• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفِصال.. جزءاٌ من ثقافة الدول والشعوب

محمد محمد مستجاب

الفِصال.. جزءاٌ من ثقافة الدول والشعوب

◄سُلطان الأسواق وأمير المفاوضات، والحاضر دائماً في كلّ اتفاق، ثقافة عالمية، وتكتيك استراتيجي يحتاج إلى صبر وطول بال، مبارزة كلامية للوصول إلى الهدف، ومكر شرائي ودهاء تسويقي، ومساومة فيها كثير من التنظيم والتضييق والأسلحة، يقع بين منطقة الشد والجذب وأحياناً الممل، إرهاق وتعب للقلب، كثيراً ما يثير المشكلات التي تمتد للإشتباك بالأيدي والأسلحة.

إنّه الفِصال، وهو المساومة، أيّ المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وثمنها. وهو ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، أو بالأحرى هو موجود منذ بدء عمليات البيع والشراء، البعض يكرهه والبعض الآخر يعشقه ويعتبره هواية ذهنية ومبارزة كلامية للحصول على سلعته بسعر يرضيه.

والفِصال لا يرتبط بفئة أو طبقة أو شعب معيّن، بل هو هواية وطاقة تسير في كلّ أشياء الحياة، فلا تستطيع إنجاز أيّ عملية بيع أو مفاوضات سياسية أو حتى ميعاد بين صديقين إلّا وكان الفِصال حاضراً، الجميع يفاصل ويساوم من أجل الحصول على شعور بالرضا أو الانتصار.

وقد ارتبط الفِصال بالنساء أكثر من الرجال، نظراً لأن ميزانية البيت تكون بحجوزة النساء، وبالتالي فالمرأة مُجبرة على الفصال، سواء في متطلبات البيت من خضراوات وبقالة وخلافه أو حتى ثمن الدرس الخصوصي، فالشعور بأنّها قد فازت أو كسبت بعض قروش قليلة قد يجعلها تنام راضية. وربما يعود ذلك إلى أنّها تكون مقيدة بميزانية محددة لديها، فتحاول قدر الإمكان شراء أكبر عدد ممكن من المستلزمات بأقل سعر ممكن.

وجميع النساء يعشقن الفِصال، سواء الفقيرة منهنّ أو الثرية، لذا يستريح كثير من الباعة عند وجود رجل بصحبة زوجته أو ابنته، لأنّه يشعر ببعض الإحراج من كثرة فصالها، أو قد يلقى الثمن المطلوب ويأخذ البضاعة ويغادر بعيداً عن الإحراج الذي يسببه الفِصال.

ولا أعرف السر في سبب عشق المرأة للفِصال أكثر من الرجل، حتى ولو وضع سعر محدد على السلعة، مثلما يحدث في المحلات الكبرى، فنجد المرأة عند الدفع تحاول أن تفاصل، حتى ولو على سبيل المزاح، وكأنّها تريد بذلك عند عودتها إلى البيت أن تحكي وتتفاخر بقدرتها، أو بالسعر الزهيد الذي اشترت به السلعة، والحكي هنا يزداد تشويقاً ومتعة بذكر فصالها وإظهار قدرتها الشرائية للحصول على السلعة بالسعر الذي تريده.

ولأنّ الفِصال يُرهق الكثير من الباعة، فنرى بعضهم، سواء في محل أو بائع متجول قد رفع بعض الشعارات ضدّ الفِصال، التي تعتبر أسلحة للبائع في مواجهة المشتري وفصاله، فنجد من تلك الشعارات واللافتات: "ممنوع الفِصال" أو "كفى مناهدة ووجع قلب" أو "البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل" أو "الذي في بدايته شرط آخره نور" أي محدد منذ بدايته، أو "بين المشتري والبائع يفتح الله"، بل إنّ بعض الشعارات أخذت طابعاً ساخراً، مثلما وجدت في أحد المحلات شعار "الرجاء ممارسة هواية الفِصال خارج المحل".

كلّ هذه الشعارات يضعها البائع كي يبتعد عن الفِصال؛ ولكن مهما اتخذ من إجراءات، فسيظل الفِصال موجوداً، حتى ولو من باب المداعبة وبعد أن تتم عملية البيع.

يحتاج الفِصال إلى خطوات وتدريبات يجب أن نتسلّح بها، قبل الإقدام على عملية شرائية أو مفاوضات سياسية، منها الحرص والحذر، والقدرة على الإقناع، والصبر، والتصرف بلباقة والتحدث بعبارات منتقاة بعناية، والثناء على البضاعة وصاحبها، وإظهار الرغبة في الاستمرار مع هذا المحل، والقدرة على تقديم حافز، كأن نخبر البائع بقدرتنا على جلب مزيد من المشترين من المعارف، والقدرة على الإلمام ببعض المعلومات عن أسعار السلع في السوق، ويجب إظهار تلك المعلومات وقت الشراء. ولأنّ كثيراً من التجار يخدعون الزبائن الجاهلين بنوعية وأسعار البضائع، لذلك يفضل أن يُلم المشتري ببعض المعلومات عن البضائع، ويناقش التاجر بطريقة تظهر أنّ لديه خبرة سابقة في هذا النوع من السلع واسعارها، وأيضاً القدرة على الدفع نقداً الذي بسببه نستطيع الحصول على خصم مناسب، كما أنّ اختيار الوقت المناسب يجعلنا نستطيع الحصول على السلعة بسرع أفضل، مثلما يحدث في أثناء التنزيلات أو نهاية العام للتخلص من البضائع القديمة أو التي لم تعد تسير على الموضة.

ومع ذلك، يحاول معظم التجار تحقيق أرباح كبيرة من خلال وضع هامش ربح مرتفع للسلع التي يعرضونها للبيع، ويلجأ المشتري للتفاوض في محاولة للحصول على أقل سعر ممكن، وفي جميع الأحوال يجني البائع أرباحاً لابأس بها، حتى لو حصل الزبون على السلعة بالسعر الذي يرغب فيه.

وما يثبت أنّ الفِصال "هواية" هو وجود كثير من الزبائن الذين لا يمتلكون أي نقود في جيوبهم، ويحاولون دخول أيّ محل وممارسة الفِصال، مع أنّهم لن يقوموا بشراء شيء، والمدهش أن تجد هؤلاء الأشخاص يدخلون في مناقشات وشد وجذب، لإظهار قدرتهم التفاوضية، وإشباع هوايتهم، حتى لو من باب التسلية.

سيظل الفِصال جزءاً لا يتجزّأ من ثقافتنا، نجده بين البشر والدول، فهو أسلوب حياة في الشارع والأسواق وممرات صندوق النقد الدولي والمؤتمرات الاقتصادية ونادي باريس والبنوك ومكاتب رجال الأعمال.►

ارسال التعليق

Top