• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التكنولوجيا والفن

د. إياد محمّد الصقر

التكنولوجيا والفن

◄إذا كان الإنسان في زمن العولمة يشعر بعزلته من جراء تطور عالم التكنولوجيا فإنّ الفنان المعاصر يعاني من اغتراب وعزلة مضاعفة أمام عدم إنجازه الفني وتكامل مفردات لغته الفنية لعدم امتلاكه قدرة الخيال المطلق والحاسة الخارقة للتعبير عن أسرار الحياة والوجود.

وعزلة أخرى تحاصره كفنان من خلال اغترابه الذي تخلقه الآلة والثورة التكنولوجية وبالتأكيد فإنّ هذا يعمق الهوة بينه والعامل الآخر وينسحب هذا الاغتراب على مجالات ثقافية أخرى.

مما يضع المثقف والعامل الذي يعيش فيه في زمن العولمة أمام أزمة فكرية معرفية تثير الكثير من الالتباس والغموض هذا يخلق سوء التفاهم بين البشر ويعمم العنف التكنولوجي الحضاري ضد الإنسان على هذه الآلة المتوحشة التكنولوجية.

والتقدم التكنولوجي الهائل هذا لم يعطي للعمل الفني شيء لأنّ التقدم التكنولوجي تقدم خالي من العواطف. أما العمل الفني هو عصارة العواطف هذا الفنان الذي لا يمكن أن تعوضه أكثر الآلات التكنولوجية تقدّماً في العالم.

إنّ المشكلة الجوهرية هي أنّ حواضرنا العربية المعاصرة لا تمتلك أساساً الحضانة الداخلية في مواجهة الغزو والفكر التكنولوجي.

وهنا تفرض علينا هذه التكنولوجيا نفسها لتتحول إلى جزء من حياتنا وتدخل ضمن ثقافتنا ومفردات لغتنا الفنية ومن الجانب الجمالي والفني فإنّ الالتباس الذي يعيق تطور الفن التشكيلي الآن ويخاف جوهر أزمته هو سكونية لغته الفنية بالنسبة للمشاهد والمتلقي لذا فإنّ ديناميكية الفن لا يمكن أن توجد إلّا في قدرة الفنان على إثارة الأسئلة وهذا يدفع إلى التفكير بالفن التشكيلي العربي المعاصر إلى الإبداع.

لقد انتهى البحث في الحضارة الإنسانية عند الفيلسوف الألماني آرنست كاسير بأنّ الأساطير والفن واللغة والدين ليس في الواقع سوى صور وأشكال في رأيه لا تصدر عن تفسير عقلاني لحادثة أو قصة خيالية لكنها تفسر عما يسود مشاعر المجتمع من انفعالات والعامل الأساسي في قيام الحضارة الإنسانية إنما تتخلص من أنّ الإنسان لا يكتفي بالتعبير المباشر عن انفعاله وإنما يحوّل انفعاله كما يحوّل مدركاته الحسية إلى رموز يتأملها إلى رموز لغة ليحوّلها إلى مشاعر دينية تنسجم مع انفعالاته.

إنّ مصداقية الحقائق المعيشية والمراحل الزمنية التي مرت بها المنطقة العربية من أحداث منعكسة على مجمل تفاصيل حياتنا.

وفرضت التكنولوجيا القبول بالأمر الواقع وكأنّها حقيقة قدرية مطلقة لا إدارة هذه الحقبة واللعب على جبهة الثقافة والفن التشكيلي وطرق الإبداع ومحاولة تكريس قيم جمالية ومفاهيم جمالية جديدة متناسبة مع التكنولوجيا لا مع ذوق الفنان الجمالي والإبداعي ومن هنا نقول إنّ الإبداع مرتبط بعصارة وعواطف الفنان وهو نواة أساسية لتشكيل الفن التشكيلي الإبداعي في محاكاة الطبيعة والابتكار والتجديد وهو مدين للطبيعة بالوجود من خلال أشكال تفاعلية جديدة.

والفنان هو أحد المعايير الأساسية في تشكيل الفن وهو الذي أفسح لنا مجال الاكتشاف الجمالي والتذوق الجمالي وهو الذي رسم لنا في الذاكرة المناظر الطبيعية واللوحات الإبداعية وزخارف وكلّ أنواع الفن التشكيلي.

ووجود الفن الإبداعي التشكيلي في حياتنا الثقافية لا يمكن أن يمحوه الغزو التكنولوجي ومفاهيم معلوماتية جديدة كان لها الأثر السلبي في مجريات العمل التشكيلي الفني المعاصر.

هذا يقودنا لبداهة التعبير المفهومي لماهية الفن التشكيلي وكينونيته باعتبار أنّ الذاكرة البصرية في سيماتها التأليفية كلغة بصرية تواصلية تعبيرية سابقة للكلام.

للضرورة تتجاوز حدود المكان واللحظة الزمنية المعبرة عن الوجودية وعن الأسلوب الفني المحتوى والموضوع في رصف المفردات الفنية التشكيلية والمكونات والرموز وتحقيق الخصوصية في سياق شكل معاصر متفرد ومقروء ومفهوم.

باختلاف طبقات وثقافة ومدركات المعرفة البصرية والاجتماعية.

إنّ هذه اللغة "فنون تشكيلية" الحلقة التواصلية المفهومية بين الشعوب والثقافات في إطار عالمي فلا مكان للفن التشكيلي في تلك الحقبة العولمية "تكنولوجيا".

وميادين الفن السطحي الساذج والمبتذل والملغية للتعبير الداخلي والإحساس الإنساني لقيم الجمال والخير لأنّ القيم المضافة للتكنولوجيا المعاصرة هي مزيد من تهميش الفعل الإنساني والإبداعي.

فالفن التشكيلي إبداع، نقد، جمال، وابتكار، وتجديد.

إن جاز تفسير التكنولوجيا أنّها المضمون الثابت فالثقافة الخاصة بأُمّة معينة هي الشكل الذي يكشف صدى هذه العبارة على حياة أفرادها.

فالمحاكاة والتقليد وإن جاز على ظواهر تكنولوجيا من صناعات أو مواصفات إنتاج فإنّه لا يجوز أن نصطنع نفس الشكل الفني إن صاغوا به هذه المصوغات. فقد تكون لنا طريقة أخرى في الاستعمال وقد يكون لنا ذوقنا الخاص في التعبير عن إبداعاتنا وابتكاراتنا الفنية.

إنّ التكنولوجيا الحديثة التي أمدت الإنسان المعاصر بسيل وافر من المعلومات والتي فتحت أمامه آفاق شاسعة من المعرفة هي أيضاً التي فرضت عليه أساليب جديدة في السلوك وليس من السهل على الفنان التشكيلي على أن يتقبل الآلة المتوحشة "التكنولوجيا" تحت ما يسمى مسايرة العصر ومقتضيات التطور التجديد.

ومهما كان التقدم التكنولوجي تقدم هائل وسريع ومتطور هذا لن يضيف للعمل الفني التشكيلي شيء لأنّ التعامل مع التكنولوجيا عبر الآلة الجامدة ينتج في النهاية عملاً وظيفي نفعي خالي من العواطف.

أما العمل الفني التشكيلي فهو عصارة عواطف الفنان وإبداعاته وابتكاراته التي لا يمكن أن تحل محله أكثر الآلات التكنولجية تطوراً وتقدماً في العالم.►

 

المصدر: كتاب دراسات فلسفية في الفنون التشكيلية

ارسال التعليق

Top