• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الذكر.. حبّ ومعرفة

أسرة البلاغ

الذكر.. حبّ ومعرفة
◄الذكر: هو حضور الشيء. (... قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منها ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة حفظ...)[1]. فذكر الذاكرين لله سبحانه هو الإحساس بوجوده، وبدوام حضوره معهم تارة، أو تذكره بعد النسيان، والشعور بوجوده تارة أخرى. والذاكرون الحافظون هم أولئك المستهامون بحب الله، الممتلئة نفوسهم بحقيقة وجوده، والوَلِهَة بجمال صفاته، الخاشعة لجلال آثاره، المسبحة بحمده، المقدسة له، والعاكفة على طاعته، فهم بين دائم الذكر لا يغفل وذاكر إذا غفل لم يتماد بغفلته: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201). أولئك الذين انساهم حبّ الله أنفسهم فتوجه كل وعي وشعور فيهم نحو الأحد المعبود، فصار هذا الحب عطاء في نفس المحب، واستجابة في قلبه، لذا كان ضرباً من ضروب العبادة، ومنبعاً ثراً من منابع التوجه والشوق العميق إلى الله سبحانه. ولا يمكن للروح الإنساني أن يطفح بالحب، أو يواصل مسيرة القرب هذه إلّا بعد أن تتكشف له حقائق المعرفة الربانية، وتتجلى أمامه عظمة الصفات، وجمال الذات الإلهية، فمع هذه المعرفة فقط يبدأ وعيه العقلي بالتفتح، وإحساسه الروحي بالتذوق، ونفسه بالانشراح والتلقي. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191). فأولئك هم الذاكرون، الذين لم يكن ذكرهم لله مجرد لقلقة لسان، ولا ترداد عبارات، أو تدافع ألفاظ تولد على شفاههم خاوية ميتة، بل ذكروا الله عن تفكر ومعرفة، ووعي لمضامين الذكر، وتدبر لمداليل التقديس والتسبيح والثناء، فانكشفت لهم حقائق الإيمان وتجلت أمامهم مظاهر العظمة الربانية، فصار ذكرهم تعبيراً صادقاً عن وعيهم الكامل لارتباطهم وتعلقهم بالله سبحانه، وإحساسهم بالافتقار والحاجة إلى عظيم صفاته وكمال ذاته، لذا فهم لا يزالون يثنون على هذه العظمة، ويهيمون حباً واعجاباً بتلك الصفات، متنعمين بتجربة هذا الحب والقرب، مدركين أن ما يسبحون فيه من غمرات الحب، وما يستغرق ذواتهم من أنوار القرب، وما تحمله نفوسهم من حب ومعرفة ليس إلّا القبس من فيض سرمدي، وإلّا الهمس من عالم الإلقاء والفيض الأبدي، الفيض الذي تفتحت آفاقهم المحددة لاستقباله، وقصرت وسائلهم عن الوصول إلى سعته، فلم تبلغ مدى عظمته، ولم ينكشف لها الجلال على حقيقته، لذا فهم أدركوا أنّ لولا السماح لهذا الإنسان القاصر الفقير بالوقوف في ساحة الذكر والمناجاة لما كان مؤهلاً لنيل هذا الشرف، ولما كان محلاً للتقديس والتنزيه إذ ما عسى أن يبلغ الإنسان بأحاسيسه وعقله وعباراته حين يناجي بارئه وخالقه بقوله: أنت عظيم، وأنت قدوس، وأنت رحمن، فالحق كما وصفه النبيّ الأمين (ص) بقوله: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". أو كما عبر الإمام عليّ (ع) عن هذا المعنى بقوله: "كَلَّ دون صفاته تحبير الصفات، وضلَّ هناك تصاريف اللغات"[2]. أو كما عبر الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب – عليهم السلام – وهو يردد في مناجاته: "إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إيّاك، على أنّ ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك، إلهي فإلهمنا ذكرك في الخلاء والملاء، والليل والنهار، والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي. إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلّا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلّا عند رؤياك، أنت المسبّح في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعو بكل لسان، المعظم في كل جنان، واستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك. إلهي أنت قلت وقولك الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الأحزاب/ 41-42)، وقلت وقولك الحق: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة/ 152)، فأمرتنا بذكرك، ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين، ويا أرحم الراحمين[3]. وإذن فليس ذكر الإنسان لله سبحانه إحساساً عائماً، ولا عملاً مقطوع الصلة والجذور بالسلوك والمواقف العملية للإنسان، بل للذكر آثاره ومردوداته الإيجابية البناءة على نفسية الفرد وعلاقاته مواقفه، فمن أولى نتائجه وآثاره الإحساس بالسعادة والطمأنينة النفسية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). ومن آثار هذه العبادة والعلاقة المخلصة أيضاً هو شعور النفس بوجود الله الدائم وعدم نسيانها له. فالإنسان الذاكر يرى الله معه في كل عمل يقوم به، ويحس بوجوده في كل آنٍ ومكان يعيش فيه، حتى ليرى الله قائماً في كل شيء ومع كل شيء. وهاتان النتيجتان هما ظاهرة طبيعية للذكر الخفي المستبطن في النفس، وإحساسها بوجود الله سبحانه. أما الذكر الظاهر فله أيضاً مظاهره، وصور التعبير عنه، فهو ترجمة لخلجات النفس، وأحاسيس الفكر، وأشواق الروح، باستعمال الكلمة والعبارة كالمديح، والثناء، والتقديس، والتسبيح، والتعظيم لله سبحانه... إلخ. لذا كانت تجربة الحب الإلهي تجربة إنسانية رائعة، لا يدرك أبعادها، ولا يعي مضامينها إلّا أولئك الذين عاشوا مشاعر الاستغراق في أبدية الحب والشوق الإلهي العميق، وإلّا أولئك الذين مزقوا حجب (الأنا) وأحاسيس الانفراد فأذابوها في أبدية هذا الحب والتجرد المطلق، وعاشوا في ذهول عن عالمهم الذي ما برح يحكم قبضته، ويقوي أسوار سجنه، ويرسل شتى صنوف الإغراء والاستهواء للاستحواذ على قلب الإنسان وعقله، فانطلقت تلك المشاعر التي اخصبتها تجربة الحب الإلهي من أعماق وحدتها تمزق أطر التحيز، وتهدم حصون الأنانية المغلقة لتنطلق الذات الإنسانية إلى عالم السعة والامتداد، باحثة عن غاية الفطرة الكبرى – خالق الإنسان – مصدر الكمال، ومبعث الحب والجمال، لتعبر عن أحاسيسها، وتترجم مشاعرها، كلمات تعظيم، وعبارات تقديس، محققة لنفسها حالة الحضور والانشراح الدائم بذكر الله والثناء عليه. فهو المعبود الذي لا يغيب ذكره، والإله الذي لا تغرب عن النفس معاني وجوده، فصفاته وافاضات حبه – بالنسبة لهؤلاء الذاكرين – هي النور الذي يملأ آفاق البحث عن الحب في ضمير الإنسان الذاكر، وهي الحقيقة التي تستعبد قلبه وعقله فيؤهّلها، فيركع، ويسجد، ويسبح بالحمد والثناء، ليعبر عن مشاعر الحب والعبودية في نفسه لله الأحد المعبود. والإنسان في رحلة البحث عن الحب الإلهي هذه – يعبر عن علاقاته بالله – إنما يعبر عن حقيقة هامة، تسري في أعماق كل موجود، وتطفح على وجه كل حقيقة، وهي: إنّ الله أحب خلقه، وزرع جذوة هذا الحب والشوق في أعماق هذا الخلق، لتكون روحاً تشوّق الكون والإنسان إليه، وكلمة سر تكمن في ضمير العوالم، تتخاطب بها في مسيرة اللقاء تحت سرادق السير والاتجاه إلى الله سبحانه. وبهذا العمق والتوجه والامتداد، كان الحب الإلهي حركة روحية، تستهدف الإخلاد إلى قرب خالق الكون، وغاية الحب في هذا الوجود، وهي من خلال مسيرها المتعالي نحو الله سبحانه تسعى لإشباع نزعة على هذا الوجود المتحفز للتلقي والقبول، والباحث عن القرب والانضواء، والرافض للبعد والانفصال عن معبوده. فهو لا يرى حقيقة سواه تستحق الاستئثار بحب الإنسان واستيعاب وجهته وغايته في الحياة. وبهذا الإحساس والشعور تبدأ مشاعر الحب الإلهي تتكاثف وتنمو في نفس الإنسان، فتغدو ديناً له، وعبودية تستولي على ضميره ووعيه، وبذا يكون هذا الحب ضرباً من ضروب العبادة، ومنبعاً من منابع الخير والسلام في هذه الحياة، لأنّ هذا الحب هو بداية التنازل عن (الأنا المغلق)، ونقطة الانطلاق في مرحلة افناء الذات والإرادة الإنسانية في إرادة الله ومشيئته. وعندما ينمو هذا الإحساس في الإنسان، وتترسخ هذه العلاقة – علاقة الحب والود – بين الإنسان وخالقه، يبدأ ذكر الله يعيش في نفس الإنسان إشراقاً لا تغيب شمسه، وحضوراً لا ينسى وجوده، من هنا كان الذاكرون هم المقدسون، اللاهجون بذكر المعبود، المشغولون بالثناء، والمستهامون بجمال الصفات وجلال الآثار، وكمال الذات، الذين استولى هذا الحب المقدس على نفوسهم، واحتل كل مساحة ومتسع في قلوبهم، فلم يعد لغير هذا المعبود متسع، أو موقع في نفوسهم، فغدت قلوبهم عرشاً للحب ومتسعاً للشوق. وليس هذا الحب الإلهي هو إحساس إنساني ضائع، أو طرف سائب في معادلة العلاقة بين الله وخلقه، بل هو حب متبادل بين الإنسان وخالقه، ورابطة وفاء بين العبد وربه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152). (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران/ 31). قال رسول الله (ص): يقول الله تعالى: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرك بي شفتاه"[4].

ويمتاز هذا الحب الإلهي بأنّه حبّ مخلص خالد، لا يدخل في بنائه عنصر الزمان ولا تشترك في اشادته عوامل النفعية الدنيوية الزائلة، أو تعرض له عوامل الضمور والاضمحلال، مازالت العلاقة صادقة في طرفها الإنساني، مستقرة في جانب الانبعاث والاتجاه البشري.►


[1]- الراغب الأصفهاني/ المفردات في غريب القرآن/ مادة ذكر. [2]- الراغب الأصفهاني/ المفردات في غريب القرآن/ مادة إله. [3]- الإمام السجاد عليّ بن الحسين (ع)، الصحيفة السجادية/ مناجاة الذاكرين. [4]- المولى محسن الكاشاني/ المحجة البيضاء/ ج2/ ص267. سنن ابن ماجه/ ص1246 حديث 3792.

ارسال التعليق

Top