• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أزمة منتصف العمر.. إجعلها رحلة سعيدة

د. سمير يونس

أزمة منتصف العمر.. إجعلها رحلة سعيدة
  أزمة نفسية فسيولوجية يسميها بعض الناس "مراهقة الكبار"، أو "المراهقة المتأخرة"، وتلك تسمية العوام من الناس، واسمها العلمي "أزمة منتصف العمر"، أو ما بعد الأربعين. وهذه الأزمة ليس لها عُمْر محدد بشكل دقيق، فقد تحدث بين الأربعين والخمسين من العمر، وقد تحدث قبل ذلك، أو بعد ذلك، أو يشير علماء النفس إلى أن هذه الأزمة لا يمرّ بها كثير من الرجال ويتجاوزونها بهدوء، أما من يصابون بها فقد تحدث لديهم مضاعفات، أخطرها القلق والاكتئاب. ونفسياً.. يرى علماء النفس أن أزمة ما بعد الأربعين قد تكون مسؤولية الزوج، وقد تكون مسؤولية الزوجة، وقد يسهم الجميع في تضخيم الأزمة، بيد أنّ الزوج يتحمل المسؤولية الأكبر، لأنّه غالباً – حسب طبيعته – أكثر أنانية من الزوجة، ولكن هذا لا يعفي كثيراً من الزوجات من المسؤولية، وخاصة من يستسلمن منهنّ للتغيرات الوظيفية التي تطرأ عليهنّ فيما بعد سن الأربعين. في هذه الأزمة قد ينظر الرجل حوله فلا يجد وفاءًَ ممن تعب من أجلهم، وقام على خدمته، وهنالك يشعر باليأس والفشل، ويحسن بأنّه كان يجري وراء سراب، ويفكر في الماضي كأنّه كابوس ثقيل، لم يستطع فيه أن يحقق أحلامه وآماله، فهو غير راضٍ عن نتائج الماضي، فيشعر بأنّه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلامه. ومن أصيب بأزمة منتصف العمر يرى بحسابات الحاضر أنّه ضيّع عمره هباءً – أيضاً – ولم يعد يملك شيئاً له قيمة، فقد ذهب شبابه، وضعفت قوته، وضحى بالكثير كي يرى أولاده كباراً يبرونه، فإذا به يرى كلاً منهم يشق طريقه في الحياة، غير عابئ بأبيه، بل إنّ الأبناء ربما انتظروا من أبيهم العطاء حتى في الكبر والضعف، مما يشعر الأب بأن تضحياته ربما ذهبت سدى في وقت بدأ الأب يحتاج فيه إلى رعاية أبنائه، لإحساسه بأن منحنى القوة بدأ في الهبوط، فقد خارت قواه، وانطفأ حماسه، واكتشف – من وجهة نظره – أنّ الذين ضحّى من أجلهم لا يستحقون، وهنالك يشعر بأنّ الأرض تهتز من تحت أقدامه، لأنّ الذين خدمهم تنكروا له، وذهبوا لمصالحهم، وصاروا يبحثون عن مكاسبهم. هنالك يشعر مَن أُصيب بأزمة منتصف العمر أنّه في حاجة إلى تجديد حياته، وإلى أن يرمي هذه الصفحات وراء ظهرن، وأن يبحث عن صفحات جديدة، ويرى أن ذلك يستلزم التحرر من قيود البيت والزوجة والأولاد، فيبتعد عنهم، ويأخذ عدة طرق وسبل متنوعة، فقد يهرب من البيت ليسهر مع أصدقائه لقضاء أوقات ممتعة، أو يلهو ربما مع مَن هم أصغر منه سناً، وربما يعيش مغامرات الشباب معهم، ليُشعر ذاته بأنّه لا يزال قوياً، أو أنّه عاد فتى مراهقاً يعيش أيام الصبا لنزواته وشهواته، دون ضابط ولا رقيب.   - دورة الحياة والأزمة: ويشير علماء النفس إلى ما يسمى "دورة الحياة"؛ حيث تدور الأيام دورتها، ويجد من يعيش الأزمة أن أمامه فرصة أخيرة للتمتع بالحياة، قبل أن يغادره شبابه وتألقه ووقاره ووسامته، ويصير ذلك كله في عالم النسيان، فيفكر في الزواج من فتاة صغيرة، ربّما تعيد إليه شبابه، ويبدأ معها حياة جديدة. وبعض الرجال يتجاوز الأمر بسهولة، فتمر هذه المرحلة دون مشكلات ولا توترات، ويعيش تلك المرحلة سعيداً، يستمتع بحياته، ويتكيف مع المرحلة وخصائصها. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: كيف يمر هؤلاء الرجال بهذه المرحلة ويعيشون حياتهم سعداء فلا يتأثرون سلباً بهذه الأزمة؟ وللإجابة عن هذا السؤال؛ يرى علماء النفس والصحة النفسية أنّ الرجل يستطيع أن يتجاوز هذه المرحلة بسلام، وأن يعيشها سعيداً إذا أخذ بما يلي:   - أوّلاً: تنمية الجانب العقلي: فمن المفيد في علاج الأزمة أن يغذي الإنسان عقله، وينمي قدراته العقلية وثقافته، فاستثمار الوقت في القراءة والإطلاع يشغل الإنسان بقضايا كبرى واهتمامات خاصة، قد تشغل الإنسان عن التفكير في مغامرات لا جدوى من ورائها.   - ثانياً: أعطِ شريكك بقدر ما تريد منه: ما أعظم هذه المقولة الذهبية: "إذا أردت أن تأخذ فأعط شريكك بنفس القدر". فعلى كلا الزوجين أن ينظرا إلى العلاقة الزوجية نظرة إبداع، فيتفنن في توطيدها وتحسينها، ويأخذ بكل السبل التي تجعلها علاقة رومانسية حميمية، تقوم على تغليب الإيثار وليس على الأثرة أو الاستئثار، وتقوم على عطاء كل شريك لشريكه دون انتظار، فيقدم كل منهما التنازلات، إذ يكون الفضل هو دوام هذه العلاقة وذلك الميثاق الغليظ، فيحسن كل منهما الظن بالآخر، ويتزين كلا الزوجين للآخر، ويبتكر كل منهما وسائل وأساليب تعوض تلك التغيرات النفسية والجسمية، فيتفنن في النظرة، واللمسة، والهمسة، والبسمة، والكلمة، والحركة، والسكنة.. إلى آخر تلك التعبيرات الرومانسية.   - ثالثاً: إدراك الذات وتقبّلها: فمن أهم مقومات التكيف مع مرحلة منتصف العمر أن يدرك الرجل ذاته في هذه السن، ويعي خصائصها، ويتقبل ذاته بتلك الخصائص، ويعيشها بنضج عقلي، ويحدّث نفسه بنعم الله عليه في هذه المرحلة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/ 11)، وبما تميز به هو في هذه السن دون المراحل العمرية الأخرى، فإذا أحسّ بأنّه فقد بعض ملامح شبابه وفتوّته ووسامته؛ ذكّر نفسه بما اكتسبه في هذه المرحلة من مميزات كثيرة، فيعيش دور الأب الحنون الذي نجح في رسالته مع أولاده، وأدى الأمانة التي ألقاها ربه على عاتقه، كما يحدث بنعم ربه عليه؛ حيث رزقه البنين والحفدة، وتلك آية من آيات الله تعالى، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل/ 72). ومن ذلك – أيضاً – أن يذكّر الرجل نفسه بما أنعم الله عليه من رغد العيش بعد الكفاح، وإقامة بيت بعد العناء، ونجاحه في مجال عمله، وتقدير الناس له لكبر سنه.   - رابعاً: الصبر على الزوجة والإبتلاءات: فالصبر زاد ودواء لعلاج كل شدة وأزمة، وقد يرى الرجل في زوجته عيوباً، وهنالك يجب أن يتذكر ما تتميز به في جوانب أخرى، فإن ذلك ما يكسبه صبراً على عيوبها، ومن هدي القرآن الكريم في ذلك قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19).   - خامساً: التوازن بين الواجبات: فينبغي للرجل في هذه السن أن يوازن بين عطائه لربه ولنفسه ولأهله ولأصحابه، فمن السنة التقريرية ما أقرّه النبي (ص) من قول سيدنا سلمان الفارسي (رض): "إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه".   - سادساً: تحديد الأهداف والسعي إلى تحقيقها: فالحياة مليئة بالخيارات والبدائل، وإن كان الرجل قد فقد بعض فرصه في شبابه، فإنّ الله عزّ وجلّ أتاح له فرصاً ثمينة أخرى في سن الرشد والنضج، ولينظر إلى شعره الأبيض الذي خالط الشعر الأسود على أنّه أضاف إليه وقاراً وبهاءً لا يوجد في أيام الشباب، بدلاً من أن ينظر إلى شيبته نظرة حزن واستحسار.   سابعاً: ربط الحياة بالآخرة: فليحرص الرجل في هذه السن أن يربط حياته بآخرته ودنياه بدينه، وليدرك أنّ الدنيا ما هي إلا مرحلة قصيرة ضمن طريق طويل، وأنّ الدار الآخرة هي دار القرار والحياة الأبدية، فالدنيا كلها ما هي إلا حلقة من حلقات وجودنا الممتد في الدنيا والآخرة، فإذا ما أدركنا هذه الحقيقة تقبلنا كل مراحل العمر بالسعادة والرضا.   - ثامناً: الإيمان بالله تعالى واللجوء إليه: فتقوية علاقة العبد بربه تحميه من تقلبات الأيام وجحود البشر، ويستشعر معية الله عزّ وجلّ التي تعصمه من كل عاصفة من عواصف الزمن، وكل نائبة من نوائب الدهر.   - تاسعاً: إدراك أن لكل مرحلة خصائصها ومشكلاتها: يقول الله عزّ وجلّ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/ 4)، فإذا ما أدرك الرجل في منتصف العمر أنّ الله تعالى خلقنا وقدّر لنا أن نمر بمراحل هيأها لنا، وأن لكل مرحلة مزايها وعيوبها ومشكلاتها، وأنّ للصابرين أجرهم بغير حساب؛ لتقبلنا ذلك شاكرين، وما تحسرنا على ما فاتنا نادمين، فكل شيء يسير بتقدير من الله تعالى، وكما قال رسولنا الكريم (ص): "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، وأن مردّنا في النهاية إلى الله، وأنّ الله يرفعنا في درجاتنا حسب اعمالنا وما تكنّه قلوبنا من تقوى، وليس على أساس أشكالنا، وما استمتعنا به من حُطام الدنيا وزخارفها.   - عاشراً: التنفيس مع صديق حكيم: ينصح علماء النفس من يمرّ بأزمة منتصف العمر أن يصطفى صديقاً أميناً حكيماً، ويحكي له ما بداخله، فمجرد تنفيس الرجل عما بداخله يريحه نفسياً، وييسر عليه المرور من الأزمة بسلام، فإذا لم يجد الصديق المناسب لهذا الأمر، فإنّه يستحسن أن يلجأ إلى أحد العلماء أو الدعاة المؤثرين، أو إلى أحد المختصين في التربية وعلم النفس، أو الاستشاريين، أو الأطباء، ومن المفيد أيضاً في هذا السياق أن يأتي الرجل بورقة وقلم ويكتب كل ما بداخله وما يضايقه، ثمّ يمزق هذه الورقة ويتخلص منها، فما أشبهها بالصديق الكاتم للسر، الأمين على أسرار صديقه.   - حدي عشر: مساعدة الأسرة للزوج: فالأسرة المثقفة الواعية يجب أن تتفهم تلك المرحلة، فالزوجة عليها دور كبير، فهي عندما تتقرب إلى زوجها وتبدي له حبها ومشاعرها ناحيته، وتتحدث عن الماضي الجميل بينهما، وتتقبل أخطاءه؛ فإن ذلك من شأنه أن يعين الزوج المبتلى بهذه الأزمة، وهذا خير لها من أن يتزوج بثانية. ومن معينات الرجل على تجاوز الأزمة تفهّم الأبناء خصائص تلك المرحلة.. فقربهم من أبيهم، وبرهم به، ووفاؤهم له، وإعانتهم له.. ذلك كله يعينه على تجاوز الأزمة بسلام.

ارسال التعليق

Top