• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقاعد.. بداية أم نهاية؟

د. لطفي الشربيني

التقاعد.. بداية أم نهاية؟
◄كثيراً ما ينظر الناس إلى التقاعد على أنّه البداية الحقيقية للشيخوخة والايذان بانضمام الشخص إلى طائفة المسنين ليمضي بها البقية الباقية من سنوات حياته، وينظر الكثير إلى التقاعد على أنّه نهاية غير سارة لرحلة طويلة حافلة، والواقع إنّ التقاعد أو الإحالة إلى المعاش بما تعنيه من توقف عن العمل بالنسبة لمن يقومون بأعمال ووظائف مختلفة عند بلوغهم سناً معيناً هو إحدى مشكلات الحضارة التي ظهرت في المجتمعات الصناعية، ولا مفر من تطبيق مبدأ التقاعد لكبار السن لتحقيق التوازن بين العمالة الشابة وتجنب البطالة في الأجيال الأصغر سناً، وذلك رغم أنّه لا يأتي على هوى الكبار الذين يرغمون على ترك العمل.

وتعتبر مسألة التقاعد من العمل بشكلها الحالي إحدى المشكلات المعاصرة فلم يكن لهذه المشكلة وجود في المجتمعات القديمة حين كان على الإنسان أن يظل يعمل حتى يتغلب عليه المرض ويفقد قواه، ولعل الإنسان القديم كان أوفر حظاً في هذا الجانب فلم يكن يعاني من النتائج الثقيلة لهذا النظام الحديث، كما أنّ الذين يقومون بأعمال حرة لحساب أنفسهم مثل الأطباء والمحاميين والكتاب والسياسيين والفنانين لا يمرون بهذه التجربة ويمكنهم الاستمرار في العمل ما أمكن لهم ذلك دون التقيد بسن معيّن.

وفترة التقاعد التي تبدأ بترك العمل لا يرحب بها الناس عادة ويعتبرونها فترة خسارة حيث تتابع فيها أنواع مختلفة من الخسائر يترتب بعضها على البعض الآخر، ففيها خسارة مادية بسبب نقص الدخل فالمعاش الذي يتلقاه المتقاعد لا يزيد عادة على نصف دخله أيام العمل، وهناك الخسارة الصحية التي تتمثل في أمراض الشيخوخة التي تأخذ في الظهور تباعاً مع الوقت، ويترتب على ترك العمل أن يخسر الشخص النفوذ الذي كان يستمده من وظيفته ومنصبه، فبعد أن كان يهابه مرؤوسيه لم يعد هناك من يعبأ به، وإذا أصابه أي عجز بسبب الأمراض فإنّه يخسر قدرته على الحياة المستقلة دون الاعتماد على الآخرين، هذا إضافة على كثير من المشاعر النفسية السلبية التي ترتبط بالتقاعد مثل الإحساس بأنّ الشخص أصبح زائداً عن الحاجة وأنّه يجب أن يبقى بانتظار الموت.

إنّ هذا الجانب السلبي المظلم في مسألة التقاعد عادة ما يتملك المتقاعدين في أيامهم الأولى بصفة خاصة مع ما يضطرون إليه من تغيير جذري في نمط حياتهم، فالذي اعتاد لسنوات على الاستيقاظ المبكر والعودة من العمل في وقت محدد وتكوين علاقات متنوعة في العمل مع الزملاء سوف يجد من الصعب التعود على وضعه الجديد حين لا يذهب إلى العمل ويلتقي مع زملائه، كما أنّ بقاءه في المنزل قد لا يكون مدعاة لسرور أسرته فينتابه الإحساس بأنّه غريب في المنزل، وإذا كان البديل هو مغادرة المنزل فإلى أي مكان يذهب؟ ربما إلى أحد المقاهي أو ليتجول في الأماكن العامة، إنّ ذلك لن يمكنه من التغلب على الفراغ القاتل.

ورغم أنّ هناك بعض الجوانب الإيجابية في التقاعد إلّا أنّ أحداً لا يفكر بها في الغالب، فالفترة التي يقضيها المرء في التقاعد قد تصل إلى ربع أو ثلث مجموع سنواته في الحياة، لذا يجب أن ينظر إليها على أنّها إحدى مراحل الحياة التي يمكن أن نستمتع بها، كما أنّ التقاعد قد يكون فرصة لإعادة تنظيم الكثير من أمور الحياة بما يساعدنا على عمل أشياء لم نتمكن من إنجازها بسبب ارتباطاتنا السابقة، والهروب من سجن العمل هو شيء إيجابي رغم أنّ المتقاعدين لا يذكرون إطلاقاً مشكلات العمل ومساوئه بل يفكرون فقط بالأشياء الجيدة الممتعة في أيام العمل ويتحسرون على تلك الأيام ويتمنون أن تعود!

ورغم أنّ نسبة لا بأس بها من المتقاعدين يمكنهم التأقلم بسرعة على الوضع الجديد بعد التقاعد إلّا أنّ البعض منهم لا يمكنه ذلك وتبدأ متاعبه فيكون التقاعد نقطة تحول هامة في حياته، وقد رأينا نماذج لذلك من المتقاعدين الذين يواصلون الذهاب إلى عملهم كما تعودوا من قبل خلال الأيّام الأولى للتقاعد وكأنّهم يرفضون أن يصدقوا أنّهم قد انفصلوا عن العمل، لذلك فقد اتجه التفكير إلى إعداد المسنين قبل التقاعد، وهناك برامج أعدت خصيصاً لتقديم المعلومات والإرشادات للمسنين لمساعدتهم على التأقلم في مرحلة التقاعد قبل أن ينتقلوا إليها بطريقة مفاجئة وتتضمن هذه البرامج تقديم معلومات عن الجوانب الإيجابية في الاحتفاظ بصحة جيدة في السن المتقدم مثل العناية بالغذاء والاهتمام بالرياضة، ومعلومات عن المشكلات الصحية المتوقعة في الشيخوخة وكيفية الوقاية منها ما أمكن والخدمات التي تقدم للمسنين في المجتمع، وهذه فكرة جيدة قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا فهي مفيدة في تقديم الإرشاد الجماعي للمقبلين على التقاعد، لكنها في الحقيقة غير كافية فالإعداد للشيخوخة أن يبدأ مبكراً والمرء بعد صغير السن.

ومن المشكلات التي تصادف المسنين في فترة التقاعد مشكلة اختيار المكان الذي يقيم فيه عقب التقاعد، فالبعض يفضل الانتقال إلى مكان هادئ بعد أن كانت إقامته ترتبط بمكان عمله، وينصح بصفة عامة أن يبقى الإنسان في المسكن الذي اعتاد عليه وفي المنطقة التي أقام بها حيث هو معروف للناس من حوله ويخطئ البعض حين يحالون الإقامة مع أبنائهم أو أقاربهم بعد التقاعد دون مبرر قوي، فالحياة المستقلة أفضل من كلّ الوجوه لأنّ الإنسان في الشيخوخة قد يجد فيه الآخرون عبئاً ثقيلاً، ومن الأمور الهامة التي ننصح بها المسنين محاولة التفكير قبل التقاعد في عمل يشبه ذلك الذي يقومون به لممارسته بعد ترك عملهم الرسمي فإن لم يتيسر فيمكن التفكير في مجال جديد، وتعلم أي مهارة بصبر ومحاولة الاستمتاع بها.

ومن الإرشادات التي نقدمها للمسنين أيضاً ليضعوها في اعتبارهم قبل التقاعد أن يعلموا أنّ ظروفهم الصحية لن تبقى على ما هي عليه، فإذا كان يسكن في مكان بعيد وينتقل منه إلى حيث يريد باستخدام المواصلات العامة أو يقود سيارة خاصة فإنّ ذلك قد يصبح غير ممكن في وقت لاحق، فعليه الإعداد لذلك بدلاً من مواجهة مثل هذه المشكلة في شيخوخته، وثمّة كلمة أخيرة نهمس بها في أذن الجميع، إنّ التدخين والكحول والعقاقير المختلفة يمكن أن يؤدي سوء استخدامها في الشيخوخة إلى عواقب وخيمة، وإذا كان هناك بعض العذر للمراهقين والشباب في ارتكاب بعض الأخطاء بسبب قلة خبرتهم، فإنّه لا عذر إطلاقاً لأي مسن في أن يسهم طواعية باستعمال هذه الأشياء في تدمير ما تبقى من صحته فالوقت قد لا يسمح له بتصحيح ما يرتكب من أخطاء في أيامه الأخيرة.

واعتقد أنّ الإجابة على تساؤل بداية أم نهاية كوصف للتقاعد لا تزال مفتوحة للنقاش حيث أنّ كلا الاحتمالين ممكن، فهناك من يقول بأنّ الحياة تبدأ بعد الستين، ومن يقول بأنّها تبدأ بعد الأربعين، ولنا أن نعلم أّن سن التقاعد قبل عام 1925 كان 70 سنة، ولا يزال حتى الآن في النرويج 72 سنة، وفي الدانمارك 67 سنة، وفي أمريكا 65 سنة، وفي بريطانيا 65 سنة للرجال و60 سنة للسيدات، وفي فرنسا ومصر 60 سنة، ومهما كان السن الذي تحدده السلطات للتقاعد من العمل فإنّنا نرى أنّه يمكن أن يكون البداية لمرحلة جيدة في حياة الإنسان أو على الأقل ليست على درجة كبيرة من السوء كما يتصور البعض.►

 

المصدر: كتاب الزهايمر (مرض أرذل العمل)

ارسال التعليق

Top