• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرحمة.. الوجه الآخر

علياء منجد

الرحمة.. الوجه الآخر
   (عثر رجل في حديقة بيته على شرنقة فراشه، فأخذ يراقبها ويتابع نموها. وذات يوم ظهر ثقب صغير في الشرنقة؛ أخذ الرجل، ولعدة ساعات، يتأمل كفاح الفراشة في الداخل وهي تحاول إخراج جسدها من خلال هذا الثقب، وبعد فترة بدا له كأنها يئست من المحاولة، وأن هذا أقصى ما تستطيع فعله؛ فأدركت الرجل الشفقة عليها، وأراد أن يساعدها على الخلاص؛ فأخذ مقصا وقص باقي الشرنقة، وفعلاً تمكنت الفراشة من الخروج بيسر وسهولة. ولكنها خرجت زاحفة بجسم متورم، وأجنحة مرتعشة. ووقف الرجل منتظراً منها أن تطير وتستمتع بالحرية التي منحها إياها، ولكنها لم تطر! فحدث نفسه أن أجنحتها لا زالت بحاجة إلى بعض الوقت حتى تكبر وتتمدد وتقوى على حمل جسمها. ولكن ذلك لم يحدث أيضاً.. بل قضت الفراشة بقية أيام حياتها تزحف هنا وهناك بجسم متورم وأجنحة مرتعشة، ولم تستطع الطيران في يوم من الأيام كبقية الفراش! إنّ رحمة هذا الرجل – التي لم تكن في محلها – وعجلته، لم تمكنه من إدراك مدى أهمية الكفاح داخل الشرنقة، وحاجة الفراشة إليه، فقد اقتضت حكمة الله ذلك لكي يقوى جسمها وأجنحتها وتصبح قادرة على الطيران بعد أن تنال حريتها بنفسها). لقد اقتضت حكمة الله أن يكون الكفاح والكدح سنة من سنن هذا الكون، بل إن هذا الكدح يشمل أكرم مخلوق على الأرض وهو الإنسان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، فهو لا يزال في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.. منذ الخلية الأولى في الرحم مرورا بمختلف الأطوار في مشوار عمره. إنّ من وراء هذه السنة حِكماً كثيرة وعظيمة، فالكفاح والكدح أمر ضروري لتحصيل العيش، وإبراز القدرات، وصقل المواهب، بل ودوام الحياة.. لقد اكتشف العلم أنّ البكاء المعتدل ضروري للمولود لتوسيع مجرى التنفس عنده، فماذا لو أخذتنا الشفقة وحاولنا إسكاته بكل وسيلة ممكنة؟ هل سيتمكن من العيش بجهاز تنفسي طبيعي بقية حياته؟ ولقد بينت بعض الإحصائيات أن نسبة التفوق الدراسي في الطبقة الكادحة أعلى منه في الطبقة الغنية. ومن المعلوم أن بداية كثير من رجال الأعمال والتجار وأصحاب المناصب المرموقة كانت شاقة وكادحة. إنّ نظرة في جيل اليوم تعطينا دليلاً كافياً على سوء استخدام الرحمة والشفقة في تربية الأطفال (التدليل الزائد)، وما أدى إليه هذا الأسلوب من إفراز جيل مترف غير قادر على تحمل مسؤولية نفسه، فضلا عن أن يتحمل مسؤولية دينه أو أُمّته. إنّه جيل أشبه ما يكون بـ(فراشة ذلك الرجل الشفيق)! فهل عجز أحدنا حتى عن تعويد ولده على إحضار كوب الماء لنفسه؛ بدلاً من أن يجلس على كرسيه متربعا وينادي الخادمة بصوت المتأمر: أنا عطشان.. أحضري لي كأساً من الماء الآن!

ارسال التعليق

Top