• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإيمان.. معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان

د. الشيخ أحمد البهادلي

الإيمان.. معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان

◄معناه: قيل إنّ الإيمان لغة: الثقة وإظهار الخضوع وقبول الشريعة. وأصله الأمن ضد الخوف، وكأنّ المؤمن باعتقاده وعمله وما يظهره على لسانه ممّا يعتقد به قد أمن في الدنيا والآخرة، أو أنّ الله سبحانه قد ائتمنه على هذا الاعتقاد. أو إنّه يؤمّن على الله فيجيز أمانه.

وللإيمان في لغة التشريع الإسلامي معنى حدّدته الأخبار المرويّة عن المعصومين – عليهم السلام –، أذكر منها:

1-    عن عليّ بن أبي طالب (ع) قال: "قال رسول الله (ص): "الإيمان معرفة القلب وإقرار اللسان وعمل بالأركان".

2-    وعن أبي جعفر (ع) قال: "الإيمان إقرار وعمل ونية".

3-    وعن الرضا (ع) قال: "الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان".

ويبدو من كلّ هذه الأخبار وغيرها من أمثالها أن مقومات الإيمان ثلاثة:

المعرفة، وإظهار ما يعرفه من معتقدات على لسانه وبخاصة الشهادتين، وطاعة الله في أركان الشريعة المقدسة.

وفيما يأتي أضفي على هذه المقومات بعض الإيضاحات:

 

1-    المعرفة بالقلب:

يبدو من تعريف الإيمان في الأخبار بالمعرفة دون تعريفه بالعلم، أنّ العلم وإن اقترن بالإقرار اللّساني والعمل بالأركان لا يتحقق به معنى الإيمان، فربّ عالم بأصول دينه وضروريات تشريعه مقرّ بلسانه بما علم به مواظف على الأركان بل على جميع الواجبات والمندوبات، ولكنه منافق ومراءٍ.

فالعلم النظري لا يستلزم الجري على ما يقتضيه النظر، وإن جرى عليه اسم العالم فلا يستلزم جريُه هذا إخلاصه في العمل.

ولعلّ هذا هو ما أشار إليه الإمام أبو جعفر (ع) حين قال:

"الإيمان إقرار وعمل ونية".

ممّا يفيد أنّ الإيمان حالة في النفس وليست معلومة من معلوماتها. وهذه الحالة تستلزم الالتزام بما انطوت عليه النفس من معرفة، وأنّ هذه الحالة لا تتصف بها النفس ما لم تكن مؤهلة لها، فالنفس الملوثة وإن علمت بجميع ما يعرفه المؤمن وزيادة، بيد أنها لا يتحقق منها الالتزام بما يلتزم بها العارف الذي انطوت نفسه على نور لا يحقّقه العلم النظري – وحده – فيمن لم تستعد نفسه لقبول نور المعرفة.

ففي الخبر: قال رسول الله (ص): "لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن". والحال أنّ العارف والعالم يشتركان في الاعتقاد بقبح الزنا والسرقة وبما يترتب عليهما من عقاب في الدنيا والآخرة، ولدى ارتكابه لأحدهما يزول الإيمان. – وهو نور المعرفة – ولا يزول العلم بقبحه، لأنّ العلم لا ينافي المعصية وأمّا المعرفة فإنّها التزام وحال، ولا يكون المرء في حال الالتزام غير ملتزم. لذا يقول أبو عبدالله (ع) تعقيباً على قول رسول الله (ص):

"لا يزني الزاني وهو مؤمن إلخ.."، "ينزع منه روح الإيمان".

ومن هنا ندرك سر العدول في تعريف الإيمان عن تعريفه بالعلم أو بالاعتقاد إلى تعريفه بالمعرفة، لأنّ المعرفة تؤثر في السلوك أثرها في فعل الصالحات وكشفها عن جميل الصفات. أمّا العلم فحتى لو بلغ درجة الاعتقاد فهو قد لا يؤثر هذا الأثر، ويكون حينئذ حمل العالم للعلم كحمل الحمار للأسفار دون أن ينتفع بما فيها. قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة/ 5).

 

2-    الإقرار باللِّسان:

وهو مفسّر في بعض الأخبار بإظهار الشهادتين، والإقرار بهذا المعنى هو مرحلة باتجاه الإيمان، فلما لم يكن المرءُ مُقراً بالشهادتين لم يحكم بإسلامه، وما لم يسلم لا يمكنه الوصول إلى الإيمان، لأنّ الإسلام أعم من الإيمان فربّ مسلم غير مؤمن، ولكن المؤمن لابدّ أن يكون مسلماً. وقد شبّه الإمام الصادق (ع) الإسلام والإيمان بالحرم والكعبة، فمن لم يدخل الحرم لم يدخل الكعبة، ومن دخل الكعبة لابدّ أن يكون قد اجتاز الحرم لدخولها. قال (ص): "الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم، قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة، ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم".

وعن جعفر بن محمد (ع) في حديث: "والإسلام غير الإيمان، وكلّ مؤمن مسلم وليس كلّ مسلم مؤمناً".

وبإظهار الشهادتين وإن لم يستتبعهما عمل يتحقق الإسلام الذي هو إحدى مقوّمات الإيمان.

ففي رواية سماعة عن الإمام الصادق (ع) قال:

"الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حُقِنَت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان: الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام".

فإظهار الشهادتين تترتّب عليه من الأحكام الشرعية ما يخرج بها المسلم عن أحكام الكفر، فيحكم بطهارة بدنه، ويحقن دمه وماله وعرضه، ويصح تزويجه أو التزويج منه للمسلمة أو للمسلم، ويرث مورثه المسلم، وما إلى ذلك من أحكام ظاهريّة مهما كان باطنه، ما لم يتظاهر بإنكار ضرورة من ضرورات الدِّين من غير شبهة.

وهذه مرحلة نحو الهدى وثبات القلب والالتزام بما تظاهر به ليكون في المراحل اللاحقة مؤمناً. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم حيث قال تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات/ 14-15).

فالآية تفرّق بين الإيمان والإسلام، بأنّ الإيمان معنى قائم بالقلب والإسلام أمر قائم باللسان والجوارح، وربّما حتى مع العمل بالأركان ولكن بدون صدق النية، كما ربما يكون مع العلم ولكن بدون عقد القلب الطاهر على حقيقة المعرفة واتّباع الرسول فيما جاء به.

والإسلام بدون إيمان لا فائدة فيه سوى ما ذكرنا له من آثار، من حقن الدماء وغيرها، وسوى كونه خطوة نحو الإيمان، وإلا فهو غير مجدٍ في القرب من الله سبحانه أو نيل الكرامة منه، وإلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات/ 17).

فاعتبر تعالى نعمته التي يمنّ بها على عباده هي الهداية للإيمان وما يترتب عليها، أما الإسلام وحده فلم تعتبره الآية كذلك. إذ هو وحده لا يحقّق إخلاص العبادة التي هي غاية خلق الله للجن والإنس، فلا ثواب إلّا على الإيمان لقول أبي عبدالله (ع):

"إنّ الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون وعليه يتناكحون، والإيمان عليه يثابون".

ومع هذا فالإسلام – بإظهار الشهادتين – مرحلة مهمة نحو الإيمان، إذ إنها تزيل الحواجز التي يفعلها الكفر بصاحبه فتمنعه من الاختلاط مع المسلمين والتزاوج معهم وتبادل الثقة بينه وبينهم، وما إلى ذلك ممّا يحققه الإسلام من الاندماج الذي يستفيد به المسلم من المؤمنين بمخالطتهم، إن كانت آثار الإيمان ظاهرة في تصرفاتهم، وإلّا فبُعده عنهم ربما يكون أفضل له، ليعرف الإيمان ممّا أثر عن الصالحين، ممّن كانت سيرتهم دعوة للحق بلسان الحال قبل لسان المقال.

 

3-    العمل بالأركان:

الظاهر من ملاحظة كثير من الأخبار التي تعرضت لبيان معنى الإيمان، أو الأخبار التي تحدثت عن بعض مكارم الأخلاق. أنّ المقصود بالأركان التي يكون العمل بها مقوّماً لمعنى الإيمان في النفس، هي الواجبات التي أوعد الله تعالى على تركها بالنار، أو المحرّمات التي أوعد على فعلها بالنار.►

 

المصدر: كتاب تهذيب النفس

ارسال التعليق

Top