• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهمية التربية الذوقية في حياتنا

د. سمير يونس

أهمية التربية الذوقية في حياتنا

     التربية الذوقية عملية تُكسب الشخص الاستمتاع بالجمال وتذوق الحسن من الأشياء والأقوال والأعمال، وأساس ذلك سلامة الذوق الفطري، وتعهد النفس بالتهذيب والتأديب وتحسين الأخلاق وترقية الأدب.

    وفي الكون آيات مبهرات من جمال صنع الخالق سبحانه، لا تحتاج من الإنسان أن يتأملها، وأن يربي نفسه وغيره على النظر والتمعن فيها.

    والإنسان بطبيعته الذوّاقة يشعر بحاجته إلى الاستمتاع بالجمال، فذلك يخفف من توتره، ومن ضغوط الحياة، ويضفي عليه نضارة وحيوية ونشاطاً، تعينه على مواصلة رسالته في الحياة والنجاح فيها.

    ولقد أكد المربون أهمية التربية الذوقية لدى الصغار والكبار على السواء، ومن ثمّ، وجب علينا أن نهتم بتربية الذوق لدى أولادنا منذ الصغر، إذ يقول المربي الألماني "هربارت سبنسر": "من لم يعتَدْ في صغره التجوال بالخلاء، وتنسيق مجموعات من النباتات، صَعُب عليه أن يفقه ما انطوت عليه المروج الخضراء، والحقول الزهراء، ورائق الشعر، ورائع النظم".

    وقال بعضهم: "إن عدم تذوّق الجمال منذ الصغر، وإهمال تربية عاطفة حب الجمال لدى الناشئة تفقدهم السعادة، وتخمد فيهم شعلة الذكاء، وفي ذلك إضرار بالغ بأخلاقياته وسلوكياته، كما أنّها تعوق نضج الشخصية".

    

    - التذوق وجمال الكون:

    قد يُحاط الإنسان بلوحات جميلة طبيعية تفيض جمالاً، سواء في الأشياء أم الأقوال أم الأعمال، لكنه لا يستمتع بهذه الأشياء؛ لأنّه لا يتذوق الجمال، ويرجع ذلك إلى ضعف التربية الذوقية الجمالية لديه، وفي مثل هذا الشخص يقول الشاعر:

    والذي نفسه بغير جمالٍ **** لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

    إنّ الشرع العظيم قد أولى التربية الذوقية اهتماماً كبيراً، فدعا إلى التحلي بالذوق الجميل في كل مناحي الحياة، وكان رسولنا الحبيب (ص) قدوة لأصحابه في الخُلُق وجميل السلوك. ذلك أنّ التربية الذوقية تربي في الإنسان الذوق الرقيق، والخلق الراقي، وتزرع فيه الحس السليم، بالإضافة إلى تأثيرها العظيم في مجالات العلاقات الاجتماعية، وكسب حب الآخرين والوصول إلى قلوبهم وعقولهم.

    ومما يعلي من شأن التربية الذوقية الجمالية، أنها السبيل إلى معرفة الخالق، وإدراك جميل صنعه، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى في وصف لوحة كونية غاية في الجمال والعظمة، يستدل من خلالها على قدرته سبحانه وتعالى، وعلى تحقق آياته التي وعد بها عباده، يقول سبحانه: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق/ 6-11).

    وهذا الكون من سماوات مرفوعات وأراض ممدودات، وما فيهما من جمال وتناسق وترتيب دقيق، إنّما يشكل لوحة جميلة من صنع الخالق، وقد أخبرنا رسولنا الكريم (ص) عن رب العزة: "إنّ الله جميل يحب الجمال".

    

    - الذوق عند الفلاسفة:

    لقد اهتم العلماء باختلاف تخصصاتهم بالتربية الذوقية الجمالية؛ إذ اهتم بهذه القضية الفلاسفة المسلمون وغير المسلمين، وتحدثوا عن القيم الإنسانية والمثل العليا، كالحق، والخير والجمال.. إلخ، وجعلوها مرامي وغايات إستراتيجية، يستهدف الإنسان تحقيقها، واعتبارها منهجاً لحياته.

    

    - الذوق وعلماء العقيدة والمنطق:

    كما تناول علماء العقيدة وأصول الفقه والمنطق قضايا الحسن والقبح في الأفعال والأعمال والأشياء، وبحثوها، ودققوا فيها تفصيلاً، فنزّهوا الله عزّ وجلّ عن كل قبيح ونقص، وأثبتوا له سبحانه الحسن والكمال، وبناء على ذلك، بينوا المفاهيم والأسس المرتبطة بالذوق في السلوك الفرد والجماعة، وميادين العلاقات الاجتماعية.

    

    - الذوق وعلماء التربية وعلم النفس:

    كما تحدث علماء التربية وعلم النفس عن التربية الذوقية وتهذيب الوجدان، فقد قسّم "بنجامين بلوم" الأهداف التربوية إلى ثلاثة مجالات:

    أ- المجال العقلي المعرفي:

    ويعبر عن المعلومات والمعارف التي يريد المربي إكسابها للمتعلمين، كما يعبر هذا المجال العقلي عن مهارات التفكير وأنماطه التي يريد المربي إكسابها للمتعلم.

    ب- المجال المهاري:

    ويعبر عن الأداء اليدوي والحركي والجسمي، ومهارات الخط والنطق المراد إكسابها للمتعلم.

    ج- المجال الوجداني:

    وهو المجال المشتمل على القيم، والعواطف، والمشاعر، والأحاسيس، والمثل، والأخلاقيات، ومهارات التذوق الفني والأدبي، والأخلاقي، والسلوكي.

    وهذا يعني أن علماء التربية وعلم النفس قد خصصوا ثلث أهدافهم لميدان التذوق والوجدان.

    

    - الذوق والأدباء:

    وفي عالم الأدب والأدباء نصيب الأسد لفنون التذوق الفني الأدبي، وهي تتفرع إلى مهارات فرعية كثيرة متعددة متنوعة، منها ما يرتبط بتذوق الخيال والتصوير الفني، ومنها ما يرتبط بتذوق الأساليب على اختلاف أنواعها، وكذلك تذوق الألفاظ والمحسنات اللفظية والمعنوية.

    

    - كيف نرتقي بأذواقنا؟

    مادامت التربية الذوقية على هذا القدر من الأهمية، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف نرتقي بأذواقنا ونربي الذوقيات في غيرنا؟

    إنّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي وضع برامج تربوية عملية متكاملة، وربّما مساحة المقال لا تتسع لمثل هذه البرامج، إذ تحتاج إلى بحوث أو مراجع أو أدوات ووسائل وتقنيات تربوية متعددة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، ومن ثمّ، فحسبي هنا أن أضع ملامح أساسية لخطة تربوية ترقى بأذواقنا وأذواق غيرنا، وخاصة بعد أن فسدت الأذواق والذوقيات في ظل الحياة الصاخبة المكتظة بالضغوط وإهمال الجماليات.

    

    - الملامح الأساسية لخطة ترقية الذوق:

    أوّلاً: غرس الإيمان ورفعه وتعهده بالرعاية؛ لأنّه يزيد وينقص، ولأهميته المتمثلة في تكوين شخصية تتمتع بسلامة صحتها النفسية، التي تجعل الإنسان يعيش سعيداً مستقراً راضيا مطمئناً، معتقداً إن فاته نعيم الدنيا فهو على موعده مع خالقه بنعيم الجنة.

    ثانياً: إحسان المربين – معلمين كانوا أم آباء – تربية المتعلمين تربية صحيحة، وبث الثقة والطمأنينة في نفوسهم، ونزع الخوف والجزع من نفوسهم، فإن ذلك يحرر المتعلم من تأثيرات الخوف والاضطراب والقلق والشعور باليأس والإحباط، ويقي المتعلم الانهيار النفسي، ويحقق ذاته ولا يمحوها، فيتمكنوا من تذوق الجمال، وتميز الجيِّد من الرديء في القول والعمل.

    ثالثاً: الاهتمام بالتربية الأخلاقية، لأنّ العلاقة وطيدة بينها وبين الذوقيات، وتقوم هذه العلاقة على التأثير والتأثر، لذلك ركز الشرع العظيم على تربية الأخلاق الكريمة في الشخصية المسلمة، وأثنى على ذوي الأخلاق. قال تعالى مادحاً رسوله (ص): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4). وقد وصف نفسه (ص) معتزاً بربه الذي أدّبه بقوله: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، وقد أوجز النبي (ص) غاية رسالته في قوله: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

    رابعاً: إبراز أثر الذوق على الصحة النفسية والجسمية: أعرف رجالاً بلغ بهم العمر عتيّاً، وتنظر في وجهه تراه مشرقاً منيراً، فيه قسمات الشباب، وينطق بالنضارة والحيوية، وما ذلك إلا أنّه يتذوق الجمال والخير، وتعكس أقواله وأعماله ومعاملاته ذوقاً رقيقاً؛ فهو يحب الخير لغيره، ولا يحمل حقداً لأحد، ويحمل بين جوانبه قلباً رقيقاً مليئاً بالحب والحنان والعطف والرأفة والشفقة، وكل ذلك مبعث السعادة والسرور والطمأنينة والسلامة. وعلى العكس من ذلك، تجد الحقود والشرير يعاني عُقَداً نفسية، فتنعكس على وجهه بالكآبة والشقاء. فإذا ما تعرض هذا الحقود بالأذى لذلك الشخص المحب للخير، فإنّ الخيّر يصبر، فيكون ذلك علاجاً طبيعيّاً يجني منه ثمرات الدنيا والآخرة، في حين يضر الحسود نفسه وغيره.

    ومما أثر عن أمير المؤمنين علي (ع) أنّه أشد في هذا المعنى:

    اصبر على مضض الحسود **** فإن صبرك قاتله

    كالنار تأكل بعضها **** إن لم تجد ما تأكله

    خامساً: تنمية المهارات الاجتماعية: فالإنسان مخلوق اجتماعي – كما قرر علماء نفس الاجتماع – إذ إنّه يميل إلى الاجتماع بالآخرين، والتفاعل معهم، وهو حريص على أن ينتمي إلى جماعة الأسرة، أو العائلة والأقارب، أو الوطن، أو أصدقاء الخير، لذا ركزت كل الرسائل السماوية على بناء الفرد المؤمن والمجتمع الإيماني جنباً إلى جنب بالتوازي.

    وقد أوصى الإسلام بوحدة أبنائه وترابط المجتمع المسلم ووضع آليات عملية لذلك، كصلة الرحم، وتبادل الزيارات، وعيادة المرضى، والمشاركة في الأفراح والأتراح، والاهتمام بالجار، وإغاثة الملهوفين والمنكوبين، والتسرية عن أهل المصائب والشدائد.. وغير ذلك كثير.

    وحتى في العبادات أكد الإسلام ضرورة الحياة الجماعية، فحث على الصلاة في جماعة بالمسجد في اليوم خمس مرات، وصلاة الجمعة، والعيدين، وكذلك في الشعائر الأخرى، كالحج والعمرة وغيرهما.

    ولا يخفى ما للمهارات الاجتماعية من تأثير في ذوقيات الإنسان، وخاصة إذا خالط أهل الذوق والخلق الرفيع.

    سادساً: ممارسة الأنشطة التي توحد العلاقة بين الناس ومتابعة المربين للمتعلمين في ممارسة سلوك الذوق، والحرص على صحبة الخير، وتجنب أصحاب السوء.

    سابعاً: علاج أمراض النفس التي تؤدي إلى فساد الذوق، كالغرور، والإعجاب بالنفس، والتعالي، والتعصب، والعنصرية، والظلم، وفساد العاطفة.. وغير ذلك مما يؤثّر سلباً في ذوقيات الإنسان.

    ثامناً: الاهتمام بالفنون الجميلة على اختلاف صنوفها وألوانها، التي بها يتعود الإنسان على تذوق الجمال والاستمتاع به.

    تاسعاً: استثمار الحدائق تربوياً، لإكساب المتعلمين مهارات التذوق.

    عاشراً: إعادة النظر في مناهجنا التربوية: بحيث تركز على ذوقيات المعاملات والأقوال والأعمال، وأن يخصص مقرر لهذا المجال يسمى التربية الذوقية، في جميع المراحل.

    حادي عشر: كثرة التأمل والنظر في خلق الله وجمال صنعه، فإذا عرفه وذاقه تاقت نفسه إليه، كذلك الذي يحرص على أنّ يتجول في حديقة بيته، ليتأمل جمال النباتات والزهور.

 

    *أستاذ في جامعة حلوان

ارسال التعليق

Top