• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آفاق التوبة

آفاق التوبة
◄قال رسول الله (ص) في آخر خطبة له يعظ الناس: إذا تاب الإنسان قبل عام قبل الله توبته، ثمّ قال: هذا كثير إنّ الله يقبل التوبة بأقل من عام، إذا تاب الإنسان قبل شهر قبل الله توبته، ثمّ قال: هذا كثير وإنّ الله يقبل بأقل من شهر، إنّ الله يقبل التوبة قبل يوم، ثمّ قال: يوم كثير إنّ الله ليقبل التوبة بأقل من ساعة، إنّ الله ليقبل التوبة قبل لحظة من موته.

التوبة هي الرجوع والعودة إلى الله، ومن غير الممكن أن يعود الإنسان إلى جادة الحقّ بعد أن يترك طرق الضلال وأن لا يقبل الله توبته وعودته وقبوله في رحمته الواسعة.

إنّ الركن الأساس في التوبة هو الندم على المعصية والتصميم على ترك الآثام، وهذا ينقسم بدوره إلى نوعين، فهناك نوع كاذب على الندم والتصميم على ترك الإثم، وذلك عندما يندم الإنسان على ذنبه لدى رؤيته الجزاء والعقاب فيتمنى حينها أنّه لم يرتكب من ذلك شيئاً.

إنّ مثل هذا الإنسان لو كان قد رأى الجزاء أمام عينيه حاضراً لما أقدم على ارتكابه المعصية، ذلك أنّ رؤية الجزاء أو العقاب المترتب على الذنب سيمنع الإنسان قهراً عن ارتكاب المعاصي، وهنا يفقد الإنسان قدرة الاختيار وعنصر الإرادة.

إنّ ترك الذنب لا يعتبر توبة إلا إذا رأى الإنسان ارتكابه الذنب حاضراً ومبلغاً يستلمه نقداً في حين يعتبر الجزاء دَيناً يترتب دفعه في المستقبل، وفي هذه الحالة يعتبر إقلاعه عن الذنب – سواء كان ذلك خوفاً من الجزاء في المستقبل أو طمعاً في الثواب في الآخرة أو استقباحاً للذنب نفسه – إرادة وتصميماً وتوبةً.

إنّ التوبة الحقيقية هي الإرادة الحازمة على ترك المعاصي والذنوب، والعودة الحقيقية إلى طريق الصلاح والرشاد.

ومن الطبيعي أنّ الله سيقبل توبة عبده وهو يرى عودته إليه بوازعٍ من نفسه دون إجبار من خلال مشاهدة العقاب والجزاء، إنّ الله ولا شك سيقبل توبته ودخوله إلى رحمته التي تسع كلّ شيء.

إنّ الله لا يقبل التوبة في موطنين، الأوّل: التوبة لدى رؤية العذاب في الدنيا حاضراً، حيث تحصل حالة من التوبة الظاهرية دون أن يكون لها أساس حقيقي في أعماق الإنسان. قال سبحانه وتعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر/ 85).

كما ورد هذا الرفض في إيمان فرعون قبل أن تبتلعه أمواج البحر، لقد كان يطارد موسى وقومه بعد أن شرّدهم عن ديارهم، وعندما انتفح البحر لموسى لم يتدبّر فرعون هذه المعجزة ويؤمن بالله ومنّته نفسه المنحرفة بمواصلة الملاحقة لموسى وقومه، ولكن عندما هاجمته الأمواج من كلّ مكان إذا به ينادي: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل، فجاءه الجواب: الآن! وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين!.

أما الموطن الآخر الذي ترفض فيه التوبة فهو عندما يوقن الإنسان بأنّه سوف يودّع الدنيا وأطلّ على عالم الآخرة، وفي مثل هذه الحالة التي يفقد فيها الإنسان الإرادة والتصميم على العمل والحركة والتكامل فلا معنى لتوبته الخالية من أي أثر في النفس.

إنّ الإنسان في الدنيا كالفاكهة في الأشجار، فما دامت الثمرة مرتبطة بالغصن فهي تتغذى عن طريق الجذور وتستفيد من الضوء والحرارة والهواء، فإذا نضجت تماماً أو اقتطفت انقطعت علاقتها بالشجرة، وفي هذه الحالة يتوقف تكاملها ورقيها ونموها وصراعها مع الآفات، فإذا انفصلت عن الشجرة وهي فجّة أو كانت غير ناضجة فلن يفيدها شيء أو ينفعها أمر، وإن أصابها الذبول فلا فائدة من سقيها الماء أو تعريضها للضوء والحرارة والهواء.

كذلك الإنسان في عالم الطبيعة، فتكامله المنشود ينبغي أن يحصل ما دام مرتبطاً بشجرة الطبيعة، فإذا انفصل عنها من خلال الموت فلا فائدة بغير ذلك حيث انغلقت في وجهه طريق الصلاح.

وبالطبع هناك استثناء يتوجب الإشارة إليه وهو أنّ موت الإنسان لا يعني توقف تكامله تماماً، إذ توجد موارد يستمر فيها الإنسان في انتهاله من الرحمة الإلهية، وهي ما أشار إليه رسول الله (ص) في حديثه الشريف: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية (كأن تكون مستشفى ينتفع منه عباد الله أو مدرسة أو مسجداً) وعلم ينتفع به (كالكتاب) وولد صالح يدعو له (بعد وفاته ويستغفر له)".►

ارسال التعليق

Top