• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الذاكرين الله كثيراً

زهير الأعرجي

الذاكرين الله كثيراً

◄لا يستطيع الإنسان أن يقدّر حجم الثواب الذي يصيبه نتيجة استثماره وقت الليل، بذكر الله سبحانه والقيام بين يديه طلباً للرحمة والمغفرة والتسديد.. لا أحد يستطيع تقدير ذلك، ولكن ذلك الثواب كبير بالتأكيد..

وما التفكُّر في خلق الله سبحانه وتعالى، والتفكُّر في أركان الكون الواسع الرحيب، والتوكُّل على الله سبحانه، وقيام الليل، والصلاة والدعاء في كلّ موقع إلّا حالات متعددة من ذكر الله عزّ وجلّ.. والواقع أنّ هذا هو حال أبرار المؤمنين الذين يذكرون الله في كلّ وقت، وفي كلّ مكان. الذين يتحركون في جوف الليل ليفتحوا لهم طريقاً إلى أبواب السماوات.. يتحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الأبرار فيقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191)، والمعنى أنّ النظر في آيات السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار أورث المؤمنين ذكراً دائماً لله فلا ينسونه في أي حالٍ من الأحوال. وهذا ما يؤكد قول الرسول (ص) من أنّ "فكرة ساعة خير من عبادة سنة"، فالتفكّر في خلق الله سبحانه والتأمل في آياته، هو مفتاح العبادة الحقيقية.. لأنّ العبادة التي تتبع التفكر، إنما تكون عبادة وعي وإدراك وتفهم.. وهكذا حال إخوة الإيمان في تفكرهم بالليل والنهار في خلق الله، وفي ذكرهم للخالق عزّ وجلّ، وفي استلهامهم لمعاني الخلق، فالخلق والكون والحياة كلّها خلقت لهدف وحكمة.. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك.. وهذا ما يدركه الإنسان المؤمن المتفكر الذاكر لله سبحانه وتعالى..

ويذكر القرآن الكريم في إحدى المواضع أنّ الله سبحانه وتعالى، أنعم على المؤمنين بأن جعل لهم البيت الذي بناه إبراهيم (ع) في مكة قبلة لهم، يتوجهون إليها أكثر من خمس مرات في اليوم، ليعبدوا خالقهم العظيم.. وهذا هو استجابة لدعاء إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام).. قولهم ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ولم يجعل الإسلام الكعبة المشرفة قبلة للمسلمين لأسباب تاريخية، بل أمر المؤمنين باستقبالها، لأنّها تمثل رمزاً له معنى.. هذا المعنى هو توجه قلب الإنسان المؤمن وعقله إلى بيت الله، ليعيش في ضميره ذكر الله سبحانه وتعالى، في قيامه وقعوده، وفي عمله وفي استراحته، وفي خلواته، وفي احتكاكه مع الناس.. يقول تعالى في كتابه الكريم: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 151-152). والمعنى اذكروني أذكركم بنعمتي.. اذكروني بالطاعة والعبادة، اذكركم بالنعم والإحسان.. والإنسان الذاكر لله سبحانه هو الإنسان الواعي لحقيقة الوجود، فالغافل لا يستطيع أن يدرك الأمور التي تجري أمامه، فقد غلّف الله قلبه بالنسيان.. يقول تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) (الكهف/ 28)، فالغفلة هي نسيان ذكر الله سبحانه وتعالى، بمعنى الانغمار في تيار الحياة الجارف، وانغلاق البصيرة أمام رؤية حقائق الإيمان وواقع الوجود.. ولذلك يحذّر القرآن من مغبّة نسيان ذكر الله، ويدعو إلى تذكر الخالق في كلّ مجالات الحياة.. يقول تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 24).

ويُذكَر أنّ رسول الله (ص) كان يدعو المؤمنين إلى أن يرتعوا في رياض الجنة، ويعني بها مجالس الذكر، فيقول لهم (ص)، "إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها، قيل: يا رسول الله وما روضة الجنة؟ قال: مجالس المؤمنين". وعن أبي عبد الله (ع) قال: "كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة الله عليه التفكر والاعتبار". وفي خبر أبي ذر قال: قال رسول الله (ص): "على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عزّ وجلّ، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عزّ وجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال". وعن أبي عبد الله (ع) قال: "أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته". وورد عن رسول الله (ص): "ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم". وسُئل (ص): أي الأعمال أفضل؟ فقال: "أن تموت ولسانك رطب بذكر الله".

ويهاجم القرآن الكريم بشدة أولئك الذين يتنكرون لذكر الله، فلا يهتدون إلى الحقّ، أولئك الذين أغلقوا قلوبهم لرياح الإيمان فقست قلوبهم من ذكر الله سبحانه.. وفي المقابل يتحدث القرآن المجيد عن صفة المؤمنين الذين يقرأون القرآن وكأنّ الآيات القرآنية تتنزل عليهم كلّ يوم وهم في أجواء القشعريرة والخشوع من ذكر الله سبحانه، فتقشعر جلودهم من ذكر الله، وذكر القيامة والحشر والعذاب، وتطمئنُّ نفوسهم لرحمة الخالق ورأفته بعباده المستعفين.. يقول تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ[1] تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ[2] جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزّمر/ 22-23). فشرْح صدر الإنسان هو بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول، كأنّ الخالق سبحانه وتعالى شرح قلوب المؤمنين ليتقبلوا الإسلام صافياً، فيدخل الإيمان إلى عروقهم، ويتبلور في نفوسهم حب الله سبحانه، وتنطق ألسنتهم بذكر الله.. وذلك هو هدى الله الذي يهدي به عباده المؤمنين، حيث يقول تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الأنعام/88). ويقول تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (البقرة/ 120)، ويقول تعالى أيضاً: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى/ 52).

وعبّر القرآن الكريم عن صفة يجب أن يتحلى بها المؤمنون.. تلك هي خشية الله عندما يذكر، ووجل القلب وخوفه من ذكر الخالق عزّ وجلّ، فيُشهد القرآن المجيد لهم بثبوت الإيمان حقاً.. ويعدهم بجزيل الثواب والمغفرة والرزق الكريم.. يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال/ 2-4). وفي موضع آخر يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201). فعندما يرتكب الإنسان المؤمن سيئة ما، سرعان ما يتحرك دافع الشعور الإيماني ليوقظه من غفوته فيتذكر الله سبحانه، ويتذكر تلك العلاقة الحميمة التي تربطه بالخالق عزّ وجلّ، فترجع إليه بصيرته التي يرى بها خطوط الأشياء، ويرجع إليه وعيه الذي يرسم له حدود التعامل مع النفس والمجتمع والخالق العظيم..

ودعا القرآن الكريم المؤمن إلى التأسّي برسول الله (ص) باعتباره القدوة التي تمثل كلّ الإسلام.. واعتبر هذا التكليف تكليفاً ثابتاً مستمراً.. فالرسول (ص) مثل الإسلام تمثيلاً واقعياً، عندما أقام الدولة الإسلامية في المدينة وآخى بين أفراد المجتمع، وجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله بالسيف والمنطق، واتّصل بالله سبحانه عن طريق التعبد اتصالاً وثيقاً.. يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21). فالمؤمن الذاكر لله، المنعزل في جوف الليل يناجي ربّه، الذي لا تستهويه من الدنيا غير بيوت الله، وأماكن العبادة، ومجالس ذكر الله.. لا يرى غير الرسول (ص) قدوة نابضة بالحياة يقتدي ويتأسى بها.. والمؤمن الذي يتأسى برسول الله (ص)، لابدّ وأن يحمل خصلة الإيمان الحقيقية، وهي خصلة التعلق بالله سبحانه وتعالى، فهو يرجو الله سبحانه متعلقاً به وبرحمته.. وقد تعلّق قلبه باليوم الآخر فعمل الصالحات، ولَهَجَ لسانه بذكر الله ونعمه والآئه.. فهو إنسان يسعى لتشكيل شخصية إسلامية متكاملة من خلال الاقتداء بشخصية رسالية في غاية الكمال، وفي منتهى العصمة، وهي شخصية الرسول محمد (ص).. وبهذا المسعى تتصاعد روحية الإنسان المؤمن تصاعداً يتناسب مع حجم التزامه بالجانب التطبيقي من رسالة الإسلام العصماء..

ويدعو القرآن الكريم إلى ذكر الله كثيراً، باعتبار أنّ عملية ذكر الله هي توجيه الإدراك نحو الخالق عزّ وجلّ، فترتفع نفس الإنسان عن ارتكاب رذائل المعاصي، وتسمو روحه إلى آفاق أنزه وأرفع.. ويتسامى المجتمع الإنساني إذا تعاقد أفراده على ذكر الله سبحانه، فترى الخشوع والطمأنينة ترتسم على الوجوه، وترى التآزر والمحبة والتألف تبسط ظلالها على الناس.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب/ 41-43). وقيل إنّ الصلاة من الله تعني الرحمة، ومن الملائكة تعني الاستغفار، ومن الناس تعني الدعاء.. وصلاة الله سبحانه على المؤمنين الذاكرين الله كثيراً، في القرآن: تعني الرحمة الخاصة بالمؤمنين، لإخراجهم من ظلمات النسيان والغفلة والتخبط إلى نور الإيمان وذكر الله.. فيخاطبهم الخالق عزّ وجلّ.. ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيماً.. فالرحمة الإلهية خصصت لأولئك المؤمنين الذاكرين الله، الذين لا يمتد بصرهم إلى المتع الدنيوية، بل يبقى مشدوداً إلى ربّ الأرض والسماء علّهم يستقرون يوماً في جنان الخلد على مقربة من رحمة خالقهم العظيم..

ويدعو القرآن الكريم إلى ذكر الله سبحانه في النفس الإنسانية، ذكراً متواصلاً ينبع من خوف الإنسان لخالقه.. ذكراً يجنب الإنسان من أن يصنّف في خانة الغافلين الذين لا يفهمون من الحياة غير الذائذ الدنيوية.. يقول تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (الأعراف/ 205-206). فالذكر الباطني وهو ذكر الله في النفس، هو الذي يعمق مفهوم الإيمان والرهبة والخشية في حياة الإنسان، فيلطّف هذا العمل مشاعر ذلك الإنسان ويهذّب أخلاقه، ويجعله شمعة تذوب لتضيء بنور الإسلام ظلمات المجتمع الذي يعيش فيه..

ويتعامل القرآن المجيد مع النفس الإنسانية تعاملاً علمياً دقيقاً، فلا يحمّلها أكثر ما تستطيع، بل يحاول القرآن الكريم أن يعالج أي قصور في أداء النفس البشرية وتكاملها، فيتعامل مع النسيان باعتباره استثناءاً قابلاً للتصحيح، خاصة في موضوع ذكر الله سبحانه.. يقول تعالى بعد أن يصف قصة أهل الكهف: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 23-24). فالقدر والقضاء بيد الله سبحانه وتعالى، وما من شيء في الكون الواسع الرحيب له فعل أو أثر، مستقل في سببيته عن الله سبحانه وتعالى.. يقول تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) (التغابن/ 11)، ويقول: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ[3] أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر/ 5)، ويقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف/ 58)، ويقول: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران/ 145). ويقول تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) (يونس/ 100)، ويقول تعالى أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء/ 64)، فمقدرات كلّ أمور الكون بيد الله سبحانه وتعالى.. وعلى الإنسان أن يتذكر أنّ عليه تسليم الملك والقدرة إليه وتقييد الأفعال بإذنه ومشيئته، وعليه أن يتذكر الله سبحانه إذا راوده النسيان، وداهمته الغفلة.. وفي الآية إشارة لطيفة، وهي دعوة الإنسان إلى أن يرجو ربه بأن يكون ذكره لله سبحانه ذكراً دائماً، أي أن لا ينسى ذكر الله ثم يتذكر، ثم ينسى ذكر الله ثم يتذكر وهكذا.. وهذا تفسير قوله سبحانه: وقل عسى أن يهدينِ ربي لأقرب من هذا رشداً. أي أرجُ الله أن يهديك إلى أمر هو أقرب رشداً من النسيان ثم الذكر، وهو ذكر الله الدائم المتصل..

وأمر القرآن الكريم، المؤمنين، بالمحافظة على الصلاة، بالشكل المضمون، في الأداء وفي النية والتوجه، وخصّص بضرورة المحافظة على الصلاة الوسطى، وقيل إنّ المراد بها صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، ودعا القرآن الكريم إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، في وقت الأمان والهدوء، وكذلك دعا إلى ذكر الله في وقت الخوف وعدم الاطمئنان.. يقول تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى[4] وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا[5] فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 238-239). فذكر الله سبحانه وتعالى واجب ضمن الحدود التي شرعها الدين الحنيف كالصلاة والممارسات العبادية الأخرى.. وكلما استزاد الإنسان من ذكر الخالق عزّ وجلّ وتوكّل عليه، ازداد قرباً ودنواً منه..

وفي الحج، كانت العرب، إذا أقامت بمنى بعد النحر، تفاخرت برجالها، وأبنائها، فكان الرجل منهم يتفاخر بأبيه تفاخر الجاهلية.. فأنزل الله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة/ 200). فدعاهم القرآن إلى ذكر الله سبحانه، لأنّ الخالق عزّ وجلّ يستحق التمجيد والتنزيه أكثر من آبائهم، وفي معنى مشابه يقول تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة/ 203).

وحدد الإسلام ستة أمور، أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب، وهي، الثبات عند لقاء الأعداء، وذكر الله كثيراً، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، وأن لا يخرجوا بطراً ورئاء الناس ويصدرون عن سبيل الله، كما كان يفعل المشركون زمن الرسول (ص).. وأكّد الباري عزّ وجلّ على الثبات في مواقف الشدة والابتلاء، وأكّد على ذكر الله سبحانه وتعالى لأنّ اللحظات القاسية في عمر الإنسان، تعصف بكلّ المبادئ والأفكار التي يحملها، فيبقى الإنسان معلّقاً وكأنه ريشة في مهب الريح، فلا يحفظه من ضياع مبدئه وأفكاره، غير الاستعانة بخالقه العظيم وتوكله عليه.. لأنّ الله سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمّد/ 7). يقول تعالى في معرض حديثه عن الثبات عند اللقاء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال/ 45-47). فالثبات في ساحة المعارك، وذكر الله كثيراً، أمور في غاية الأهمية في استنزال النصر الإلهي.. فالمؤمنون الثابتون على الإيمان، هؤلاء الذين تسري حرارة الإيمان في عروقهم، ويجري ذكر الله تعالى في أعماق نفسوسهم، لا يمكن أن يهابوا الموت، وهم ينتقلون من حياة وضيعة إلى حياة أسمى وأكرم وأخلد.. فتتحرك شفاههم دائماً بذكر الله تعالى، فإن نالوا الشهادة، فإن كلماتهم الخاشعة المطمئنة بذكر الله، تبقى راسخة في ضمير الوجود، وإن ضمنوا النصر، فإنّ قلوبهم الواعية وضمائرهم الحية ستبقى ناطقة باسم الله جبار السماوات والأرض.. وهم في كلّ حال بصائر النور الإلهي الذي يسعى في أرض الله الواسعة.. ►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية


[1]- مثانيَ: بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض ورجوعه إليه بتبين بعضها ببعض وتفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضاً ويناقضه كما قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (النساء/ 82).

[2]- تلين: تتضمن معنى السكون والطمأنينة.

[3]- اللينة: النخلة الناعمة.

[4]- الصلاة الوسطى: قيل إنّ المراد بها صلاة الظهر، حيث كان رسول الله يصلي الظهر بالهجير فلا يكون ورائه إلّا الصف والصفان. والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا له قانتين).

[5]- أي إن خفتم فقدروا المحافظة على الصلاة بقدر ما يمكن راجلين وقوفاً أو مشياً، أو راكبين، وهذه صلاة الخوف.

ارسال التعليق

Top