• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن.. رسولٌ خالد ومرجع كوني للبشرية

د. طه جابر العلواني

القرآن.. رسولٌ خالد ومرجع كوني للبشرية
   منذ نعومة أظفاري وإصلاح أمتي هم الهموم، والشغل الشاغل المستغرق لعقلي ونفسي ووجداني معاً. ولقد درست الكثير من حركات الإصلاح التاريخية والمعاصرة، وتأمّلت طويلاً في برامجها الفكرية والسياسية والإجتماعية والثقافية والتربوية، فكنت كلما قلت: "وجدتها" لا ألبث إلا يسيراً حتى تتكاثر الأسئلة والإيرادات، والإستشكالات أحياناً على تلك البرامج بحيث أجدني بعد فترة – قد وضعتها في أحجامها الطبيعية، أو موقعها الذي أرى أنّه الموقع الطبيعي لها: كأن أقول: إنها حركة جزئية، أو ذات برنامج جزئي يمكن أن يحقق شيئاً، لكنه يتجاوز أشياء، حتى صرت كثيراً ما أحاور نفسي بنفسي لأقول لها أحياناً: إذا كان كل أولئك المفكرين العمالقة وهم، من هم في عظمتهم وجلالة أقدارهم لم يقدموا إلا أفكاراً جزئية، ومعالجات محدودة، وفي كل حركة من هذه الحركات أو محاولة من تلك المحاولات، لا تلبث أن تجد لك فيها بعداً غائباً، أو ثغرة مفتوحة للإستشكال، فأين هو الحل الشامل الذي لا تستطيع أن تستشكل عليه؟ وأين هو البرنامج التام الذي يمكن أن تقتنع به، وتهب له ذاتك كلها؟ وتتوقف عن الإستشكال عليه، أو الملاحظة، أو وصفه بما قد يستحق وما قد لا يستحقه من أوصافك؟ كما اعتدت أن أقول: "برنامج ذو بعد واحد، جزئي، يقوم على المقاربة لأفكار الآخرين، أو ينطلق من المقارنة، نموذجه المعرفي جزئي فكبّله في إطاره، يفتقر إلى المنهج، لم يلاحظ خصائص الرسالة الخاتمة... إلخ"، وقد ألفتُ من نفسي هذا القلق والتساؤل حتى كدت أكتب للدكتور عبدالرحمن بدوي ليضعني بين شخصياته القلقة في أيّة طبعة قادمة لكتابه "شخصيات قلقة في الإسلام"، ولم تخطر ببالي هذه الخاطرة الجريئة لأنني لا أرى نفسي واحداً من أولئك العمالقة القلقين الذين منحهم د. بدوي هذا اللقب، مثل أبي حامد الغزالي ونحوه، فأنا مدرك لحجمي لكن حجم قلقي هو الكبير، وهو الذي يستدعي النظر والتفكير فهو قلقٌ يدور حول مشاريع الإصلاح – إصلاح (الأُمّة القطب) – التي بصلاحها ينصلح العالم، فهي بالنسبة للبشرية كالنبي الخاتم بالنسبة لها، فهو الشهيد عليها مادام فيها، وهي الشهيدة على الناس بعده.   - القرآن: وفي غمرة هذه الحيرة يبرز القرآن المجيد بأنواره الغامرة، ومسارقه العامرة، يقدم للنجاة سفناً له كالأعلام لا تضيق عن أحد، ولا تقف عند حد، فيه الحكمة وفصل الخطاب، فيه الكتاب والميزان، والحق والبرهان، إنّه كلام الله – تعالى – ووحيه وتنزيله المفصل على علمه، يخاطبني به ويخاطب كل إنسان في كينونته فيحس كأنّه قد حاز الوحي الإلهي بين جنبيه، وضم النبوة والرسالة إلى سويداء قلبه، فيرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود، يراه في اتصال محكم في عالم الغيب وعالم الشهادة، ويراه في استمرار متصل بين الدنيا والآخرة، ويكتشف المؤمن – آنذاك – نسبة وامتداده وقراباته وعلاقاته الممتدة المتشعبة منه إلى آدم ونوح وإبراهيم وغيرهم، ويرى حياته الممتدة حتى يوم الدين والتي لا تنتهي ولن تنتهي بعالم يوم الدين، بل تتجاوز ذلك إلى عالم الخلود الأبدي والديمومة التي لا تنقطع في نعيم لا يهدأ ولا يبيد، أو جحيم يكان يتميّز من الغيظ لكنه لا يهدأ ولا يستكين. وبذلك يصبح الموت وقفة قصيرة، ومحطة يسيرة. ما أروع القرآن المجيد وهو يقدم لنا التصور الكامل النقي عن الكون والوجود والحياة والإنسان وخالق ذلك كله، وغاية الحق من الخلق. ما أروعه وهو يستعرض أخطر المشكلات التي تخبطت البشرية فيها ولا تزال تتخبط في أشباهٍ لها ونظائر، ويوضح أسبابها في الإنحراف عن جادة الحق، والميل عن الصراط السوي، ثمّ يشير إلى ذلك الصراط المستقيم، والمنهج الإلهي الذي يؤدي إليه. إنّ الإنسان أكرم على الله – تعالى – بكثير من كل أنواع التكريم والتقدير التي عرفتها البشرية من قبلُ ومن بعد، ولذلك فإنّه لم يخلقه عبثاً، ولم يتركه سدى. كيف وقد جعله إنساناً بنفخة من روحه، وأسجد له ملائكته، واتخذه خليفةً في أرضه، وخلق كل ما في الأرض وسخره له؟ وما أروع القرآن الكريم وهو يجب عن كل التساؤلات، ويعالج ما نعتبره أخطر الإشكالات، بأسلوبٍ لا ترقى إلى حكمته أدقُ وأعمق الفلسفات، ولا يمتنع كرمه من أن يجعل للعامّة منه نصيباً مفروضاً يقوي إيمانهم ويهدي قلوبهم، ويشعرهم بحلاوته وطلاوته فتخبت قلوبهم ويشعرون برفعة شأنهم والله سبحانه بكرمه وفضله يتحدث إليهم، فيمنحهم تعالياً وتسامياً يرتقي بهم نحو مدارج الإستقامة، والإعتزام بالإيمان، والنظر في حسرةٍ وإشفاق، إلى ما تعانيه البشرية التائهة عن سبيل القرآن من تخبطٍ وضلالٍ وتيه. إنّ القرآن المجيد يجعل قارئه المؤمن به التالي له حق تلاوته، والمتدبِّر في آياته ينتهي إلى يقين جازم أنّه لاصلاح لهذه الأرض، ولاراحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا عمران لهذا الكون ولا طهارة ولا تزكية ولا رفعة ولا بركة لبني البشر، إلا بالتشبث بهذا القرآن. فهو الذي يحقق التناسق والانسجام بين الكون والإنسان والحياة، وهو الذي يؤدي بالإنسان إلى الرجوع إلى الله تعالى. وهو الذي يقدم للبشرية – كلها – منهج الله الذي رسمه لها ويقودها نحو الاحتكام إليه والالتزام به، وتحقيق سعادتها من خلاله. إنّ تدبر القرآن الكريم يؤكد بوضوح أنّه لا المناهج الفلسفية ولا الطرق الكلامية ولا الأوصاف القيمية، ولا الفتاوي الجزئية بقادرة على إخراج البشرية من شقوتها، أو إنقاذها من ضلالها، وأنّ البشرية لن تجد الرشد، ولن تنال الراحة، ولن تذوق طعم السعادة ما لم تسلم للقرآن قيادتها بعد أن فسدت الأرض، وأسِنَت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية أنواع الويلات، التي لم يجتمع مثلها في تاريخ البشرية من قبل. فقد ظهر الفساد في البر والبحر، بل والجو وكل جوانب الحياة بما كسبت أيدي الناس.   - القرآن والسنن: لقد حقّق القرآن المجيد (بالرؤية الكلية القائمة على العقيدة) والشريعة والمنهاج الذين جاء بهما واقعاً اجتماعياً فريداً، وأنشأ أمة قطباً، وكياناً اجتماعياً ما كان من الممكن أن ينشأ على الأرض لولا القرآن. لقد بدأ خط الصعود في حياة أمتنا يوم حقق القرآن المجيد – في حياتها – تلك المعادلة السهلة الممتنعة في التقاء السنن الكونية، والقوانين الطبيعية والقيم الإيمانية معاً، ليلتقي الكون وحركته بفعل الإنسان وحركته في إطار الرابط الغيبي الذي يبدو وكأنّه الإسناد في طرفي الجملة. أو الحكم في طرفي القضية. وبدأ خط الهبوط من نقطة الفصام بينها وافتراقها حتى بلغ مرحلة التفكك اليوم، بإهمال السنن الكونية والقوانين الطبيعية والإجتماعية حتى جاء دور انهيار القيم الإيمانية. إنّ منهج القرآن، والشريعة التي يحملها، والمنطق الذي اشتمل عليه، كل أولئك طرفٌ من نظام الله – تبارك وتعالى – الذي ينتظم الغيب والإنسان والطبيعة في قانون كي يحكم الكون والحياة والإنسان، ليحقق القيم العليا الحاكمة من التوحيد والتزكية والعمران. لقد نكبت البشرية كلها يوم توهمت أنّ القرآن المجيد كتابٌ ديني شأنه شأن أي كتابٍ سبقه، وينبغي أن يعامل معاملتها فينحى حين تنحى تلك الكتب وينادى حين تنادى.   - تفرد القرآن: وحين انبثقت الحضارة المعاصرة، وإبداعاتها المادية بعد صراعها مع العهدين القديم والجديد، ونجاحها في تنحيتهما من طريقها، وإحلال العقل الإنساني والعلم البشري محلهما، فسرعان ما ألحق المغرضون والمغفلون القرآن بهما في ذلك، ووضعوه في مصافهما، وقيل للبشرية بتضليل شديد وخداع كبير: إختاري بين المنهج الديني الذي لم يسمح لك في ما مضى ببلوغ شيءٍ مما بلغته، وبين منهج الإبداع الإنساني الذي بلغ بك ما بلغ، وذلك خداعٌ خبيثٌ، فالقرآن لم يكن في يوم من الأيام عائقاً دون الإبداع البشري، بل العكس هو الصحيح، فإنّ الشعوب الأمية ما عرفت الإبداع بعد أن آمنت بالقرآن، ولا سلكت سبيل المتدُّن إلا بعد أن نهلت من نبعه الصافي، بل إنّ من أهم خصائص هذا القرآن قدرته المعجزة على الجمع بين سنن الكون وقوانين الطبيعة والقيم الإيمانية، وذلك حين علم الإنسان طبيعة العلاقة بين الغيب والإنسان والكون التي لا تسمح بوجود فصام بين سنن الله في الأنفس وسننه في الآفاق، فالصلة بين سائر أنواع السنن عفوية، ونتائجها متداخلة، والفصل بينها يؤدي إلى الانهيار لا محال، ولننظر ولنستمع إلى القرآن المجيد وهو ينشئ هذا الترابط بين سائر السنن ويؤكد عليه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ...) (المائدة/ 65-66). ونوحٌ يعد قومه وعد المؤمن الواثق: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12). ويوضح تعالى جلّ شأنه بأجلى بيان وتوضيح ذلك الترابط الوثيق بين الوضع النفسي للإنسان وبين الواقع الخارجي، ويشير إلى أثر فعل الغيب في ذلك الترابط: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال/ 53)، ونحوه في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). وهكذا يبين القرآن المجيد أنّ الإيمان بالله، والإلتزام بمنهج كتابه والإستقامة على طريقته، والإهتداء بنور شريعته، كل أولئك سننٌ في الفعل الإنساني، منبثقة عن اختياره تتحقق بمقتضاها أهلية الإستخلاف وقابلية الإئتمان، والفوز بالإختبار والإبتلاء، فتصبح بمثابة سننٌ في البشرية تبحث عن السنن الكونية لتلتقي بها وتتفاعل فتنتفي العبثية، ويتم تجاوزها وتجاوز حالة "السدى" كذلك.   - القرآن والعمران: وقد يقول أولئك يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون: إنّ الحضارة المادية الجبارة القائمة اليوم، قد سخّرت قوانين الطبيعة وسنن الكون، فلم يتخلّف عنها قانون ولم تتمرد عليها سنةٌ من السنن الكونية رغم تجاوزها للدين ومخالفتها للإيمان، وعدم اهتمامها بالقيم. فنقول: إنّ العلم بظواهر الحياة الدنيا أمرٌ ممكن تحققه من الذين لا يؤمنون، وقد يعين ذلك العلم على تحقيق الإبداع المادي، والرقي التقني، وقد يصنع حضارة، لكنه لا يقيم عمراناً. والقرآن المجيد يريد منا أن نقيم عمراناً يرتقي بالمعنى الإنساني ويجعل إنسانية الإنسان وكرامته محور الاهتمام، ولا يسخر الإنسان للكون ومادته، بل يسخر الكون وما فيه للإنسان، وهذا هو الفرق الدقيق الذي يغفل عنه الكثيرون بين "العمران الإلهي والقرآني" وبين الحضارة المادية، فكل عمرانٍ حضارةٌ وزيادة، ولكن ليس كل حضارةٍ عمراناً. إنّ القرآن لم يأتِ ليعلمنا أسرار الكون المادية، بل ليحفزنا للكشف عنها، ومعرفة السنن التي تحكمها، لذلك جاء القرآن بأحكام التكليف المرتبطة بترقية الإنسان، وتقييم أفعاله واضحة بينة في حين جاء بأسرار الوجود مكنونة مكتنزة ليكشف القرآن المكنون على يدي الإنسان وبجهده، وتبعاً لنمو قدراته عن أسرار الكون، وبدائع الصنائع الإلهية، فيتقدم العمران ويتسع، وتنمو القدرات البشرية وتزدهر، ويتكشف مكنون القرآن عن إعجازه.   - هل يمكن تعريف القرآن؟ لقد حاول الأصوليون تعريف القرآن فقالوا: "القرآن: كتاب الله، المنزل على محمدٍ (ص)، المتعبدُ بتلاوته، المتحدى بأقصر سورةٍ منه، المفتتح بالفاتحة والمختتم بسورة الناس". وإذا كانت الحدود والرسوم والتعاريف توضع لتكون جامعةً لكل أفراد المعرّفِ، مانعة من دخول الغير فيه، مع الإطراد والإنعكاس فقد يكون ذلك ممكناً بالنسبة لغير القرآن إذ القرآن مطلق، وأيُّ تعريفٍ يضعه أيُّ صنفٍ من العلماء لا يعدو أن يكون تعريفاً نسبياً ويستحيل أن يحيط النسبي بالمطلق. ولذلك امتنعت جمهرة العلماء عن تعريفه بالحد والرسم وتقول بالقول لمن أراد تعريفه أن يشير إلى المصحف قائلاً: "هو هذا" أو يقول: هو كتاب الله المنزل على محمد (ص) ابتداء من قوله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين إلى نهاية سورة الناس)، وهو معجزة خاتم النبيين الذي لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، نزله الله بعلمه وتكفل بحفظه، ولم يكل حفظه أو جمعه إلى سواه. حفظه لفظاً ومبناً، ليكون مرجعاً دائماً للبشرية، تستغني به عن تتابع الرسالات وتتالي النبوات، فهو بمثابة الرسول المقيم للبشرية إلى يوم الدين، لا يزيغ فيستعتب ولا ينحرف فيقوّم، ولا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، ولا يأتيه الباطل بين يديه، ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد. وقد أودع الله جل شأنه كتابه هذا من الخصائص والمزايا والصفات ما يجعله قادراً على تلبية احتياجات البشرية كلها من المنهج والشريعة مهما اختلفت أزمانها، وتناءت ديارها، وتغايرت وتمايزت ثقافاتها وحضاراتها، وتضاربت تقاليدها وتواريخها واختلفت ألوانها وأجناسها. وهذا الكتاب الكريم المعجز الخالد الباقي على مرّ الزمن، المطلق بخصائصه تلك وبمزاياها. وبما أودع الله فيه من صفات ليكون بهذه المثابة وليكون قادراً على أن يؤدي للبشري هذا الدور الخطير. كان محفوظاً بحفظ الله ومعصوماً بعنايته، أودع فيه من الخصائص والصفات ما يجعله خطاباً عالمياً، وفي الوقت نفسه لا تقبل عليه أمة من الأُمم إلا وتشعر كأنّه خطاب خاص بها مُوجه إليها، وكأنّها هي المعنية به وحدها، فهو وإن كانت مباني ألفاظه تنتسب إلى لغة من لغات البشرية هي اللغة العربية، ولكن معانيه ودلالاته وما تشتمل عليه تشمل البشرية كلها وتحتضن الإنسانية جميعها، فما من قبيل ولا فصيل ولا فرد ولا جماعة ولا أمة ولا طائفة، إلا وتجد في هذا القرآن لها موقعاً ونصيباً وتجد في خطابه ما هو موجّه إليها، إن أحسنت التدبُّر وأصغت السمع ملياً. لقد نزل هذا القرآن المجيد على عبد الله ورسوله وخاتم رسله محمد (ص) في مكة المكرمة، وبدأ نزوله في شهر رمضان المعظم من سنة أربعين – من عمر رسول الله (ص) – وتتابع نزوله حتى تم بعد مضي فترة على بدء النزول بدأ نزوله بقوله الله تعالى: (إقرأ...) واكتمل وتمت آياته بنزول قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم...) ولقد قام رسول الله (ص) بمهمة تلاوته على الناس وقراءته عليهم وتبليغهم آياته، وما اشتمل عليه من أحكام وحكم، وتزكيتهم به وتطهيرهم بمحكم آياته، حتى تمكن عليه الصلاة والسلام من أن يوجد بالقرآن العظيم نماذج تُجسِّد كل أنواع الخير، وتعظّم سائر القيم، وتقدم كل النماذج التي تحتاج البشرية إليها في كل جانب من جوانب الحياة. فعلَّم رسول الله (ص) بآيات الكتاب، وحكم بأحكامه ونشأ الناس على منهاجه، فتعلم الآباء كيف يكونون آباء صالحين، والأبناء كيف يكونون أبناء بارين، والحكام كيف يكونون مقسطين عادلين، والمعلمين كيف يكونون أسوة للمتعلمين، والمتعلمين كيف يكونون متعلمين مؤدبين صالحين، والقادة كيف يكونون قادة صالحين، والجند كيف يكونون مخلصين مجاهدين، والعلماء كيف يكونون عاملين، والتجار كيف يكونون أمناء ورعاة لمصالح العباد، والمتعاملين بشتى أنواع المعاملات كيف يقيمون علاقاتهم على القيم العليا والمقاصد الحاكمة، وكيف يتبادلون المنافع والطيبات بالشكل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، وذوي الأرحام كيف يصلون أرحامهم، ولم يدع (ص) طائفةً من الناس إلا وضرب لها المثل وقدّم لها النموذج من خلال هذا القرآن وآتاها نصيبها من القيم التي يحملها. حتى لم يعد هناك فصيل من الناس أو قبيل إلا ويستطيع أن يجد في سيرة هذا الرسول (ص) وقيم ما يتلوه من القرآن الكريم ما يستطيع أن يتأسَّى به، وتصديق كل ذلك تجده في سنة وسيرة رسول الله وما كان منه عليه الصلاة والسلام من بيان ليكون تطبيقاً وكشفاً وبياناً وتنظيراً وتجسيداً لتعاليم هذا الكتاب العظيم. فلم تعد البشرية بعده في حاجةٍ إلى شيء سوى أن تتلو هذا القرآن، وتتدبَّر آياته، وتعمل بمحكمه، وتؤمن بتفاصيله، وتلتزم سلوك جادَّته، وتتشبث بمنهجه، وشريعته، وتتأمّل منهج رسول الله (ص) وسيرته في تطبيق تعاليمه. لقد استطاع عليه الصلاة والسلام بهذا الكتاب الكريم المعادل للكون وحركته، أن يحيط بحركة الكون والواقع والبشر يتحركون فيه فيمتزج الزمان والمكان والحاضر والمستقبل والتاريخ وسائر المؤثّرات والمتغيرات التي تدخل الواقع البشري، استطاع أن يقرأ ذلك كله وأن يربط قيم القرآن الكريم بذلك الواقع لتمثِّل بعد ذلك سنته وسيرته، منهج التأسي الكامل للبشرية كلها، فتستطيع البشرية كلها مهما كانت ثقافتها أن تستحضر هذه السيرة ساعة ما تشاء، وأن تضع هذه السنة بين أيديها وقت ما تريد إلى جوار القرآن الكريم فتتدبّر آياته، وتنظر في تلك السيرة والسنة المعطرة متدبرةً ذلك الواقع الذي عاشه الرسول (ص) محللةً لعناصره كلها، مكتشفةً لفعل الزمان وأثر المكان وعلاقة الحاضر بالماضي وعلاقة المستقبل بالحاضر وسائر تلك الجوانب، لتتمكن من الحصول على الحكمة والوصول إلى الهداية في أي شأن من الشؤون، وفي أي أمرٍ من الأمور، وتجد القرآن باستمرار غضاً قادراً على العطاء كأنّما أنزل عليها، وجاء في وقتها لو أحسنت تدبَّره واستخرجت ما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، وحينما أدى رسول الله (ص) هذه المهمة فاستكمل مهمة التلقي عن الله – جلّ شأنه – بتمام القرآن وكماله واستكمل مهمة منهج التأسي والإقتداء والربط بين القرآن والواقع وقراءة الآيات وتلاوتها وتدبُّرها، وفتح آفاق النظر والفكر لقراءة الكون ودراسة الواقع ومنهجه وحركته والإنسان يتحرك فيه، بعد أن تم هذا أذن الله لرسوله أن يلتحق بالرفيق الأعلى فأنزل عليه – جلّ شأنه – (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر/ 1). إيذاناً له عليه الصلاة والسلام بتمام رسالته واكتمال مهمته، وأن عليه الآن أن يستعد للحاق بالرفيق الأعلى ليجاور خالقه تبارك وتعالى ومنزل القرآن عليه، وخالق الكون والإنسان والحياة الذي ختم به النبوات وأكمل به عليه الصلاة والسلام الرسالات، وترك هذا القرآن نصاً محفوظاً معصوماً تهتدي به البشرية متى شاءت، وتنهل منه متى أرادت فتستقيم حياتها، وتحمل بقدرة أمانتها ومسؤوليتها، وتباشر مهمتها الاستخلافية دون رقيب أو حسيب إلا هذا القرآن الشاهد فيها والشاهد عليها. وحين أذن الله لرسوله (ص) بمفارقة هذه الحياة واللحاق بجواره تعالى، عاشت الأُمّة التي صاغها عليه الصلاة والسلام وقدمها نموذجاً للبشرية مهيأة عقلياً للمرحلة القادمة، فقد هيأها القرآن لذلك (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...) (آل عمران/ 144)، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا) (آل عمران/ 145). وقوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر/ 30).   - القرآن وعلاقته بالسنة: ولقد كان معروفاً لديهم أنّ السنة النبوية إنما هي تطبيق وبيان عمليٌّ للقرآن وأنّ السنة هي الطريقة والمنهج الذي رسمه رسول الله عليه الصلاة والسلام في ربط قيم القرآن بالواقع ولم يعرف عندهم أنّ السنة أمر يمكن أن ينفصل عن القرآن الكريم، أو يكون شيئاً آخر غير بيان له وتطبيقاً لقيمه وتعاليمه وتجسيداً لحكمته، وما اشتمل عليه في الواقع الذي يحيونه ويعيشونه، وما كان لهم أن يكون لهم فهم غير ذلك. فرسول الله عليه الصلاة والسلام قد كرس هذا الفهم فيهم وجعل القرآن محور كل شيء. فهي دائرة حوله، مبينة له، منفذة لتعاليمه، موضحة لحكمته منزِّلة لقيمه في الواقع على إدراك وفهم كامل للواقع، وإدراك وفهم كامل للكون، وإدراك وفهملمعادلة هذا القرآن لذلك الكون وحركته، وإدراك وفهم للقراءتين التي أمر رسول الله (ص) أوّل ما أوحي إليه بأن يقرأ بهما، قراءةً مع ربهوقراءة باسم ربه – جلّ شأنه – (إقرأ باسم ربك الذي خلق..) (العلق/ 1). ولم يكن بعد لحاق رسول الله عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى لم يكن هناك أي لبس في ذهن أي من قراء الصحابة رضوان الله عليهم يمكن أن يسمح له بأن يخلط بين كتاب الله وسنة رسوله أو يمايز بينهما تمايز انفصال يجعل كلاً منهما متمايزاً عن الآخر، أو بعيداً عنه بأي شكل من الأشكال. فالقرآن هو المصدر المنشئ للمعرفة، للعلم وللحكمة وللتزكية والعمران والتوحيد. والسنة: هي المصدر المبين لمنهجية التطبيق والتنزيل على الواقع، فهي وحي يعلِّم به رسول الله (ص) الناس كيف يربطون بين نص ثابت محكم إلهي، معجز متحدّى به، وبين واقع متغير يعيشونه، يتفاعل فيه الزمان والمكان والإنسان وسائر نظم الحياة وسائر المؤثرات والمتغيرات التي يتعرض الكائن البشري لها في هذه الحياة. بل لقد كرس رسول الله (ص) هذا المعنى فيهم ونهاهم أن يكتبوا شيئاً من سنته (ص) مع القرآن لتظل سنة واضحة ترشد الناس إلى طريقته ومنهجه بالربط بين فهم القرآن والواقع، فالسنة تشاهد وتُتبَّع ويُتأسَّى لها وتتحول بعد ذلك إلى عرف يتعارف المجتمع كله عليه، ولا يلتبس على الناس أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام يقول شيئاً أو يفعله خارج دائرة البيان والتطبيق لقيم القرآن وأحكامه، فإذا كان القرآن هو المصدر الوحيد المنشئ لتصوراتنا، لأفكارنا، لقيمنا، لتعاليم ديننا، فإن رسول الله (ص) بطريقته وسته ومنهجه هو مصدر التأسي والبيان للقرآن على سبيل الإلتزام للقرآن. ولذلك سار كبار الصحابة وقراؤهم بعد وفاته على هذا النهج، فهم يجيبون بالكتاب الكريم عن أي سؤال أو إشكال تثيره البيئة. ويبحثون في السنة عند البحث عن المنهج الأسلم للتطبيق والمنهج الأسلم للتنفيذ، فإذا كان هذا كان بها، وإلا بذلوا جهدهم واستنفروا كل طاقاتهم وأجمعوا أمرهم لكي يصلوا إلى تصور يجعلهم قادرين على استحضار صورة رسول الله (ص) كما لو كان يعيش بينهم حينما ظهر هذا السؤال، ماذا كان يمكن أن يكون جوابه وماذا يمكن أن يكون عليه تصرفه عليه الصلاة والسلام؟ فسنته، وحكمته وطريقته هي البيان الملزم بعد بيان القرآن لنفسه. تكامل الأقوال والأفعال النبوية الذي يمثل السنة مع السيرة والسلوك يقدم لنا بياناً كاملاً شافياً تستطيع البشرية التأسي به والإقتداء به في كل زمان ومكان. ذلك لأنّ التكامل بين الأقوال والأفعال يقدم لنا الإطار النظري والقيمي مصحوباً في الوقت نفسه بالجانب العملي والتطبيقي. فالإطار النظري والقيمي يمثل مجموعة الثوابت، والإطار العملي أو الطرق ووسائل التنفيذ تبيّن لنا الجانب النسبي في ذلك الواقع المتغير لكي نجد وسيلة لإدراك الفروق بين واقع عصر النبوة، وما فيه وبين أي واقع نريد تنزيل الإطار النظري والقيمي عليه، وبذلك يبقى الإطار النظري وإطار القيم ثابتاً محفوظاً من الانحراف والزيغ والزلل، في وقتٍ تبقى الوسائل متغيرة وتبقى القدرة على تنزيل هذه القيم قائمة ومتمثلة بكل مجتمع من المجتمعات، ولا تتحول السنّة إلى نوع من الإشكال أو نوعٍ من الرموز أو إلى نصٍ موازٍ يحل محل القرآن أو يوازيه أو يسابقه لدى البعض. ومن هنا يقول رسول الله (ص): "صلوا كما رأيتموني أصلي" فيفرق بين الأمر بالصلاة الذي هو توكيد لأمر الله بها وبيانها له بفعله عليه الصلاة والسلام، فيتكامل قوله مع فعله وأدائه للصلاة في البيان لقوله تعالى: (أقيموا الصلاة...) أما مكان الفعل أن تكون أرضاً مسقوفة أو مكشوفة، أو أن يكون مسجداً مخصصاً أو أرض فلاة، أن يكون مسجداً مفروشاً بالسجاد أو سواه، فهو أمرٌ آخر. فلكل عصرٍ وزمانٍ ومكانٍ وسائله وأدواته. وإذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" فإنّه يقدم لنا هذه المناسك في إطار الأمر الإلهي وبيانه في أقواله وأفعاله، ليتكامل القول والفعل في أداء حق البيان وواجبه وتبقى الوسائل أن تركب الطائرة أو السيارة أو أن تركب جملاً، متغيرة بتغير البيئات والثقافات وسواها. وإذا أمر رسول الله (ص) بأمرٍ أو نهى عنه وعرفنا كيف نفذ رسول الله (ص) فعل الإمتثال أو الإمتناع، ففي هذا الإطار نستطيع أن نفهم البيان وأن نفرق بين القيم الثابتة وبين الأشكال والوسائل، وتبدو الحكمة واضحة في كل شيء. فلا تناقض ولا تعارض ولا تناسخ ولا تضاد في داخل ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا في سنة رسول الله (ص) المبينة له ولا في العلاقة بين الكتاب والسنة المطهرة. وإذا كان رسول الله (ص) يأمر بالأمر ويبني عليه، ثمّ يقوم بنفسه بتنفيذه، فإن ذلك يكمل لنا الصورة بشكلٍ كاملٍ وبشكلٍ جامع ويعطي لنا البيان منهج التأسّي ويبين لنا الحكمة من الفعل وعلته وأسبابه ومدى ارتباطه بالقيم المختلفة، بحيث يتيسر لكل جيلٍ من الأجيال نموذج الأسوة ومثال الإتباع دون الوقوع بأي إشكالات.   - منطق القرآن الكريم: للقرآن المجيد نظامٌ منطقي كامل يعصم ذهن قارئه من الوقوع في الخطأ عند التفكير فيه. وحين تكتشف معالم هذا المنطق ويجري استعمالها بشكلٍ دقيق، فإنّها ولا شك سوف تنقذ المتعاملين مع القرآن المجيد من الوقوع في الخطأ وهم يتدبّرون ويتفكّرون في آياته ويستنبطون مقدماتهم منه. وهذا المنطق كعادة القرآن الكريم شائعٌ ومنتشرٌ في آياته كلها، ولكن معالمه تبدو واضحة أكثر في المواقف التي يقفها القرآن المجيد عند التعريف بشيءٍ ما، وإفادة القارئين تصوره ومساعدتهم على إدراكه، فهو لا يسلك مسلك الحدود والرسوم المنطقية كما يفعل أهل المنطق الأرسطي، ولا المقولات الفلسفية ولا الطرق الكلامية. ولكنه يستخدم اسلوبه الخاص به ومنطقة الذي لا يتجاوزه في إفادة التصورات وتقديم مدارك المدركات، فإذا جاء إلى البرهنة عليها أيضاً لم يضع نفسه في إطار الأشكال الأربعة للبرهان كما فعل الأرسطيون، ولا بالالتزام بأي نوعٍ من أنواع الأقيسة الموروثة، بل يستعمل منطقة بالبرهنة الذي يبدأ بالمسلمات لدى الإنسان وتوظيف تلك المسلمات والمعلومات الأولية لديه للقيام بوظائف المقدمات في الأقسية المنطقية وقيادة الإنسان من مسلماته وبدائه ومعلوماته الأولية، إلى أطروحات القرآن التي يريد من الإنسان أن يسمو إليها بفهمه، ويقوم بإدراكها على الوجه الذي يريده القرآن منه. ولكي نحدد معالم هذا المنطق بحيث تكون واضحة يمكن للقارئين استعماله وتوظيف هذه المعالم في فهمه، لابدّ من البحث عنها في ثنايا الكتاب الكريم كله، مع تخصيص آيات الحوار والجدل في قضايا العقيدة وقضايا الحلال والحرام والجدل مع المشركين على اختلافهم وأهل الكتاب والجاهلين بوجه عام بنوعٍ من التدبر والتأمل للكشف عن معالم ذلك المنطق. وقد كان كثير من علماء المسلمين يدركون ذلك على الجملة، ولكنهم لم يحاولوا تحديد معالم ذلك المنطق بشكلٍ دقيقٍ بحيث يمكن أن تتحول إلى علمٍ معتمدٍ ومدونٍ من علوم القرآن والله أعلم.   * من الهيئة الإستشارية لمجلة "الكلمة"، رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية.

ارسال التعليق

Top