• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهذه هي الرجولة؟

أريج إبراهيم درويش

أهذه هي الرجولة؟

 

ثمّة غرف حزينة إلى حد التبعثر في ألم لا نهاية له. تلك الغرف، هي التي تعاقبك لدى دخولها بأشباح الذكرى التي عبثاً حاولتَ نسيانها، فتغمض عينيك متجاهلاً ما يمرُّ أمامهما من أوجاع. تتابع طريقك متفاجئاً بقدرة الإنسان الغريبة على الاستمرار في الحياة صامداً، على الرغم من طعنات الزمن القاتلة. وتحاول مرغَماً ترويض أيامك على وقائع ما كنت تتوقعها يوماً، مزروعة في طريقك إلغاماً تسعى إلى تدميرك وسحقك خطوة خطوة. تحيط بك تلك الهواجس السوداء التي تعكر مزاج روحك، المتطلعة دوماً إلى الصفاء والسلام. ولا تجد حلّاً.. ولا مَخرجاً. هنا، وفي هذه الغرفة تجمعت دموع سنين من القهر. وهنا، وعلى هذا السرير الخشبي انهالت عليها يده القاسية بالضرب إلى حدّ الإغماء، وبشهية غامضة غريبة متوحشة للسادية. كانت تخرج من تلك المعركة أشلاء امرأة محطمة الكرامة، مجروحة الكبرياء، إضافة إلى تلك الكدمات والرضوض الجسدية التي كانت تتطلب أياماً لتشفى. وما إن تشفى حتى يظهر سبب وجيه في نظره لضربها وتأديبها وإعادة تربيتها من جديد، لتغطي تلك الكدمات جسدها مجدداً. حتى إنها اعتادت أخيراً على هذا الوضع، فلم تعد تشعر بالألم عندما ينهال عليها صفعاً وركلاً، بل كانت تنظر إليه صامتة بعينين مفتوحتين جامدتين فقدتا بريق الحياة، متسائلة في أعماقها ذلك السؤال الذي لم تجد له جواباً في يوم ما: "أهذه هي الرجولة؟". لطالما بحثت عن أسباب عُنفه وقسوته علّها تجد سلواناً في كونها مذنبة، إلا أنها لم تجد ذنباً يكبّلها أو أي خطأ تتحمل مسؤوليته، فهي زوجة مطيعة ومثالية. والأهم من هذا، هي امرأة بسيطة تعشق الهدوء الذي أصبح حلماً تسعى إليه، بعد أن أصبحت حياتها كابوساً مستمراً. فهي تخشى وجوده في المنزل، ويرتجف جسدها بالكامل عندما يحدثها بصوته القاسي، ويرمقها بنظرات مفعمة بالكراهية والبغض. تنتظر رحيله بفارغ الصبر لتتنفس الصعداء وتعود لطبيعتها المرحة المحببة، فتغني وترقص على جروحها، متناسية عصاه الطويلة التي تترصدها عند كل خطوة. فقد تعبت من إيجاد المبررات لعنفه، لأنّه، بالتأكيد وفي شرع الإنسانية لا توجد مبررات لهذا العنف الزوجي. ولا توجد أعذار لحرمانها من حقوقها كامرأة وزوجة، تلك الحقوق المماثلة تماماً للواجبات التي يطالبها بها دوماً. كان في تلك العلاقة الزوجية الروتينية اهتمام أحادي الجانب برغبات الزوج، وسعياً أنانياً لتلبية رغباته واحتياجاته، مع تجاهل تام لرغبات الزوجة وحاجاتها. حتى إنّها في خضم هذه الرتابة، نسيت أنّها إنسانة تحمل في داخلها مخزوناً فائضاً من المشاعر الجميلة والأحاسيس الجياشة. لقد نسيت حتى، أن لها قلباً ينبض، وأن ذلك القلب لطالما بنى أحلاماً وردية حول عشّ الزوجية، الذي تحول بعد فترة قصيرة من الزواج إلى ساحة للضرب والذُّل والخوف.إنّه الظلم بكل أبعاده الوحشية، أن ينهال رجل بقوته وجبروته بالضرب على امرأة لم تخطىء في حقه. فقط، لمجرد أن يثبت أنه ربُّ البيت المعبود، وليسحقها كإنسانة ويميت في أعماقها جذور الحياة. ويبدو أن زوجها لم يدرك حتى الآن أنه عمل بالتدريج وببطء شديد على تجميد مشاعرها تجاهه، حتى أصبحت روحها تسبح في فراغ لا معنى له، وأضحت ذكراه في نفسها مرتبطة بالألم الجسدي، وبتلك الجروح النفسية التي لن تشفى معها طال الزمن. في بادئ الأمر، كان الأمر كارثياً بالنسبة إليها، لأنّها لم تكن تنتظر خيبة الأمل المميتة من الرجل الذي اختارته بملء إرادتها، وبكل مشاعرها الفتية التي طالما اتجهت نحوه بقوة غريبة وبإنجذاب غير محدود. أجل، لقد احترق قلبها بنيران الحب الأوّل مرة، عندما نظر إليها في ذلك الزفاف المشؤوم، وتابعها بنظراته طوال السهرة. حتى إنها عندما عادت إلى المنزل، شعرت بعينيه تتبعانها لتمتد جذور العشق الأوّل في أعماقها ولتذوب شوقاً إلى عينيه اللتين أصبحتا في ما بعد محور حياتها وأساس سعادتها. لم تمضِ أيام قليلة، حتى رأته في منزلها يطلبها للزواج من والدها. وخلال فترة قصيرة، زفّت إليه عروساً لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، بعد أن تركت دراستها من دون أي تفكير في المستقبل، ومن دون أي توجيه ممن حولها. فقد كان همّ والديها الأساسي، هو التخلص من عبء بناتهما السبع بتزوجيهنّ بأوّل طالب. وبحكم أنها الابنة الكبرى، فقد فتح زواجها باباً واسعاً لزواج أخواتها. وانتقلت إلى منزل زوجها محملةً برصيد فائض من الأحلام الوردية، وتصميم داخلي على كسب رضا زوجها ومحبته، وجعل بيتها جنة صغيرة تحيط بها ملائكة الحب والرحمة، وتتدلى فوقها عناقيد الشغف. بدأت حياتها معه بالاستسلام التام لأقواله وأفعاله: من دون أي مناقشة أو معارضة، ظناً منها أن كل ما يقوله أو يفعله، إنما هو نابع من محبته لها ومتجه نحو مصلحتها، فقد كانت تثق به كرجل قوي، قادر على كل شيء. لكن هذا الاعتقاد، بدأ يتزعزع عندما ضربها لأوّل مرة بعد شهر واحد من زواجهما لسبب تافه، لا تجرؤ على ذكره حتى لا تتعمق جذور الحقد في أعماقها تجاهه. ولم تشكُ أمرها لأحد، لأنها، على الرغم من صغر سنها، إلا أنها تدرك تماماً أنها لن تجني إلا الخيبة من موقف أهلها السلبي تجاهها. ففي رأي والدها، أن من حق الزوج ضرب زوجته حتى لا تتمادى في عصيانها. وهذا ما كان يفعله مع والدتها التي كانت تقابل العنف بالابتسامة الراضية وبصبر غير محدود. إلا أنها، وعلى الرغم من تربيتها الصارمة الموجّهة نحو الخضوع المُذل للاهانات غير المبررة، كانت ترفض ذلك تماماً وتلوم والدتها على صمتها المهين. شيء ما في داخلها كان ينادي بحقوقها كامرأة، لأن الله محب وعطوف ولن يرضيه ما يقوم به، ذلك المجرد من أي مشاعر إنسانية، لأنّه لا توجد أي تسمية يمكن إطلاقها على ذلك المشهد، الذي ينهال فيه رجل بقوته وجبروته بالضرب على امرأة ضعيفة وُعت حياتها أمانة بين يديه. إن هذا الرجل ببساطة مطلقة يملك نزعة إجرامية تتمثل في بداياتها في الإيذاء الجسدي والروحي لأقرب الناس إليه. لطالما تجاذبتها أمواج الفكر بين مدٍّ وجزر.. فتارةً، تبدأ في وضع المبررات والتنقيب عن أسباب منطقية لتصرفات زوجها، متذكرة وصايا أمها بكسب رضا الزوج والصبر على هفواته. وتارةً أخرى يعلو صوت عقلها غاضباً ثائراً على ضعفها واستسلامها، مصمِّمة على محادثته وفتح باب النقاش معه. إلا أنها سرعان ما تتراجع وشريط الذكريات يمرّ أمام ناظريها، لتتيقن أنها عندما تغلبه بمنطقها وحكمتها في نقاش. ما، يلجأ إلى الضرب من دون سبب واضح، لينهي الحديث بطريقة مأساوية، حتى إنها اعتادت على هزّ رأسها بالموافقة على كل ما يقوله ويفعله ليبتسم راضياً، وبالتالي لتبتعد عصاه الطويلة عن جسدها المتعَب. كانت تتساءل دوماً عن كيفية التخلص من تلك الهواجس السوداء التي تلاحقها أينما تحركت في منزلها، إلا أنها لم تجد حلاًّ ولا مَخرجاً. انتفض جسدها بقوة عندما سمعت صوته يناديها فجأة، وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل. لقد عاد من سهرته اليومية خارج المنزل. لملمت أفكارها، وأغمضت عينيها بقوة متجاهلة ما يمرُّ أمامها من أوجاع. وضعت الابتسامة قناعاً على وجهها المتألم، وأسرعت نحوه لتلبي طلباته.

ارسال التعليق

Top