• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إبتسـامــة أُمــي

محمد عباس علي

إبتسـامــة أُمــي

نوع جديد من الفرح أطل من حدقتي أُمّي.. كساهما بلمعة متألقة. أبي أيضاً رأيته حليق الذقن.. يجلس راسماً على شفتيه إبتسامة مرحبة بضيوفه الكرام، بينما صورة جدي على الجدار جالساً في إطاره الداكن مفرود الصدر، مستقيم الطربوش أعلى الرأس، شاربه يبدو من خلف الزجاج مبروماً على جانبي وجهه، ونظراته مغلفة بقوة واعتداد. تركته رامياً بنظرتي حولي، أضواء النجفة تهطل من السقف صفراء مشرقة، تتألق على بياض الجدران، الستائر حرس شرف تقف زاهية حول الشرفة مفتوحة الشيش، بينما منال أختي هناك في الداخل تعد المشروبات التي ستقدمها للضيوف. همست أُمّي في أذني بصوت يشي بتوترها:

-        أختك تأخرت. هرولتُ إلى الداخل أبحث عنها.. مرتبكة كانت.. زائغة العينين.. تطل على المرأة مدققة.. تلمحني بطرف عينها.. تهمس وهي مازالت تفحص فستانها الجديد وزينتها: -        ما رأيك؟ -        تبتسم عيناي.. أقول بمكر: -        رأيي أنا؟ تصطنع الغضب.. أتركها إلى المرآة.. وجهي يحمل بسمة هائلة.. حافظت عليها لأواجه بها الضيوف. عبر الممر الضيق الواصل بين الغرف الداخلية والردهة الواسعة، حيث نجلس والضيوف سارت منال، مضت كأنّها تعبُر برزخاً إلى ميلاد جديد، مرفوعة الرأس كانت، باسمة الوجه. يمتد شعرها كذيل حصان، ناعماً حالك السواد خلف ظهرها. بينما أنوار النجفة تغلف بصفرتها بياض الحوائط، وطاقم الأنتريه الطوبي، والسجادة الحمراء المزركشة بالخطوط والتعاريج الزرقاء. تحمل منال الصينية وفوقها العصير في أكواب مزينة الزجاج بفروع الشجر الخضراء، ومعها فناجين القهوة المزركشة بماء الذهب ذات الوجه الثقيل، الذي يدل على تمرسها ومهارتها.. تقدمت إلى أُم العريس وخداها يلتهبان احمراراً.. لاقتها المرأة ببسمة حانية وحملت أقرب الأكواب إليها.. تركتها إلى والده الذي دهش لها: -        مرحباً بعروس ابني.. أرخت جفنيها ستاراً يخفي ما اعتراها.. استدارت إلى العريس.. تلاقت الأعين في نظرة ذات مغزى.. جفلت واهتزت الصينية بين يديها.. هب لمساعدتها.. تلامست الأيدي.. ازداد ارتعاد الصينية.. فرت إلى أُمّها.. جلست تحت جناحها مرخية أهداباً ترقب من تحتها ما يجري. رأيت عيني أُمي تتألقان.. ترفع يدها أعلى فمها وتطلق زغرودة مدوية.. مشرقة الوجه كانت بعد قراءة الفاتحة، وتحديد موعد العرس.. شفتاها تنغمان الزغرودة ووجهها، على الرغم من التجاعيد يتفتح عن سعادة وهي تطيل وتمد في صوتها.. تشاركها أُم العريس بزغرودة أكبر.. أحدّق إلى الشرفة التي تعمدت أُمّي أن تتركها مفتوحة.. مؤكّد، الجيران الآن يتحرقون شوقاً إلى إنتهاء الزيارة كي تأتي وفودهم للتهنئة.. أتطلع إلى صورة جدي على الجدار. يقولون إنّ الموتى يحسون بالأحياء. تُرى ما شعورك الآن يا جدي؟ بدأت عبارات المجاملة تنتقل كطيور مرحة بين الشفاه. فجأة، وسط هذا سقط أبي. رأيته يميل على جانبه الأيسر فاقداً القدرة على الحركة، ناظراً إلينا بعينين متسعتين تشعان ببريق دهشة.. غطت وجه أُمّي صُفرة.. تصلبت قسماتها وهي تهرول إليه. تنسى الفرح والضيوف وتحدق إلى عينيه هامسة بصوت كأنّما يصدر عن غور عميق: -        مالَك؟ وهو يبادلها النظر مزموم الفم. ..... كما أمرتني أُمّي وقفت أمام الباب أستقبل المدعوين. أقودهم إلى الداخل حيث عرس منال، بينما أُمّي هناك في كل مكان تشرف على كل ما يجري حولها في تمرس شديد.. كانت قد رفضت إلغاء الموعد الذي تم الإتفاق عليه.. أصرت على أن يتم العرس قائلة إنّها لن تخلف وعداً قطعه المرحوم والدي. تذكرتها قبل الحفل بأيّام وهي تتحدث إليَّ. كان وجهها غير الوجه الذي أعرفه وكلماتها غير الكلمات التي تعودتها. حدقت إلى عيّني وهي ممسكة بيدي بين كفيها في قوة وهي تقول: -        لقد كبرت الآن.. صرتَ رجل البيت.. هل تعي ما أقول؟ هززت رأسي.. نعم.. وقلبي يرفرف داخل صدري بقوة.. أردت أن أقول شيئاً.. لم أجد بين شفتي حروفاً تصف ما بي.. تريدني كبيراً.. كيف، وماذا أفعل.. همست ببطء: -        ماذا أفعل لأكون كبيراً؟ قطع أفكاري قدوم العروسين والضجة التي ثارت حولهما.. دُرت أصور تلك اللحظات بالكاميرا.. الشاب الذي حمل مُديتين وأخذ يرقص بهما وسط الزفة.. تصفيق الآخرين.. زغاريد النساء.. السعادة التي تغلف نظرات منال وعريسها، بينما أُمّي هناك تتابع عيناها ما يجري حتى إذا جلسا في الكوشة، تنهدت بعمق ملقية بجسدها على مقعد قريب. تركتها إليهما.. الورود يانعة حولهما.. الأنوار خلفهما على هيئة قلبين يضمان مقعديهما، وأمامهما الموسيقى والغناء. استدرت لأُمّي أسألها أن تأتي.. أريد تصويرها معهم.. كانت تبكي.. ارتعدت الكاميرا في يدي.. لأوّل مرّة منذ وفاة أبي تفرج عن دموعها.. تترك لها العنان لتنطلق سهلة على ثنايا وجهها من دون أن تفكر في ملاحقتها، أو إعتقالها قبل أن تفكر في البزوغ كما كانت تفعل. أدرت الكاميرا إليها.. انتبهت لي.. من بين الدموع بزغت بسمة صغيرة حية أضاءت وجهها، كأنّما هي نهار صحو بهي الطلعة، يطل حيياً من خلف أستار الليل مؤذناً بزوال الظلمة.. شدني المنظر.. التقطت الصورة. بعدها، حين طبعت الفيلم تأملت بسمتها بشغف. وإلى الآن أنتقل من صورة إلى أخرى متعجلاً، لكنني دائماً أقف أمام هذه الصورة بالذات، ألبس نظارتي ذات العدسات السميكة لأراها بوضوح، وعادة كلما نظرت إليها أسأل الله لها الرحمة وأسألها جاداً.. ماذا أفعل لأكون كبيراً؟ وعلى الرغم من الشجون، أبتسم.. *كاتب من مصر

ارسال التعليق

Top