• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إمنحوا أولادكم مفاتيح الثقة بالنفس

د. سلمان بن فهد العودة

إمنحوا أولادكم مفاتيح الثقة بالنفس
  الأُم غاضبة على البنت المراهقة.. تتحدث بحزن شديد كيف أنّ هذه المخلوقة التي حملتها تسعة أشهر جزءاً من جسدي، وأطعمتها من زادي، وأمددتها بنسغ الحياة من روحي.. أصبحت تتمرد على أوامري، وتضرب عرض الحائط بكل توجيهاتي.. حديث الأم مؤلم موجع، ودافع الأم نبيل، إنها تخاف على بنتها من تأثيرات تجهلها، وتدرك أنّ البنت ما زالت في غرار صباها، وما زال طريقها إلى تجارب الحياة وخبراتها في بدايته الأولى، ولذا فهي تتأثر بلين القول، أو تتساهل في خطوة عادية تجرّ وراءها خطوات. من ذا يُشكك في رقي هذه الدوافع وسلامتها وأهمية وجودها عند أي أم؛ لتؤدي دورها في التربية والرعاية والاهتمام؟ وما معنى الأمومة إن لم تكن هذه المعاني حاضرة فيها؟ وبقدر رسوخ هذا المعنى وعظمته حضر في ذهني معنى آخر.. أنّ الولد – ذكراً أو أنثى – هو كائن مستقبل؛ يأخذ طريقه للحياة كمخلوق آخر، يكبر ليحصل على المسؤولية والتكليف الشرعي، حتى يصبح محاسباً مسؤولاً عما يعتقد ويقول ويفعل.. حتى لربما صار على النقيض من والديه. حكى لنا الله في القرآن قصة نوح النبي وابنه الكافر، وقصة إبراهيم النبي ووالده الكافر، وأشار إلى أحوالٍ جرت في عهد النبي الخاتم (ص) من تخالف في الدين والمعتقد بين آباء وأبناء، ولذا قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة/ 23)، ثمّ عقّب بقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24). وقد يكون التباعد بين الآباء والأولاد دون ذلك، فيكون الأب مطيعاً والابن عاصياً، أو بعكس هذا.. فثمّ استقلال تام في نهاية المطاف. (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164). أجد من ملاحظتي للأنماط التربوية أن من الآباء من ينحاز للأصل الأوّل، فتغلبه النظرة للأبناء باعتبارهم امتداداً له، ويستحضر بصفة مستمرة، وربّما ضارة، أنّه فعل لهم وفعل، وكأنّه يمنّ عليهم بما عمل، مع أنّ الحنان والرعاية فطرة إلهية حتى لدى الحيوان، وربما عيّر أب ابنه وذكّره بأنّه نطفة منه!.. ونتيجة لهذا يتجاهل بعض الآباء حاجات الابن في تلك السن المبكرة، وميله لمن هم في مثل سنه ومستواه، يشاركونه الحديث واللغة والاهتمام والدراسة والميل والعادة. ويتجاهل آخرون متغيرات الزمن وطوارئه بين ما كانوا عليه أيام الشباب وما عليه أبناؤهم الآن، ويريدون منهم أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا أو يتصرفوا كما كان آباؤهم يفعلون حين كانوا في مثل سنهم.. ولذا كان علي (ع) يقول: "لا تُكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم"، فثم متغيرات في شتى النواحي بين الأجيال يجب اعتبارها، لئلا تكون التربية قسراً وإكراهاً يقتل شخصية أبنائنا ويفقدهم الثقة بأنفسهم.. ومن المربين من ينحاز للأصل الثاني فيمنح الأولاد حرِّية مطلقة من أوّل الأمر ولا يسمعهم كلمة "لا"، ولا يشعرهم بأنّهم جزء من منظومة "الأسرة" يستوجب عليهم الانتماء لها. ولهؤلاء وأولئك أقول: أعطوا أولادكم المفاتيح! أعطوهم مفاتيح المسؤولية فلا تصادروا شخصياتهم، وامنحوهم حق التدريب والعمل والمحاولة والخطأ أما أعينكم وفي حياتكم؛ حتى تطمئنوا قبل الرحيل إلى أنّ الأمور ستكون بخير، دعهم يتولون مناصبهم ووظائفهم التي تقتضي سنة الحياة أن تؤول إليهم حتى لا يختلفوا بعد موتكم اختلافاً يضر بهم وبالتراث والميراث الذي يصير إليهم، ويضر بالقرابة والجيران والصداقات.. وكم من نار تحولت إلى رماد. أعطوهم مفاتيح البناء بالاعتماد على النفس والثقة بها، والصدق والإخلاص، فلا شيء يربي على الكذب والمراوغة مثل التربية القاسية.. لا يحملنكم الحب على المبالغة في الخوف، فمردود هذا على الأولاد هو التحفيز على المغامرة الشديدة إن كانوا أقوياء الشخصية، أو الاستسلام والانهيار إن كانوا ضعفاء.. وقديماً قالت العرب: "ومن الحب ما قتل". أعطوهم مفاتيح النجاح بالتوجيه الهادئ، والجلسات الحميمية، والعلاقات السمحة، والصبر الطويل، والكلمات الحكيمة التي تظل تجلجل في أسماعهم ما داموا على قيد الحياة يذكرونها ويذكرونكم معها بالخير ويسلمونها لمن بعدهم. لا تظنوا أنّ الغضب الدائم والعتب المستمر والهجر الطويل هو الحل.. فما قيمة أن يعملوا لكم أشياء وهم يكرهونها في قرارة نفوسهم، أو يتركوا لكم أشياء ونفوسهم تتحرق شوقاً إليها..؟! سيجدون يوماً أنفسهم أحراراً في الفعل والترك، فليكن جهدنا الكبير في غرس حب الإيمان والصدق والعمل والأخلاق في قلوبهم، وكره الفجور والجهل والكسل والفوضى وأهلها، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات/ 7). أن نغرس في نفوسهم حب الصلاة لا يقل أهمية عن أدائهم للصلاة ذاتها، وأن نربيهم على كره الكذب والسرقة لا يقل أهمية عن تركهم لها. ولا تدعوا على أولادكم إلا بخير حتى لو غضبتم.. الدعوات الصالحة الصادقة من الوالدين مظنة الإجابة وأن تفتح لها أبواب السماء فاجعلوا دعواتكم لهم جزءاً من مشروع التربية والتوجيه والأمل الجميل. (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

ارسال التعليق

Top