العربية وانتشارها بهذا الشكل العلني والملموس، هذا الواقع لم يقتصر على الدين ومكانته فحسب، بل يكاد يكتسح معه كل المستويات الأفقية والتحتية للمجتمع، ويبدو هذا التناحر المنظور وكأنّه عمل متدافع ومتفاعل يستهدف إعادة تركيب النسيج الاجتماعي لهذه البلدان على وفق نموذج محدد، هو ذلك الذي تشكل في الضمير الجمعي الديني الناتج عن تجربة التنزيل كما خبرها الرسول الأكرم (ص) والمسلمون الأوائل.   واقع السلطة: إنّ الصورة السائدة لواقع السلطة في المجتمعات العربية يمكن اختصارها بعبارة (انقسام عربي واختراق خارجي وعداء بين السلطة والمجتمع) فهناك صراع بين السلطة وقوى التغيير الاجتماعي، وهو صراع تفرضه ضرورات عديدة، من بينها ضرورة النهوض وتجاوز معادلة الاستسلام الراهنة، وتبقى السلطة العربية نوعاً من الموزائيك الملون الغارق في حركة ارتدادية تتعاكس مع مكونات العقل العربي الجمعي وخصوصيات الواقع العربي، كما يبقى الطموح العربي دائماً نحو تشكيل سلطة أمينة وأصيلة سيّما انّ مأساة العالم العربي ونشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين يعود في أهم أسبابه إلى إشكالية علاقة السلطة مع مجتمعاتها وتناقضها مع الواقع الحاكمة فيه، ولهذا فإنّ التيار الديني استقطب المطالب المجتمعاتية العربية باعتباره يمثل البعد الحقيقي للمجتمع ويلتصق معه في علاقة وجدانية – صميمية تحمل بصمات التاريخ وهوية الضمير، وهذا العنصر النابع من خزين الأُمّة أوجد حالة جديدة مفتوحة أمام كلّ الاحتمالات، مما يعني انّ أوجه الصراع وأشكاله في حالة من التغيير والانتقال من موقع إلى آخر ومن عنوان إلى غيره. وأخيراً ليس هناك من استدامة للسلطة المفروضة، بل هناك أفق رحيب للسلطة الإنسانية الرأسمالية النابعة من رحم الأُمة والمشدودة إلى واقع المجتمعات العربية والمتقاسمة معه المصير والهوية والوجود. 

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 87 لسنة 1997م

ارسال التعليق

Top