• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العناد عند الأطفال.. ظاهرة صحية

العناد عند الأطفال.. ظاهرة صحية

إطلاق التهديدات تزيده تمسكاً برأيه

العناد عند الأطفال سلاح ذو حدين، فإما قوة الإرادة وإثبات الذات، وإما أن يتخذ شكلاً مرضياً إذا تعامل المحيطون بأساليب قمعية قد تؤثر سلباً في سلوكيات الطفل وتواصله مع الآخرين.

الأبحاث الحديثة أشارت إلى أنّ الطفل العنيد سواء المولود بهذه الصفة أو المكتسب لها يتسم بإرادة قوية طالما أنّه لا يعاني مشكلات نفسية أو أمراضاً عضوية ويعيش في ظل بيئة طبيعية، هذا يعني أنّنا أمام طفل حاد الذكاء يستطيع فرض سيطرته على الكبار ويستخدم أساليب عديدة نحو تنفيذ رغباته، لكن هل يكترث الطفل العنيد بأسلوب التهديد والوعيد الذي يلجأ إليه الأبوان في بعض الأحيان؟ علماء النفس يقسمون الدوافع والمحفزات الكامنة في الإنسان إلى فطرية ومكتسبة، ومن ثم فإنّ الطفل العنيد لا تمثل له هذه الدوافع بنوعيها أهمية تذكر، لذلك فإنّ إطلاق التهديدات والضرب يزيده تمسكاً برأيه بل تزيد قدراته على الاحتمال بحيث لا تؤثر فيه تلك الإغراءات التي قد تؤثر في أمثاله، وبالتالي يتزايد لديه الشعور بالقسوة والقهر في الوقت الذي يبدو فيه ثابتاً يقدم اقتراحات مجنونة وغير منطقية مما يضع الجميع في حرج.

 

ابني يعاقبني:

حكايات الأُمّهات عن عناد أطفالهنّ لا تنتهي، فزياد عمره 8 سنوات تشير عيناه اللامعتان إلى ذكاء حاد لكنه دائم الحركة لا يثبت في مكان، تقول أُمّه اكتشفت عناد ابني وهو لا يزال طفلاً رضيعاً، فحينما كنت أتأخر في إرضاعه لانشغالي بأمور المنزل كان يرفض تماماً الرضاعة ويظل لفترات طويلة معرضاً مهما حاولت إشباعه، وفوجئت بأنّ الأمر يتطور في المراحل الأولى من عمره، فهو يرفض الطعام والشراب خاصة أثناء فترات الليل إذا ما تأخرت في تلبية مطالبه وأصبح الأمر مزعجاً لأنّه لا يكف عن البكاء، ولا يستجيب لمحاولات استرضائه فشعرت أنّه يقوم بمعاقبتي فقابلت عناده بالضرب الشديد وتركه من دون تقديم ما يطلبه، سلوكيات زياد كانت مثار اندهاش إخوتي، فنصحني البعض بالشدة والبعض الآخر بالحوار الهادئ وبمرور الوقت هدأت حدة العناد لكنه لا يزال يتصف بالإصرار والتحدي إذا تمت المواجهة.

طاهر نبيل بالصف الأوّل الابتدائي يبدو هادئاً منزوياً بمفرده، لكنه دائماً يفاجئ الجميع بسلوكيات غريبة، فهو طفل وحيد يعيش في ظل مشاحنات بين الأبوين لا تنتهي وكما تقول والدته ابني ضحية خلافات مستمرة تحدث أمام عينيه يرصدها بنظرات ثابتة من دون التعليق ولو بكلمة، ثمّ يقوم بإلقاء الأشياء من الشرفة، وتفشل محاولات منعه ولو بالقوة ولذلك يتعرض للضرب المستمر فيزداد عناداً وصراخاً ويبادلني اللكمات والشتائم، كما أنّه يرفض أنواعاً كثيرة من الأطعمة المفيدة ويغلق فمه تماماً لعدم تناولها، نصحتني أمي بعرضه على أحد الأطباء النفسيين بعد أن فشلت في إقامة علاقة سوية معه، لكنني أخشى أن تؤثر هذه الجلسات في شخصيته أو أن ينظر إليه باعتباره مريضاً وآمل بمرور الوقت أن يتفهم ما يدور حوله وتتغير شخصيته بتغير ظروفه وعمره.

 

وراثة:

وتصف أم هنا عماد ابنتها 5 سنوات بالعناد الشديد، وهي صفة كما تقول ورثتها عن أبيها الذي يندرج لأصول صعيدية تتصف بالشدة والانفراد بالرأي وقد لاحظت أنّ ابنتي تحاول فرض رأيها بأساليب مختلفة أو ضرب رأسها في الحائط لمجرد مخالفتها الرأي، فهي لا تأكل إلا ما تحبه ولا ترتدي إلا ما تختار، وتصر على محادثة الجميع في الهاتف حتى ولو كان شخصاً غريباً، وبمجرد الاقتراب منها تملأ الدنيا صراخاً وضرباً على وجهها ويزداد الأمر سوءاً في حال اصطحابها للتسوق وشراء حاجياتها، فحين ترتدي فستاناً لا تريد خلعه وتتصرف أمام الناس بطريقة غير لائقة حيث تصرخ أو تضرب من يتقدم منها، لذلك قررت عدم اصطحابها كنوع من التأديب، ولست أدري ما أفعله صواب أو خطأ، فهي هادئة وحنونه لكنها دائمة العناد في كلّ كبيرة وصغيرة، أشعر بالحيرة والخوف لأنني لا أعرف إذا كانت هذه حالة مرضية أم وراثية؟

لماذا يتصف بعض الأطفال بالعناد؟ وما دور التنشئة الاجتماعية في تقويم هذا السلوك؟

تجيب الدكتورة ثريا عبدالجواد أستاذة علم الاجتماع جامعة المنفوية قائلة: أي سمة سلوكية في الإنسان يرتبط جزء منها بالتركيبة الوراثية والآخر بعملية التنشئة الاجتماعية، فالتركيبة الذهنية تجنح نحو الجمود أو التطرف ثمّ تأتي البيئة لتشكل أسلوب الطفل في التعامل الذي يتمتع بدرجة عالية من الذكاء الاجتماعي، بحيث يستطيع معرفة شخصية الأم والأب ومدى استجابتهما لمطالبه، فإما الجدية والحسم في مواجهة مطالبه وإما الانطواء والعزلة، في جميع الأحوال يحاول الطفل إثبات ذاته مكتسباً بعض السلوكيات من ثقافة المجتمع السائدة، حيث العلاقات الواسعة خارج الأسرة الأعم والأشمل والتي تشكل طبيعة علاقته بالآخرين. وعن أهمية الحوار والنقاش للتقليل من حدة العناد لدى الطفل تؤكد ثريا عبدالجواد أنّ هذه القيم لابدّ من ترسيخها في عملية التنشئة، فلا خلاف على أهمية التشارك وتقدير رأي الأبناء والاستماع إليهم مهما جنحوا في توجهاتهم واختلفوا مع الآباء، فالتجارب أثبتت أنّ القهر والعنف لا يولدان إلا عنفاً قد يمارسه الطفل تجاه المحيطين به أو تجاه نفسه. لذلك على الأسرة الانتباه إلى سلوكيات أطفالها منذ لحظة الميلاد لأنّ العناد يرتبط بسياق البيئة التي ينشأ فيها الطفل، فعناد الأطفال كما ترى عبدالجواد ليس مرضاً نفسياً بقدر ما هو مرض اجتماعي يستتبع تضافر جهود الدولة في تطوير مناهج التعليم بوضع العلوم الاجتماعية والإنسانية لإعداد الأبناء لحياة اجتماعية سليمة، والاهتمام بالخطاب الإعلامي الذي يلعب دوراً سلبياً خطيراً على سلوكيات وأخلاقيات الأطفال، كما يجب أن تحرص الدولة على تصميم مكاتب الإرشاد الأسري أسوة بالدول المتقدمة التي تضع في أولوياتها الأطفال شباب الغد بناة المستقبل.

 

ظاهرة صحية:

في حين ترى الخبيرة النفسية الدكتورة مرفت العماري أنّ عناد الأطفال مسألة صحية لا مرضية، لأنّه جزء من تطور الشخصية الذي ينتج عن التطور المعرفي والفكري، فالطفل يبدأ من مرحلة الشك في كلّ ما يحيط به في العامين الأولين، ثمّ تأتي مرحلة الاكتشاف لأبويه ولأسرته، لذلك فتأثر الأُم المتجاهلة أو المهملة يفوق بمراحل الأُم المسيطرة، حيث يشعر مع الأولى بفقدان ذاته وأهميته، فتبدو سلوكياته نوعاً من رد الفعل المعاقب لهذه الأُم لذلك ينبغي ألا تقف الأُم بالمرصاد لطفلها بل يجب احتواؤه وتهذيب سلوكياته بعقاب يتم من خلاله تناقل الخبرات من دون إهانته أو التقليل من شأنه، وهي تعي جيداً أنّ هذه الصفة جزء من مسارات النمو الطبيعية لدى جميع الأطفال في السن الصغيرة.

هل العناد صفة وراثية؟

تقول العماري الصفات الوراثية تتشكل من خلال التربية والبيئة المحيطة والتعلم وإدارة الحوار بين الأُم وطفلها، ولكلّ شخصية تركيبة وبصمة تميزها عن غيرها منذ لحظة الميلاد الأولى، ومن ثمّ قد يسهم الأبوان في تزايد عناد الطفل إذا انتفت العلاقة الحميمة بينهما، وإذا لم يتم التجاوز عن الأخطاء المتكررة والسماح بإتاحة الفرص المختلفة لإبراز شخصيته وإثبات ذاته، وعن كفاءة ما يسمى بالعلاج الجماعي، تقول العماري: هذا النوع من العلاج يوجد في مصر لكنه يحتاج للاهتمام والتعميم، حيث تجري الجلسات بسن 3 سنوات حتى 15 عاماً، يتم التعامل فيها من خلال الأبوين لتصحيح مسار الطفل، فالحقيقة أنّ العلاج لابدّ أن يبدأ من الأسرة وطبيعة العلاقة بين الأب والأُم لتنشئة أطفال أسوياء نفسياً واجتماعياً.

ارسال التعليق

Top