• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أيها الشاب.. كيف تختار أصدقاءك؟

د. موسى الخطيب*

أيها الشاب.. كيف تختار أصدقاءك؟

◄بقدر ما يكون توقيرك للصداقة سيكون اهتمامك باختيار الصديق. وقد قال رسول الله (ص): "المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يخالل".

 

اختيار الصديق:

إنّ اختيار الصديق يشكّل في حياتك أهمية بالغة. ذلك لأنّ كلا منّا تنقص حياته جوانب، كان يتمنى إدراكها؛ وكلّ منا، كان يود لو استطاع أن يختار حياته.. يختار فضائلها.. ويختار ظروفها. أما وأنّ ذلك غير ممكن، فإننا نلتمس العوض عند الأصدقاء، فنختار منهم الذين نستطيع أن نستدرك بهم ما فاتنا، من فرص الخير والتفوق. ذلك لأنّ الصديق، بحياته وبفضائله، يصير امتداداً لك، ومُكمِّلاً لك. وإنّ حياتك لتتأثر به، وتنعكس عليها كلّ مناقبه ومزاياه.. فإذا أحسنت اختيار صديقك كنت كأنك اخترت حياتك من أولى لحظاتها. حتى إنّ الفضائل التي ضاعت منك في زحام الحياة، تعود إليك مع هذا الصديق!

وهكذا فالذي يحسن اختيار أصدقائه، يضع يده على الحظوظ الوافية في الحياة..

إنّ الصداقة هي المرفأ الذي تنزل بساحته الآمنة بعد رحلة فيها مشقة وكَبرْ. وهي البهجة التي تزودنا بالقدرة على مغالبة الصعاب، وهي ضوء الفجر الذي يذكرنا بأنّ الحياة تجدد نفسها دوماً وتبعث بأنفاسها العطرة إلى المتعبين، فيَخِفوّن سراعاً نشطين.

عندما أرى صديقين حميمين، يتبادلان النظرة الحانية، والكلمة الودودة الدافئة، ويشع صفاء الأنفس على وجهيهما، في مثل سنا اللؤلؤ، أقول لنفسي: أنظر، لكأنّ الحياة عيد..

وقد تسألني كيف أختار أصدقائي؟!

وأجيبك بما جاء في الحديث الشريف: "إستفْتِ قلبك، فإن أفتاك أفتاك".. فأنت أدرى الناس بأصدقائك. ولكن لا ينبغي أن تسمح للرغبات الرخيصة أن تستهويك بظاهِرها، أو تضِلّك دوافعها.

فاختر صديقك في ضوء الإنسانيات الرفيعة، وفي ضوء القيم العليا التي لا ندرك الخير إلّا بها، ولا يرفعنا عالياً سواها.

ليس معنى هذا، أن تَنشُد ملاكاً لا يخطىء، فأنت في أرض البشر، ومن شيم البشر أن يخطئوا، ولست تعيش في الملأ الأعلى!! إنما اهتداؤك بالقيم والإنسانيات الكريمة، سيتيح لك التعرّف بأقرب الناس رحُماً إلى الخير والنبل.

لا تختر الصديق لثرائه، ولا لجاهه.. فالحياة قُلَّب، وكثيراً ما تسخر من أصحاب هذا الاختيار، بأن تخبىء لهم في الطريق خيبة أمل عريضة، تفاجئهم بها في قهقهة وشماتة.

اختر من لحياته قيمة بما يبذل من جهد، وبما يلتزم من واجب، وبما يمارس من دون عظيم.

اختر الصديق الذي يكون كتوماً للسر فلا يُفشيه، وفيّاً بالوعد، حافظاً للعهد؛ واحذر اللئيم.

قيل: "كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال، وكما أنّه لا خير في آنية لا تُمسك ما فيها، فكذلك لا خيرَ في إنسان لا يكتم سراً".

وكان يقال: "أحزم الناس من لا يفشي سرّه إلى صديقه، مخافة أن يقع بينهما شر فيفشيه".

وقيل: "الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار حُمق".

 

الصدق:

واختر الصديق الذي يكون "صادقاً" و"أميناً". فمن كان صادقاً كان أميناً.

قال رسول الله (ص): "إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً".

ثمّ ماذا بعد اختيارك للصديق..؟

فإذا اخترت أصدقاءك، فاذكر كلمة "هويتمان": "إن وراء كل ظفر يتحقق، حاجة إلى الجهاد أشد وأعظم". أجل عندئذ قل لنفسك. لقد وجدت الأصدقاء، والآن عليّ أن أحتفظ بهم..

لا تكن كالذي يَنقِضُ غزْلَه، ويبني ليهدم..

إنّ الصديق القويم، هو الجزء الغائب من حياتك، فإذا أعثرك الله عليه، فاجعل من تمام شكره أن تحتفظ بهذه النعمة وترعاها، ولا تدعها تفلت من بين يديك.

ولكي تحتفظ بأصدقائك عليك أن تبذل من وفائك بغير حساب، فالوفاء لا ينقص بالبذل، وإنما ينمو ويزيد... ولا تظن أنّ الوفاء مقايضة... فهو يُولم لك، فتولم له.. وهو يهدي إليك فتهدي إليه.. وهو يزورك فتزوره...

إنّ هذه مع أهميتها قشور، إذا لم تفعم بواطنها بروح الوفاء.. وروح الوفاء، معطاءة دائماً. ومهيأة باستمرار لإرسال فيضها ومعناها، ولا تسأل، إن كان الذي ستدثره، يستحق أو لا يستحق... لأنها تعبر عن نفسها، وتتنفس طبيعتها الفاضلة.

واذكر أنّ الصديق شخص آخر له شخصيته، وله كيانه، فلا تحاول أن تجعل منه تابعاً لك، ولا تحاول أن تفرض عليه رأياً لا يقتنع به، أو سلوكاً لا يريده.

وحتى إذا كنت متفوقاً عليه في بعض مزايا الخلق، فلا يحملنك ذلك على دمجه فيك، وصوغه على غرارك. أما أن تحاول تغيير طباعه طفرة، فهذا أقرب الطرق إلى أن تخسره...

إننا نخسر الزهرة، إذا تعجلنا نموها، فقطعناها.. أما حين نتركها فوق ساقها وجذرها، تمتص عن طريقهما من الأرض الحياة، فإننا نسمع صوت نموها في غبطة وأمل.. كذلك صديقك، لا تتعجل نموه بفصله عن ذاته، وإلحاقه بذاتك أنت، مهما تكن فاضلاً ومتفوقاً، بل ساعده على توثيق عُرى وجوده، وإزجاء الظروف الطيبة التي تسمح لفضائله بالإزدهار.

أذكر دائماً أنّ الصداقة مشاركة، لا تلامس، ولا ذوبان، وليس من عمل الصداقة إزالة التخوم الطبيعية القائمة بين شخص وآخر.

إنما مهمتها ألا تتحول هذه التخوم إلى "خطوط قتال". بل ولا إلى "خطوط هدنة"، إنما تظل حدوداً مشتركة، وأرضاً جامعة تترعرع فوقها صداقات عديدة، وعلاقات طيبة، وتؤتى كل روح هداها.

ساعد صديقك على أن يهرع إليك بأسراره وهو مطمئن.. فنحن جميعاً تمر بنا تلك الأوقات التي ننوء فيها بأثقال أنفسنا، ونبحث عن الإنسان الأمين الذين نستطيع أن نفرغ أمامه همومنا، ونخرج له خبء أنفسنا، ونكشف له كل ذواتنا الباطنة، وشؤوننا الخاصة، ونفتح له أبواب ملكتنا التي لا يعرف أسرارها أحد سوانا..

وحين يسرّ إليك أحد بخاصة أمره. فهو في الحقيقة يدعوك لتحمل بعض همه.. فكن نبيلاً، واجعل لسرِّ صديقك حُرمة وقداسة تنأيان بك عن كلِّ تفريط في صونه وكيانه.

إنّ حفظ السر أصدق دلائل الرجولة والقوة. والإنسان الذي يضع أسرار الآخرين على طرف لسانه الثرثار، لا يساوي وجوده رسم شهادة الميلاد التي لا يملك من مظاهر الحياة سواها.

والصداقة، مثل الكائن الحي، تحتاج دوماً إلى غذاء وريّ، فلا تسلم علاقتك الودودة إلى الفتور أو الشك.. فكلاهما سهم قاتل. بل تعهدها دائماً كما يتعهد البستاني الحاذق زهور الحديقة وثمارها.

إسقها بالكلمة الحلوة، والبسمة الحانية، والنظرة الصافية، والمجاملة الصادقة، والمشاركة النبيلة، والثقة الوطيدة.

والصداقة خلطة دانية دائمة، وكلّ خلطة بين اثنين عُرضة للعثرة، وسوء الفهم.

فوطد نفسك على النسيان والصفح. ولا تجعل أعصاب الصداقة مشدودة متوترة. وطن نفسك على أن تكون للمعاذير عندك حُرمة، وللعثرات من تسامحك نصيب.

وإذا اعتذر صديقك عن خطأ أتاه، فتقبل اعتذاره بطريقة تُنسيه خطأه، ولا تَلِجّ عليه في تذكيره بخطئه، ولا تكن في عتابه مُقرِّعا.

هناك وصية حكيمة قالها الرسول (ص):

"من أتاه أخوه متنصلاً فليقبل منه، محقّاً كان أو مبطلاً"!.. لله ما أروع هذه العبارة الفاضلة: محقاً كان أو مبطلاً!

ذلك أنّ الاعتذار، يتضمن الاعتراف بالخطأ، ويتضمن الرغبة في مغفرته. فالذي لا يستجيب وجدانه لمثل هذه المواقف، استجابة كريمة لا يكون إلا صاحب إنسانية متخلفة، تتسم بالبلادة والجفاف.

والصداقة، اهتمام حافل بالرغبة في الخدمة وإسداء العون، فلا تحمل همومك إلى صديقك، ثمّ تعطيه ظهرك حين يحمل إليك همومه. لا تطالبه بالتفكير من أجلك، وتُخلي نفسك من مسؤولية التفكير معه، ومن أجله. لا تخذل طموحه العادل، ولا تثبط همته الواثبة، ولا تتخلف عن نصرته حين يستنصرك، ولا تجعله يفقدك حين يحتاجك.

هناك نوع من الناس، لا يمكن الاعتماد عليهم إلّا حين لا تكون ثمة حاجة إليهم، فلا تكن واحداً منهم، ولا تتخذ لنفسك صديقاً من بينهم، فعظمة الصداقة، أنها تحمل مسؤوليات لا تفرضها قرابة ولا دم. وإنها لتحملها في غبطة تجل عن النظير.

ضع عينك على محاسن صديقك دوماً، وتحدث معه بشأنها، وامنحه ما يستحقه من التقدير والعناية به.

وبعد... فإنّ كلَّ ما كتبته لك هنا عن الصداقة، لخصَّه وربما زاد عليه أحد علماء الصوفية النابهين، ذلك هو "السريُّ السقطي" وإليك عبارته التي لم يُقل في الصداقة، أجمع، ولا أمتع، ولا أوجزَ منها:

"لا تتم المحبة بين اثنين، حتى يقول أحدهما للآخر: يا.. أنا"!!

ولعل من الخير أن نجعل عبارة الإمام الحسن (ع) عن الصداقة هي ختامُ حديثنا:

"الصديق من استَروحَت إليه النفس، واطمأن إليه القلب".►

 

*مُدرس بجامعة الأزهر

 المصدر: كتاب وصايا الدهر إلى شباب وشابات العصر من منظور إسلامي

ارسال التعليق

Top