• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللذّة من منظور آخر

أسرة البلاغ

اللذّة  من منظور آخر

منتدى الشباب

 56

 

اللذّة

من منظور آخر

 

 

 

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ

 

 

 

 

 

 

 

 

× اللذّة.. من منظور آخر

تأليف ونشر: لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ.

الطبعة الأُولى: 1435هـ - 2014م.

طُبع من هذا الكتاب 5000 نسخة في مطبعة الوردي.

ISBN: 978-964-402-213-5

E-Mail: info@balagh.com

w w w . b a l a g h . c o m

الترجمة جائزة للجميع بعد عرضها على المؤسسة.

 

 

 

الفهرست

المدخل ......................................................................................... 5

الناس إزاء اللذائذ ........................................................................... 7

أيَّ حياة نريد؟! ............................................................................. 8

المبذِّرون ثرواتهم الحياتية ................................................................. 13

مناقشة هادئة ............................................................................... 14

طبيعة اللذائذ الدنيوية ..................................................................... 18

ألهاكم التكاثر!! ............................................................................... 24

تبليد المشاعر وتنشيط الغرائز!! ....................................................... 26

البحث عن اللذّة في غير المادّيات ...................................................... 27

الإدمان يفقد اللذّة بريقها .................................................................. 29

جلسة مقارنة ............................................................................... 31

الملذّات التي يعقبها الندم ................................................................. 33

على طريق الوقاية والعلاج .............................................................. 34

الخلاصة .................................................................................... 38


 


 

المدخـل:

لم يخلق الله تعالى النِّعَم والطيِّبات لتبقى مركونة على الرفّ أو في داخل زجاج المعرض يتطلّع إليها الناظر بشغف ولهفة ولا يستمتع بها أو يتذوّقها.

نعم، جاءت النصيحة مرافقة للإستمتاع والتلذُّذ بعدم الإستغراق في الملذّات.. فالنصيحة بعدم التخمة لأنها تفسد لذّة الطعام، والنصيحة بإجتناب الإنفلات الجنسي لأنّ ذلك يفقد الإنسان صحّته وسلامته، بل يفقد الجنس لذّته.. وهكذا.

ومنذ مطلع التشريع الإسلامي، جاء النكير واضحاً وشديداً لتحريم الطيِّبات -وهي كلُّ ما أباحه الله تعالى للإنسان من نعم-: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف/ 32)، أي بأيّ دليلٍ حَرَّمَ المحرِّمون ما أحلّه الله؟ وكيف تكون الزينة والطيِّبات حراماً وهما من الحلال الطيِّب المباح؟!

حين حَرَّمَ النبي(ص) -في قصة مشهورة- العسل على نفسه، نزلت سورة كاملة إسمها (التحريم) إبتدأها خالق الطيِّبات بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التحريم/ 1).

إنّ تحريم النبي(ص) العسل على نفسه لا يعني تحريمه على المسلمين، خاصة وأنّ القرآن صريح في الردّ على هذا التحريم الذاتيّ: أي لِمَ تمنع نفسَك -يا رسول الله- مما أحلَّه الله لك من طعام أو غيره تطلب بذلك التحريم رضا زوجاتك اللواتي زعمن أنهنّ شممن ريح مغافير (صمغ حلو الطعم كريه الرائحة)؟

إنّ هذا قريب من تحريم إسرائيل (يعقوب) لحم الإبل على نفسه.. لم يكن تحريماً شرعياً وإنما هو تحريم ذاتي أشبه بإمتناع أحدنا عن طعام يضرّ صحّته أو معدته.. فالإمتناع هنا ليس تحريماً شرعياً حتى يقال على أتباع النبي أن يستنّوا بسنّته، فقوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (آل عمران/ 93)، يشير إلى حالة خاصّة بيعقوب(ع)، حيث إنّه كان كلما أكل لحم الإبل أحسّ بوجع في ما يُسمّى بـ(عرق النَّسا)، فعزم إن هو شفي من هذا المرض ليحرِّم لحم الإبل على نفسه، تفادياً لما قد يُسبِّبه له من أوجاع، وليس هذا التحريم من قبيل تحريم الله تعالى بعض الأطعمة على اليهود، لأنّ التحريم الثاني كان نتيجة ظلم وطغيان وتعدي بني إسرائيل، أي هو تحريم عقوبة (حرمان).. وليس تحريماً لإحتواء المادة المحرَّمة على ما يستوجب التحريم.

إنّ حلِّية الإستمتاع بزينة الحياة -أموالاً وأولاداً ومظاهر التزيُّن والحلي-، والتمتُّع بملذّاتها وطيِّباتها أصلٌ في شريعتنا، إلاّ ما خرج بدليل كما يقال في المفاهيم الشرعية، ولذلك فإنّ الفرق واضحٌ وكبير بين (الحرمان) وبين (الحرام).

(الحرام) هو الفعل المنظور أو الممنوع بنص أو حكم شرعي أو بحكم العقل.. أمّا (الحرمان)، فهو المنع والعدم مقابل وجود الشيء وملكيّته.. فأنت تمتنع عن الحرام بعد معرفة حرمته طواعية وبمحض إرادتك، ولكن الحرمان يُفرض عليك فرضاً.. الحرمان إستلاب وليس الحرام كذلك.. الحرمان قد يكون من اللذائذ والمباحات.. والحرام ليس كذلك.

على ضوء هذه النظرة، فإنّ الله تعالى (حَرَّمَ) بعض الأشياء على الإنسان لأنها خبيثة بطبعها خبثاً ظاهراً أو باطناً، ولم يحرم الإنسان من خمرٍ أو لحمِ خنزيرٍ أو قمارٍ أو زناً أو رباً رغبة منه في تعذيب الإنسان أو التضييق عليه أو حرمانه من اللذائذ.. وإذا شاء البعض أن يفهم المحرَّمات على أنها حرمان، فهو حرمان لمصلحة الإنسان وليس في الضدّ منها.. حرمان مما يضر ويُسيء ويُؤذي، وليس حرماناً مما ينفع ويلذّ ويجلب المباهج والمسرّات.. وإذا كان ثمة نسبة ما من اللذائذ في المحرّمات، فهي -قياساً بالمضار والمساوئ والأخطار- قليلة ومحدودة جداً.

 

- الناس إزاء اللذائذ:

الناس أمام متع الحياة وملذّاتها ومباهجها ثلاثة:

- إنسان انهمك وانغمس وتكالب عليها مستزيداً منها، فلم ير في الحياة إلا فرصته الوحيدة في إغتراف واغتنام لذائذها بأيّ شكل حتى الممنوعات منها.

- وإنسان انصرف عن اللذائذ والمتع إنصرافاً كلِّياً ظنّاً منه أنها تصرفه أو تقعده عن العبادة والتقرُّب إلى الله، أو عن بلوغ النعيم الأخروي، فَحَرَّمها على نفسه تحريماً ذاتياً، فهو كمن يريد أن يُخفِّف وزنه الزائد ليتخلّص من الترهُّل، وبذلك يمتنع عن تناول المحللات من الأطعمة والأشربة ليُحقِّق غايته، أي إنّ العازف عن ملذّات الدنيا يحاول تخفيف وزنه الحركي بإزالة الترهلات الروحيّة.

- وإنسان ثالث: توسَّط بين الإثنين، فلا انغمس كلّ الإنغماس ولا ابتعد كلّ الإبتعاد، بل كان معتدلاً يأخذ من متع الدنيا بقدر حاجته منها، وبما يحفظ له حياته، وبما يوازن بين متطلِّبات هذه الدنيا ومسؤولياته الأُخروية، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص/ 77). هو إنسان يتصرّف في حدود المسموح بلا شطط ولا غلوّ ولا تطرُّف ولا إساءة إستغلال للحرِّيات الممنوحة له.

يقول الشاعر:


ثلاثةٌ في الناس ميّزتُهُم
فواحدٌ دنياهُ مقبوضةٌ
وواحدٌ دنياهُ محمودةٌ
وواحدٌ فازَ بكلتيهما
أحوالُهم مكشوفةٌ ظاهرة
تتبعها آخرةٌ فاخرة
ليس له من بعدِها آخرة
قد جمع الدنيا مع الآخرة



- أيَّ حياة نريد؟!

من هذا المدخل نحاول أن نجيب عن سؤال محوري: أيَّ حياة نريد؟ حياة اللذائذ والمتع الحسِّيّة المجرّدة، أم متع الحياة بشقّيها: الماديّ والمعنويّ؟

ومن أجل أن يكون الدخول إلى البحث سلساً وإنسيابياً وبلا تكلُّف وتعقيد للمفاهيم، يحسن بنا أن نقف عند عدد من المصطلحات ذات العلاقة بالبحث حتى لا تختلط الرؤى والمفاهيم في أذهاننا فتربك حركة السير في دروب حياتنا، لأنّنا كلّما قاربنا المسافة في الفهم لروح التشريع وإيقاع الحياة السويّة، أدركنا ما أمّلنا من فهم مقارب لمعاني اللذّة والإستمتاع، فإليك هذه المصطلحات، ليس بتعريفاتها القاموسية فقط، بل بما نفهمه من حقائق معانيها الحياتية أيضاً:

1- (الحاجة): هي حالة الإفتقار إلى الشيء، وتتألّف -كما يقال- من عنصرين، هما: (الألم) الناشئ عن الشعور بالحرمان كالجوع والعطش، و(الميل) إلى الفعل المزيل لذلك الألم، ويقال إنّ الحاجة ظاهرة نفسيّة، أي أنها شعور بالضرورة.

أمّا تقدير هل هذه الحاجة أساسية أو غير أساسية، فالبعض يحاول أن يخرج بعض الأساسيات ليدخلها في قائمة الكماليات أو الترفيات ليضيِّق واسعاً.. في ما يحاول البعض الآخر -بخلاف ذلك- أن يعطي للكماليات صفة الأساسيات ليتمدد خارج منطقة المسموح.

2- (الحرِّيّة): هي العمل بالإرادة، فالمُكره والمجبور لا حرِّيّة له، كالسجين والمريض، وبالتالي فالحرِّيّة هي الحدّ الأعلى لإستقلال الإرادة. وإذا كانت الحرِّيّة مضادة أو معاكسة لتيار الهوى والغريزة والبواعث الطارئة، دلّت على أنّ صاحبها يُحقِّق ذاته (الفاعلة) و(العاقلة) عن طريق التمرينات الخاصة بتقوية المناعة الخاصة بالإختيارات الإيجابية، فإذا قدّم لي صحن حلوى -مثلاً- وكنت قادراً على أكله كلّه أو معظمه، ولكني أكتفي -بإرادتي الحرّة- بقطعة أو قطعتين، فإنِّي أكون قد حفظت لحرِّيّتي توازنها.

3- (الرغبة): هي الحرص على الشيء والطمع فيه، وهي ميل تلقائي إلى شيء (معلوم) أو (متخيل)، وقيل بأنها المحرِّك الأكبر لفاعلية الإنسان الذي هو باقة من الرغبات، وقيل أيضاً بأن كل رغبة هي (توهُّم)، إلا أنّنا لا ندرك بطلانها إلا بعد إشباعها[1].

والكلام هنا في الرغبة غير دقيق، فالرغبات وإن كانت ميولاً، لكنها
-بنحوٍ ما- حاجات.. ولو تأملنا في أحاديث الرغبة، لرأينا أنها لا تنفي أو تطالب بإلغاء تعاطيها أو تلبيتها، وإنما تحذِّر من تحوّلها إلى (مذلاّت)، ومن ذلك: "لا ينبغي أن تكون للمؤمن رغبة تذلّه"!

4- (الرفض): هو ترك الشيء واجتنابه، وكما هو معلوم فإنّ الترك الإرادي غير الترك الإجباري، الأوّل ينفع في تقوية وتصليب الإرادة كتمرين ومزاولة واعية وتقدير عقلاني للنتائج، والثاني أضعف تأثيراً لأنّه يأتي بإرادة خارجية، ولذلك قيل بأنّ قول (لا) عند رفض الشيء أدلّ على قوّة الإرادة من قول (نعم). والقول الدقيق هو أنّ (نعم) في موضعها (قوّة)، كما أن (لا) في موضعها (قوّة)[2].

يقول (سعدي الشيرازي):

صاحبُ الشهوةِ عبدٌ فإذا     غلبَ الشهوةَ صارَ الملكا

5- (السُّرور): هو الفرح الذي يملأ أركان النفس، والفرق بينه وبين (اللذّة) أنّ السرور لذّة نفسانيّة أو متعة روحيّة أو إبتهاج عقلي، يحصل عند إدراك النفع وبلوغ الحيازة والنوال، ويتجلى في دفع (الضرر) أو (الألم) وارتفاعه، وبهذا فإنّ السرور أو الفرح الجذلان أغنى من اللذّة، وإن كنّا نرى إنّ بعض اللذائذ تحقِّق أو تنتج سروراً من نوعٍ ما.

إنّنا نُفرِّق بين لذّتين: لذّة إنسانية وأخرى حيوانية، فالإنسان الذي يلتذ بمعاشرة الجنس الآخر ليس كالحيوان الذي يلتذ بشريكه.. هنا متعة حيوانية مجردة، هناك متعة جسدية مشبعة ممزوجة أو مصحوبة بإنفعالات أو تفاعلات نفسيّة وروحيّة سواء في تلبية الأشواق الحارّة، وإنفاذ المودّة المتبادلة، أو إنجاز الرحمة بالآخر والأنس به، واستجماع السكينة، والتطلُّع إلى إسعاد الآخر.. ما يتحقّق هنا ليس مجرد حالة إشباع جنسي، أو جسدي، أو حيواني، هنا إلتقاء شوق وشوق، ومحاولة كل طرف لإسعاد الآخر والإنسعاد به. وتجسيد حيّ للمودّة والرحمة والسكينة.. هنا إنسانية!

6- (السعادة): هي الرِّضا التام بما تناله النفس من الخير، وقد اختلفت فيها الآراء وتضاربت، فمن قائل إنها (الإستمتاع بالأهواء) وهم الدُّنيويّون، وقائل بأنها (إتباع الفضائل) وهم الأخلاقيون، وقائل بأنها (الإغتراف من اللذائذ الحسِّية)، وهم الماديون الحسِّيّون، وقائل بأنها (الفعل الموافق للعقل) وهم العقليون، وقائل بأنها (أداء الواجب) وهم المثاليون، وقائل بأنها (إتحاد سعادتي كفرد بسعادة المجتمع ككل) وهم الإجتماعيون، وكلّ هذه النظرات للسعادة أحادية ركّزت على جانب وأهملت الجوانب الأخرى، في حين نرى أنّ التوازن يقتضي تعريف السعادة بأنها تأمين الحسِّي بإعتدال، وتحصيل المعنوي بإتزان.. فالسعادة في المحصلة النهائية هي تناغم موسيقي بين مجموعة نغمات: مُتطلِّبات جسدية، وأشواق روحية، واستحسانات عقلية، وتطلُّعات نفسية.

7- (الصبر): هو حُسنُ الإحتمال وضبط النفس، هو قدرتي الواعية على (التأجيل) مع قدرتي المحتملة على (التنفيذ).. هو (طاقة) وليس (استلاباً)!

8- (الضياع): هو فقدان الإنسان حرِّيّته واستقلاله الذاتي، أي بمعنى آخر هو فقداني كإنسان لمبرِّرات إنسانيتي وشروط وجودي.. هو إنعدام لـ(البوصلة) أو (خارطة الطريق)!

9- (الطاقة): هي القدرة على بذل الجهد أو الوسع، هي خزين وقودي كامن أو مودع لكنه قابل للتحرير في ساعات الحاجة إليه، هي شيء قابل للشحن من جديد كلما أوشك أن ينفد أو يتسرّب أو يتلاشى!

10- (العائق) أو (المثبِّط): هو المانع الداخلي أو الخارجي عن بلوغ الكمال، فقد يدفعني الشعور بالعوائق الى التغلُّب عليها إذا كنت ذا عزيمة وثقة وإيمان وطموح عالٍ، وقد يقعد بي لشعوري المتخاذل، أنِّي أضعف وأعجز عن مواجهتها أو التغلُّب عليها، ولذلك قيل: كلما كان الطموح إلى الكمال أشدَّ، كان الميل إلى مجاوزة عقبات الواقع أقوى، مثلما قيل في نظرة ثاقبة للمعطلات أو المعرقلات الإصطناعية أو الوهمية أو المتوهمة: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقيه أشدُّ من الوقوع فيه".

11- (العادة): إستعداد مكتسب يحصل بتكرار الفعل، فإذا كانت سريعة الزوال سُمِّيت (حالة)، وإذا كانت صعبة الزوال سُمِّيت (مَلكة)، وهي إمّا سلبية يصحبها الشعور بعنف الإرادة وتشمل كلّ العادات الضارّة التي تضعف مناعة الإنسان وتستهلك طاقته، وأمّا إيجابية يرافقها شعور واعٍ بالإرادة، وهي كلّ العادات النافعة التي تقوّي المناعة وتشحن الهمة.

12- (العدوى): هي إنتقال الداء (المرض) من المريض إلى الصحيح، هي (جسمية) كإنتقال الأمراض المعدية أو السارية، وتحصل بإستعداد الثاني (الصحيح) لتقبل المنقول من الوسط الناقل، و(عقلية) تعني إنتقال الحالات النفسية من شخص إلى آخر.

13- (العزيمة): هي قوّة الفعل الإرادي الحرّ التام، ولا تكون عزيمة إلا إذا سبقها تفكُّر هادئ ورزين بحيث تمثل الحسم بعد التردُّد، أو تغليب (الإقدام) على العمل على (الإحجام) عنه، هي قراءة ممتنعة في طبيعة الظروف المحيطة بلا (توهين)، أو (تهوين)، وبلا (تهويل)، هي إستنفار واعٍ للطاقة واستشعار حاضر للتجاوز والعبور.

لو أعدت النظر في منظومة أو أسرة المصطلحات المتعلِّقة بمفهوم (اللذّة)، لرأيت ثمة علاقة عضوية: ثنائية أو كلِّية بينها، فلا يخفى أنّ العلاقة بين (الحاجة) و(الحرِّيّة) و(الرغبة) وبين (الرفض) أو الممانعة وبين (الصبر) و(العائق) و(العادة) و(العدوى) ليست طارئة ولا دخيلة، بل هي علاقة تأثير متبادل: (فعل) و(إنفعال)، فإذا قوي بعضها أضعف البعض الآخر، وقد يجرّ ضعف بعضها إلى المزيد من الضعف.

 

- المبذِّرون ثرواتهم الحياتية:

في مفاهيمنا الإسلامية الشرعية المالية ثمة مصطلح مهم يُطلق على الشخص المبذِّر الذي يُسيء التصرُّف في أمواله وهو (السفيه) الذي يُعالج أو يُكافح بالحجر على أمواله ومنعه من إتلافها وبعثرتها أو إحراقها بالتصرُّفات الرَّعناء، وهذا هو السبب في عدم إتيان السفهاء الأموال ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً﴾ (النِّساء/ 5).

المتصرِّف بحياته بطريقة تبذيرية عابثة هو (سفيه) أيضاً لأنّه لا يُقدِّر قيمة الثروة الممنوحة له.. إنّه مُسيء لما هو أغلى من المال وهو رصيده العمريّ الذي سيكون من بين المسؤولات عنها يوم القيامة (وعمره فِيمَ أبلاه)!

هل يمكن لنا -تحت أي سلطة- أن نحجر على شخص يبعثر (أموال عمره) على أرصفة المتع الرديئة والشهوات الهابطة واللذائذ الدنيئة؟

الجواب: نعم، يمكننا أن نرشد أو نرتفع بوعيه إلى حسن التعامل مع ثروته الحياتية الطائلة، أن نجعله يقارن بين فداحة (الضائع) أو التالف من ثروته وبين الموظّف منه بعناية، أن نجعله يتدارك المزيد من الخسائر بلا طائل، وبمعنى آخر، أن نوقف لديه حالة التداعي والإنهيار.. هل ننجح؟

ذلك لا يعتمد علينا فقط، وإنما يتوقف عليه بالدرجة الأساس ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرَّعد/ 11).

يُحكى أنّ بائع ثلج كان ينادي بتوسُّل على زبائنه أن يسارعوا إلى شراء بضاعته قبل أن تضيع وتصهرها حرارة الشمس فتسيح ألواح الثلج ولا ينتفع بها شيئاً.. عمرنا كمثل الثلج، إن لم نُسارع في إنفاقه إيجابياً، سارع هو في النفاد مخلِّفاً الحسرة والندامة.

 

- مناقشة هادئة!

يُثير المتعلِّقون بأذيال الدنيا، المتمسِّكون بأهدابها، اللاهثون وراء سرابها، عدداً من الدواعي والمعطيات لتمسكهم المغالي أو المفرط بالإستغراق في متع ولذائذ الدنيا، ومن حقّهم علينا أن ننصفهم في مناقشة ما يطرحون من مبررات وأعذار تمثِّل لدى البعض منهم قناعات لا تتزلزل، ومن ذلك:

 

1- مبدأ إقتناص اللذّة:

شعار هؤلاء إذا حدّثتهم أو حذّرتهم من التمادي في اللهو والإنكباب على الملذّات: ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها! فاغتنم من الحاضر لذّاته!!

ما مضى فات هذا صحيح، بمعنى أنّه لم يعد له ذكر فقد انطوى ولا عودة له، ولكن هل ما مضى تبخّر في أجواء الحياة واندثر، أم دخل في سجلّ الحسابات، وبالتالي فهو مدوَّن بتفاصيل عند مَن لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. لم نعد نتذكّر الماضي، ربما؛ لكنه مسؤوليتنا بكل تأكيد.

والمؤمَّل غيب، وهذا صحيحٌ أيضاً، لأن لا أحد فينا يعلم ماذا يكسب غداً، ولا تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت، ولكن ألا يستدعي مجهول الغد منّا أن نكون أكثر إستعداداً للقائه؟ ألا يتطلّب منّا أن نواجه الحقيقة ونحن في عمل يُقرِّبنا من الجنّة أكثر ويبعدنا عن النار أكثر؟ أم ترانا نترك الحبل على الغارب بذريعة أن لا أحد لديه علم الغيب، وما يدرينا فقد نفوز بالجنّة بلا أدنى جهد!

أليس تلك أماني المفلسين البطّالين الذين يطلبون حتى (الجنّة) بلا ثمن؟! إنّ الذين يفتحون أفواههم تحت الأشجار عسى أن تسقط ثمارها فيها، لا يبقون جياعاً فقط، وإنما قد يدخل أفواههم الذباب والتراب!

أمّا الساعة التي أنت فيها، وهي أهم تلك الساعات لأنها العصفور الذي في اليد، فهي ليست -كما أتوهّم- ساعة عبث ومزيد من إغتراف المتع واللذّات والإستغراق في الشهوات، وإنما هي ساعة (عودة) واستعادة للتوازن وتدارك لما فات.

قيل لشيخٍ مسنّ: هل تتمنّى الموت؟

قال: لا.

قيل له: ولماذا؟!

قال: لأنّني كنتُ في شبابي لاهياً عابثاً مستغرقاً في شهواتي، الآن وقد سكنت غرائزي، وصفا قلبي، ورقّت روحي وازداد تعلّقي بالله، فكيف أتمنى مغادرة ما أنا فيه من نعيم؟

 

2- مبدأ الإستزادة من اللذائذ قبل فوات الأوان:

قد تُثار المسألة السابقة بطريقة أخرى، وهي أنّ الحياة مهما استطالت فهي قصيرة، ولا يحسن بالإنسان أن يصرفها أو يشغلها بالهموم والمتاعب والأشغال الشاقة والأحزان والمخاوف، ومعاكسة الذات وكبح الشهوات، وإنما عليه، بحسب منطق القائلين بهذا المبدأ، أن يستزيد من التمتُّع بلذاذات الحياة ومباهجها وشتى ألوان شهواتها لئلا يبقى في نفسه شيء من ذلك لم ينله أو يفعله أو يتذوّقه، فكأنّ الدنيا أشبه بمطبخ تتعدَّد فيه الأطباق ولابدّ من تذوُّقها جميعاً حتى الأطباق الممنوعة، فالدنيا -عند هؤلاء- مرحلة إحتفال واستغلال وقطف ونوال، وليست ساحة عمل وكفاح واجتهاد، والتعيس في نظر هؤلاء هو مَن لم يستثمر فرصة وجوده على قيد الحياة بأن يستمتع بكل لذائذها ولا يُفوِّت من ذلك شيء، فطالما أنّ النهاية محزنة، مؤسفة فلتكن الحياة فرصتنا التي لا تُعوَّض في الإستمتاع بالملذاّت إلى أقصى الدرجات.

ألا ينسى هؤلاء أو يتناسون بأنّ الذين عمّروا في هذه الدنيا حينما سئلوا كم لبثوا فيها قالوا: يوماً أو بعض يوم، وأنّ الدنيا ليست نهاية الرحلة وإنما محطة من محطات القطار وشوط من أشواط الرحلة الطويلة، وأنّ المحطة قبل الأخيرة محطة مسائلة واستجواب وتحرِّي الخطأ من الصواب: فَمَن أحسن التصرُّف في أثناء الرحلة الدنيوية أمكنه الدخول إلى مدينة الأحلام (الجنّة)، ومَنْ ساء وقَصَّرَ فيها لا يقال له: ارجع من حيث أتيت، وإنما يساق إلى مدينة تتحطم فيها الأحلام ويستحيل الداخلون إليها إلى رماد[3].

 

3- اللهُ غفورٌ رحيم!!

إذا ذكّرت اللاهي المنصرف إلى لذّاته بالآخرة استمع إليك وقلبه في مكانٍ آخر، وإذا تكرّم بالردّ، قال بلهجة إستخفافية: الله غفورٌ رحيم، الله أرحم الراحمين، الله يغفر الذنوب جميعاً..

ولسنا في معرض المناقشة في رحمة الله وسعتها، ولا في عفوه وغفرانه، لكننا نعلم أنّ رحمة الله أنّه قريب من المحسنين وليس قريباً من المسيئين، أو السادرين في غيّهم، أو الصارفين عامهم الدراسيّ في اللهو والفرفشة واغتنام أو اغتراف اللذّات وهم يمنون أنفسهم بأنّ النجاح حليفهم كما هو حليف المجدّين.. هؤلاء جماعة تترجح بهم الأماني الخادعة ويذهب بهم الرجاء الكاذب بعيداً، وكأنهم يسخرون ضمناً بالعاملين المجتهدين بالقول: أنتم تعملون وتشقون وتدخلون الجنّة، ونحن ندخلها بلا تعب ولا شقاء، فالله العزيز في النهاية غفور رحيم سيرحمنا كما رحمكم، وسنكون جميعاً: العاملون وغير العاملين، المحسنون والمسيئون نزلاء جنّات النعيم!

أيّ منطق جاهل هذا؟

أليس من حق العاملين الذين أفنوا حياتهم بالجدّ والإجتهاد أن يخرجوا في مظاهرة إحتجاجية على تسويتهم بغير العاملين؟ كيف يستوي المحسن والمسيء؟ والصالح والفاسد؟ والعامل والعاطل؟ وهل الحياة خدعة كبيرة لا تنطلي إلا على المؤمنين العاملين الصالحات؟ هل هي مسرح إصطياد اللذائذ والشهوات ليس فيها خاسر مغبون إلا المؤمن العامل بموجب متطلِّبات إيمانه؟ أليست هذه هي العبثية التي عنها يتحدّثون؟!

إنّنا جميعاً نطمع برحمة الله ولطفه وعفوه وتفضُّله وإحسانه، حتى العاملون منّا، إلا أنّ الفرق كبير بين مَن يعمل ويأمل.. وبين مَن لا يعمل ويأمل.. إمكانية فوز الأوّل أو إحتمالية نجاحه ونواله لمراده أقوى من إحتمالية نجاح أصحاب الشعارات الفضفاضة أو المهلهلة.

 

- طبيعة اللذائذ الدنيوية:

لا نلغي أو نعارض أو نصادر -ونحن نناقش هذا الجانب- إشباع الحاجات بالطريقة السويّة التي لا تجاوز فيها على حقوق الغير، وليس فيها إذلال للنفس، ولا إرباك أو إفساد لجدولها والمسؤوليات بتغليب (الملاهي) واقتناص اللذائذ والإنكباب على الشهوات على الأعمال والتكاليف والمهام الأساسية، فمن حق كلّ إنسان أن يأكل ويشرب وينام ويسكن في مسكن أمين، ويلبس اللباس الثمين، وأن يكون له حظّه من الأزواج والبنين، وعمل يكتسب منه الرِّزق.

في هذا الوجه من المناقشة الهادئة، نُسلِّط الضوء على طبيعة اللذائذ التي تُمثِّل غاية الطموح ومبلغ الإنتفاع من متع الحياة وملاهيها:

 

1- لذّة أو متعة الطعام:

ما عدا الأطعمة المُحرَّمة المنصوص على حرمتها، وهي محدودة ومعدودة قياسياً بما هو مُحلَّل فإنّ الحلال كثير واسعة مساحته، ففي بعض الآثار الإسلامية: "ما أُحلّ لكم أكثر مما حرّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كُثر"!!

ثمّ أنّ حرِّيّة الإنسان الواسعة في تناول وتذوُّق ما يشاء من الأطعمة لا يحدّها إلا حدٍّ واحد وهو (عدم الإسراف): "كلوا واشربوا ولا تسرفوا"!

وللحق، فإنّ هذا ليس حدّ حرمة أو حرمان.. ليس حدّاً تعسفياً، وإنما هو حدّ لإحترام الإنسان لصحّته لمعرفته التفصيلية بما تجر عليه البطنة والسمنة من ويلات أو أمراض، وربّ أكلة منعت أكلات، ذلك أنّ الإسراف في الأكل في مرحلةٍ ما قد يؤدِّي إلى الحرمان في مراحل لاحقة، كما هو حال المصابين بالسكّري والضغط الشرياني العالي والمعاقين من إرتفاع نسبة الدهون في الدم ومن تصلُّب الشرايين.

إنّ تنوُّع وتعدُّد الأطعمة والأطباق واتحاد المطابخ العالمية في عصر العولمة، وتحوّل لوائح المقبَّلات والحلويات إلى ضرائر منافسة لقوائم الأطباق الرئيسية، لم تجعل من الطعام حاجة أو مذاقاً أو متعة، وإنما هو بطر وإسراف وتفاخر وتشهٍّ وإشباع لحاويات القمامة التي تغضّ بالأطعمة الصالحة للأكل وليس بفضلاتها!

لم يعد أطيب الطعام ما جلست إليه وأنت تشتهيه، بل الذي تجلس إليه لتتذوّقه وتتعرّف على مذاقه ونكهاته وأصنافه، الأمر الذي لا يرفع من نسبة الشحوم فقط، وإنما معدلات السموم والهموم أيضاً.

إنّ حاجة الجسم للطعام غالباً ما تعلنها المعدة الفارغة بقرع الأجراس الدافعة إلى التلبية.. أمّا إدخال الطعام على الطعام فحتى لو لم يؤدِّ إلى الحمام (الموت) مباشرة، فإنّه يُقرِّب ساعته، يقول أحد الشعراء:


إذا كثر الطعامُ فحذّروني
إذا كثر المنامُ فنبِّهوني
إذا كثر الكلامُ فسكِّتوني
إذا كثر المشيبُ فحرِّكوني
فإنّ القلبَ يُفسدهُ الطعامُ
فإنّ العمر يُنقصهُ المنامُ
فإنّ الدينَ يُفسدهُ الكلامُ
فإنّ المشيبَ يتبعهُ الحمامُ!


            (حلية الصائغ 2/191)

2- لذّة أو متعة الشراب:

إنّ مثل الذين يزهدون أو يتركون المشروبات الطيِّبة من مياه وعصائر وألبان، ويُفضِّلون عليها كؤوس المشروبات الكحولية أو المسكرة التي يطلق عليها كذباً وزوراً وافتراءً بـ(المشروبات الروحية)، مثل مَن يترك أشجار الجنّة المباحة ليحرص على الشجرة الممنوعة المحرَّمة.

والذين يحتجون بعدم نفي القرآن لمنافع الخمر والمسكرات، لا يغفلون عامدين عن تقريره لحقيقة أن مضار ومساوئ وأخطار المخدرات أكثر بكثير من منافعها: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة/ 219)، وكلُّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو مرفوض عقلاً قبل أن يكون مرفوض شرعاً.

والحديث عن المخاطر الصحّية والآثار السلبية لسائر المسكرات والمخدرات ليس حديثا جانبياً أو هامشياً، هو حديث المآسي والحوادث المؤسفة والآثار المترتبة آنياً ومستقبلياً على صحّة المصاب بالإدمان المعاقر للخمر أو المتعاطي للمخدرات، وعلى مَن حوله من ذويه وأرحامه وأصدقائه، مما يرسم نفس علامة الإستفهام إزاء أي محرَّم: هل لذّة المحرَّم (أنّى كان حجمها أو مقدارها) تساوي أو توازي مخاطره وأضراره؟

 

3- لذّة أو متعة الجنس:

حَدَّد الله تعالى لإستمتاع الجنسين ببعضهما البعض قناة الزواج الشرعي بأيّة طريقة من الطرق المعروفة، واعتبر أيّة علامة جنسية ما عدا ذلك شذوذاً وعدواناً: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون/ 7).

على ضوء ذلك، فإن أي إستمتاع جنسي، خارج إطار المؤسسة الزوجية، سواء كان زناً أو لواطاً أو سحاقاً، هو ليس عدواناً على القانون الإلهي فقط، وإنما هو خرق لطبيعة العلاقات الإنسانية نتيجة ما تجلبه اللذائذ المحرَّمة من مشاكل نفسية وإجتماعية وصحّية ليس وباء الإيدز إلا أحدها.

ولم تعد لذّة الإقتصار على شريك واحد يستشعرها المتزوِّجون فقط، بل حتى بعض الزناة أيضاً فهم لا يعدّدون ولكنهم يرفضون الإقتران الشرعي أو الزوجي ليتحرروا أو يتحللوا من مسؤولياته، ولا تعجب إذا رأيت نسبة كبيرة ممّن تحدّثوا عن تجاربهم السابقة على الزوجية يتحدّثون عن أنّ خيمة الزواج هي الوحيدة التي وفّرت لهم المناخ النفسي الآمن والطمأنينة الحياتية الكاملة، وأنّ مغامراتهم السابقة -على الرغم من تعدُّدها- لم تُوفِّر مثل هذا المناخ الذي يُؤمِّن السكينة والمودّة والرحمة في عش الزوجية، ويثمر زهوراً عابقة وثماراً طيِّبة على شجرتها المونقة.

 

4- لذّة أو متعة جمع المال وتكديسه:

إنّ الإنسان لحب الخير (المال) لشديد، ولو علم الغيب لاستكثر منه، وهو يحب المال حبّاً جمّاً، ويأكل التراث (الإرث) أكلاً لماًّ، تلك حقائق قرآنية مدوَّنة في السفر العظيم الذي ينتقد تصرفات الثراء الفاحش الذي يُمثِّله قارون أو صاحب الجنّة (البستان) أو أصحاب الجنّة (البستان). ومع ذلك، فإنّك تجد مَن يتهالك على إستحصال المال بأي طريق: سرقةً ومصادرةً وغصباً وإرتشاءً، وما إلى ذلك.

إنّ لذّة كسب المال وزيادته تكمن في قدرته على تلبية إحتياجات الإنسان، وتوفير فرص إستمتاعه بالخدمات المتاحة من بيع وشراء واقتناء وسفر وسياحة وتحقيق رفاهية أكبر، مما يُؤمِّن أو يُحقِّق أمناً إقتصادياً أو مالياً يجعل صاحبه (أو هكذا يُخيَّل له) أنّه في مأمن من غوائل الحاجة وتقلُّبات الأيام.

وليس على كلّ ذلك غبار، وإنما مشكلة المال تبرز في تكثيره بالطرق المحرَّمة، وفي تحوّله من (عبد) إلى (سيِّد)، ومن حاجة إنسانية إلى مرض إسمه (جنون الثروة)، ومن تسخيره وتداوله في إثراء الحياة إلى أرصدته والبخل به.

يقول (المتنبي):

ومَن يُنفِق السّاعات في جمعِ مالهِ       مخـافةَ فقرٍ، فالذي فعلَ الفقرُ!

إنّنا نلاحظ إنّ الذي يستمتع بجمع المال وكنز ثرواته الطائلة، وزيادة أرصدته في البنوك، لا تقارن لذّته بذلك بلذّة المنفق من ماله على نفسه وأهله ومساعدة المحتاجين، إنّ كمّ الفرح أو اللذّة المجتناة من العمل الثاني فيها من الفرح الروحي الغامر ما لا يُقدِّره (الذي جمع مالاً وعدده، يحسب أن ماله أخلده)!

إنّ البخيل يدخّر والمنفق يدخر وشتان بين الإدخارين، فهذا يدخر في بنك البنوك، البنك الإلهي الذي لا تضيع ولا تنقص فيه الودائع، بل تنمو وتربو وتزداد أضعافاً مضاعفة، فالفوائد في بنك الله لا تنافس، فالواحد بعشرة والقرض بثمانية عشر، فأيّ المَدخَرين أكثر تمتُّعاً وتلذُّذاً بأمواله؟!

المال زينة الحياة الدنيا، لا شك في ذلك ولا ريب، لكن ما يُفسد أي زينة هو إعتبارها قيمة عليا، أو قيمة بحدّ ذاتها، والإستماتة من أجل تحصيلها ولو بطرق غير مشروعة، وما تخلفه من حالة إستبداد وإستعلاء وطغيان ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق/ 6-7).

5- لذّة أو متعة العناوين والنياشين:

فرق ملموس بين مَن يبحث عن الموقع والعنوان والجاه والسلطات والأبهة والصولجان وهو عليها متهالك، وبين مَن تأتيه العناوين والرتب والنياشين طائعة مختارة لأنّه استحقّها بجدارة، فقد يستمتع كثير من الناس في إحساسهم بأنهم في مرتبة دنيوية أو سلطوية أو فئوية أعلى من غيرهم، وتشنّف أسماعهم كلمات التعظيم والتمجيد، مثل: (سيِّدي)، (مولاي)، (سعادة)، (سيادة)، (صاحب الجلالة)، (معالي الوزير).. إلى غير ذلك مما اخترعه الناس وابتكروه في تعظيم بعضهم البعض.

السؤال المثار هنا: كم هي قيمة هذه العناوين إن كانت مسخّرة لخدمة الشخص وبناء المجد وتحقيق الزهو وتصعير الخدّ والتباهي والتفاخر والتعالي على الناس؟!

آه لو يعلم الناس كم إنّ أصحاب السلطة مكبَّلون بعناوينهم، مقيَّدون بمواقعهم، متشرنقون بخبرتهم، بأبهتهم وغرورهم، محبوسون في أجواء التكلُّف والتظاهر من حولهم، لا يجدون لذّة أو متعة الحرِّيّة التي يعيشها بسطاء الناس، فهم كراكب الأسد، الناس يحسدونهم على مواقعهم، وهم أدرى بمواضعهم من الخطر!

نعم، الذين نصبوا أنفسهم لخدمة الناس فكانت أبواب الخدمة المفتوحة أحلى ما يمتعهم ويلذّ لهم ويأنسون به، وحبّ الناس أغلى ما يطلبون، ورضا الله عنهم في تواضعهم وإخلاصهم ومنافعهم للناس غاية ما ينشدون، هؤلاء يجدون اللذّة في القول: :كفّارة السلطان قضاء حوائج الإخوان"!

إنّ الذي يرفع من أقدار الناس ومراتبهم ليست عناوينهم ونياشينهم، وإنما علمهم وعملهم وتواضعهم وخدماتهم وتفقُّدهم وإهتماماتهم بقضايا الناس وإحتياجاتهم، هؤلاء يكبر بهم العنوان ويتشرّف ويغتني، ولا يكبرون هم بالعنوان ويتشرّفون ويغتنون.

 

- ألهاكم التكاثر!!

قد تبدو (سورة التكاثر) في ظاهرها سورة وعظية تندب إلى عدم الإنشغال عن الصالحات بالإنشغال والتباهي بالكثرة في الأموال والأولاد والمظاهر الخادعة الفارغة، وهي كذلك، ولكنها أيضاً سورة للنقد الإجتماعي.. ففي حين يرسم القرآن أو يضع معايير للتفاضل والتفوُّق وارتفاع المقامات والمنازل في العلم والعمل والتقوى والجهاد في سبيل الله، والسبق إلى الخيرات والتنافس فيها، نرى تركيز الناس على معايير دنيوية أدنى مرتبة وأقلّ قيمة، فهم يتفاضلون في الأسرة والإنحدار القبلي والعشائري، ويتفاضلون في أرصدتهم وحجوم ثرواتهم، وفي تعداد المنتسبين أو المنتمين إليهم عشائرياً أو حزبياً، وفي عناوينهم التي خلعوها على أنفسهم أو خلعها الإعلام عليهم، وفي جمال تقاسيمهم وصباحات وجوههم ورشاقة أجسامهم، وكلّ ذلك شبيه بفقاقيع الصابون التي تنفجر لأدنى لمسة أو صفعة هوائية تجعلها أثراً بعد عين، بل لا تبقي لها أثراً بالمرّة.

إنّ عيب المرايا الأكبر هو أنها لا تريني باطني حين أقف قبالتها، ولذلك فهي ممّن يُزيِّن لي مظهري أو منظري، وتخادعني في أنّ ذلك هو كل شيء.. ولئلا نظلم المرآة البريئة، فإنّ العيب فينا وليس فيها، فنحن مَن ننظر لا هي.. هي سطح يعكس السطح وليس من قدرة السطوح الكشف عن البواطن.

(سورة التكاثر) تقول لنا بالفم الملآن: انظروا وتأمّلوا وتفكّروا أي غنى حقيقي هو الغني، وأي نعيم خالص هو النعيم، وأي كثرة مجدية هي الكثرة، وأي فخر صادق هو الفخر، وأي حقيقة نافعة هي الحقيقة؟!

إنها تقول بلسان غير مباشر: تكاثروا أيُّها الناس ولكن ليس بالمال والعنوان والأولاد والعدد، وإنما بمزيد من الأعمال الصالحة المبدعة النافعة التي لا تنقطع بإنقطاعكم عن الحياة، وتقول أيضاً: تفاخروا، ولكن بقربكم من الله، بالتنافس في الخيرات، وفي إثراء الحياة بالإنجازات وفي تلوينها وتجميلها بالإبداعات.

مَرَّ الإمام علي(ع) في أيام شبابه بعتبة وشيبة وعمّه العباس وهم يتفاخرون بسدانة الكعبة وسقاية الحجيج أيام الموسم، فقال لهم: "ألا أدلّكم على مَن هو خيراً منكم؟!

قالوا: مَن؟

قال: الذي سبقكم إلى الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله".

وافتخر أحدهم على سلمان الفارسي (المحمديّ) في أصله، فقال (رض): "كنت ضالاً فهداني الله بمحمد(ص)، وكنت فقيراً فأغناني الله بمحمد(ص)، وكنت قليلاً فكثَّرني الله بمحمد(ص)، وكنت ذليلاً فأعزَّني الله بمحمد(ص)! فأتني بفخر أعظم من هذا"؟!

وقال له أحدهم ساخراً ومنتقداً ومنتقصاً: لحيتك أفضل أم ذيل الكلب؟ قال: "إنّ للناس يوماً يعبرون فيه على الصراط ويقضون بين يدي الله للحساب، فإن عبرته فلحيتي خيرٌ من ذيل الكلب، وإن هويت منه فذيل الكلب خيرٌ من لحيتي"!

 

 

- تبليد المشاعر وتنشيط الغرائز!!

الغارقون في اللذائذ الدنيوية يعبُّونها عبّاً، يقومون -في الغالب- بعملين متعاكسين: يُنشِّطون غرائزهم الحيوانية ويضعفون مشاعرهم الإنسانية، ذلك أنّ الغريزة إذا استعرت أو تسعّرت وغلبت مشاعر الإنسان ووجدانه وأحاسيسه وإنسانيته المتعالية على ترابها، تعمل فلا ترى إلا ذاتها، وتصمّ فلا تسمع إلا فحيح شهواتها.. وإذا انكفأت، فهي مستعدة لإكتساح كل ما يعترض طريقها من سدود الآداب وحواجز القيم والأعراف والعادات والتقاليد، كلُّ ذلك من أجل أن تُحقِّق ذاتها غير المرتوية من بحر اللذائذ. فليس غريباً أن تجد بعض الأثرياء ممن لن يحسنوا التعامل مع الله يعيشون حالة التكبُّر والتعالي والخيلاء، حتى أنّ ثوب أحدهم إذا لامس ثوب أو جسد فقير جذبه جذبة شديدة مخافة أن يُصيبه شيء من فقره أو يتسخ به، وحتى أنّ أحدهم لا يرضى بأن ينادي بأقلّ من (سيِّدي)، وحتى أنّه إذا تكرَّم وتنازل وصافح غيره فبأطراف أصابعه، وإذا تلطَّف ونظر إليه فمن خلف نظاراته السوداء السميكة، أو بنظرة بخس وازدراء ومقارنة بين موقعه الإجتماعي أو الإقتصادي أو السياسي أو العلمي وبين موقع الآخر الأدنى.

لقد أثبتت تجارب الثروات الطائلة الفاحشة والألقاب الضخمة الفخمة، والعناوين الطنّانة الرنّانة، أنها -إلا ما رحم ربِّي- حجب من النوع السميك جداً، حتى أنّ صاحبها يكاد ينطق بما نطق به فرعون وهو يرى موسى وهارون (عليهما السلام) وعليهما مدارع من صوف وبأيديهما عصي الرعاة، فيستصغر شأنهما ويحتقر مقامهما، فيقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ (الزخرف/ 52).

إنّنا لا نتحدّث بلغة الإطلاق والتعميم، فليس كلُّ أصحاب المال والجاه كذلك، ففيهم مَن ارتفع في مقامه وتواضع في نفسه، ولكن الحقيقة القرآنية في الإقران بين (الثراء) وبين (الإستعلاء): ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق/ 6-7) تتحدّث عن الإنسان (النوع) وليس الإنسان (الفرد).. وبالتالي، فما أكثر ما جرّ الغرور والإستكبار والتفاخر والتعالي والتباهي -فردياً كان أم مجتمعياً- من مآسٍ تاريخية لم تتخلص البشرية منها بعد.

(ألهاكم التكاثر) لا تتحدّث عن قبيلتين تفاخرتا في عدد الأحياء والموتى في أمس التأريخ فقط، وإنما هي سورة كل يوم، وكل مجتمع، وكل شعب، وكل أُمّة، وكل قبيلة، وكل حزب، وكل إنسان انشغل بالمظهر وغفل أو تغافل عن الجوهر، بهره العنوان فتسمّر عنده ونسي المعنون، تفاخر بشجرة الأجداد ولن يترك أثراً في حقل الأمجاد.. هي سورتي وسورتك وسورة كل إنسان ألهاه التكاثر في عنوان تافه هنا، أو صيت كاذب هناك، أو في ثروة أو سطوة مهددة بالفناء هنا وهناك، أو بدنيا غرّته فسقط أو تساقط بين يديها مغشيّاً عليه!

 

- البحث عن اللذّة في غير المادّيات:

التوازن والإعتدال مخلوقان جميلان يستهويان كل سويّ بالنظر إليهما، فهما يقتضيان أن لا نقصر البحث في دوائر اللذّة المادّية والمتع الحسِّية فقط، فهذه -على أنها- حاجات أو رغبات أو غرائز طبيعية، لا تمثِّل الوجه الكلِّي للحياة، أو قل أنها تمثِّل إحدى وجهيها الداعي إلى اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وإلا فالدنيا، كما يصفها الإمام علي(ع) في ردّه على الذامّ لها، بأنها "متجر أولياء الله"، فيها يكتسبون جنانهم وينالون أعلى درجاتهم، ويُحقِّقون أفضل مواقع القرب من الله، وبها يرتقون بإنسانيتهم إلى مقامات المروءة والإحسان.

في مصطلحات البحث ميّزنا بين اللذّة وبين السرور، وقلنا بأنّ الثاني هو الفرح القلبي والأنس الروحي الذي لا يدرك بالإستمتاع بالمادّيات المجرّدة، وإنما يقتطف أو يجتنى أيضاً من خلال المتع العقلية واللذاذات الروحية التي تفوق في أنسها وبهجتها ولطائفها الكثير من المتع الحسِّية، وهي حالات تدرك أو تحقق أو تنجز في الوصول إلى حل لمسألة فكرية عالقة، أو علمية شائكة، أو في قضاء حاجة لإنسان محتاج، أو في تعليم إنسان جاهل، أو في عمل خيري يراد به وجه الله وخدمة البلاد والعباد، أو في خلوة أو جلوة عبادية ينقطع فيها المتضرِّع إلى الله، وفي كلّ ما يلامس شغاف القلب وأشواق الروح وأعماق الوجدان، أو في إبداع في حقلٍ ما، أو نجاح في مشروعٍ ما، أو تفوُّق في ميدانٍ ما.

إنّنا هنا ندعو المتذوِّقين للذائذ الحياة المادّية أن يتذوّقوا أطباقها المعنوية الشهية أيضاً، وأن ينهلوا من هذه المباهج النفسية والروحية التي تتجلى في صفاء الأنفس والأوقات والعلاقات، سواء في لحظات التضرُّع والدُّعاء، أو في أثناء خدمة الوالدين، أو عند صلة الأرحام (الأقرباء)، أو في رعاية الأزواج، والتعاون مع الجيران، أو في التواجد الطائف، أو المحلِّق في رحاب الديار المقدسة (مساجد وعتبات وأضرحة)، أو في لحظات البكاء والتوبة، أو في زيارات الفقراء والمرضى، أو أثناء تبادل الهدايا المعبِّرة عن معنى الحب وروح الأخوة الإيمانية، والمجالات التي يستمتع فيها الإنسان إستمتاعا روحياً كثيرة لا تنحصر في حدود ما ذكرنا، وما على الباحث عن لذّة روحية أو متعة عقلية أو أنس وجداني، إلا أن يتذوّقها بنفسه ليرى ما يجنيه من مسرّاتها التي لا تُضاهى ومباهجها التي لا يعدلها شيء من المتع الحسِّية.

إنها -على أيّة حال- ليست دعوة لإلغاء أو إطفاء ملذّاتنا الدنيوية لصالح ملذّاتها النفسية، وإنما هي دعوة للتزاوج والتكامل وإعطاء كل ذي حق حقه.

 

- الإدمان يفقد اللذّة بريقها:

هل جرّبت أن تدمن على ممارسة لذّة معيّنة بإلحاح شديد وفترات متقاربة، ثمّ تقارن بين اللذّة وهي جنين في الخيال وبينها بعد أن ترى النور؟ إنّ الكثير مما يبدو مغرياً ومثيراً قبل نواله يعدّ السعادة الكاملة بعينها، لكنه ما يلبث بالممارسة والتكرار والإجترار أن يتحوّل إلى (فلاشات) ضوئية: سريعة الإشتعال سريعة الإنطفاء.

إنّ الذين يتقلّبون بين أحضان النِّساء يعرفون ذلك، والذين يُجرِّبون إقتناء سيارات فارهة جديدة، ويُغيِّرون أثاث منازلهم أو حتى منازلهم بإستمرار يعرفون ذلك، فالإنسان في رحلة البحث عن الدائم والطويل الأمد يصاب بخيبات أمل، فلكل جديد لذّة، لكنها ما تفتأ أن يخبو ويخفت بريقها مع الأيام، فلا شيء في دنيا النسبيّ والمحدود في مستوى أو بدرجة الحلم، إنّ بريق كثير من المقتنيات كان ساطعاً قبل إقتنائها، ثمّ يأفل وتخبو الجذوة.

يوم كنّا صغاراً، والطفولة لم تمت في داخلنا في يوم من الأيام، كان ذلك الصغير الذي يبكي ليحظى بلعبةٍ ما، يعمد -بعد فترة قصيرة من الفرح والإنتشاء بها- إلى تحطيمها أو إهمالها والتطلُّع إلى غيرها.

لهذا كلّه، كانت دعوة القرآن الكريم في عدم مدّ العينين إلى ما مَتَّعَ الله به الآخرين من زهرة الحياة الدنيا تستبطن التحذير من التصوُّرات الواهمة من أنّ الذي مَتَّعَ الله به غيرك قد يفوق ما مَتَّعَكَ به، وقد يكون كذلك إلاّ أنّ الطمع بما في أيدي الناس لا يجلب إلا الصداع ووجع القلب.. إنّ مشكلة البعض منّا أنّه عينه على جاره وليست على داره، وهذا سبب تعبه الدائم.

ذات يوم رأى الإمام علي(ع) جماعة من أصحابه يتطلّعون إلى إمرأة حسناء مرّت بهم، فعرف سبب (هبابهم) و(طموحهم)، فأعاد تلك الأبصار الممدودة إلى نواحي ونواصي خارج الدار إلى باحة الدار، قائلاً: "إنما هي إمرأة كأي إمرأة، فمن وجد في نفسه شيئاً فليلامس إمرأته".

إنّنا نغفل أحياناً لغة الأرقام القريبة منّا، فكم من الأثرياء ممّن امتلكوا نواحي الملذّات يتمنّون أن يعيشوا حياة بعض القرويين، أو يحصلوا على شيء من سعادة الريفيين التلقائية أو العفوية، أو ينالوا بعض إستقرار سائقي سياراتهم.. إنهم -بالتأكيد- لا يتمنّون فقر الفقير، فليس في العقلاء مَن يتمنّى ذلك، وإنما يتمنّون ويشتهون بساطة العيش وطمأنينة الحياة الراضية القانعة التي يحياها ذلك المجرّد من الكثير من إمتيازاتهم.

وإذا نقلت بصرك إلى الفقراء أنفسهم تراهم -إلا ما رحم الله- يمدّون أعينهم إلى ما مَتَّعَ الله به (قارون) من مُلك عظيم وثروات طائلة، قائلين: ياليت لنا مثل ما لقارونَ، وقد لا يرد أبصارهم إلى محاجرها وعظ أو نصيحة إلا عندما يجدون أو يسمعون أنّ قارون (وهو هنا رمز لكل الأثرياء) خسفت به الأرض، أو احترقت مخازنه، أو خسرت صفقاته، أو أنّه عمد إلى الإنتحار لأنّه أفلس بعد ثراء عريض.. عندها فقط يُردِّدون: هكذا ينجو المخفّون!

هذا هو حال الدنيا كما تراها، فلا الأثرياء يجدون اللذّة في ما هم فيه منعّمون، ولا الفقراء المخفّون يجدون اللذّة في ما هم فيه من راحة بال.. فالأثرياء قلقون يطمحون إلى المزيد، وخائفون من ضياع أو خسارة الموجود وما يخبؤه لهم المجهول، والفقراء يتحسّرون على ما لدى الأثرياء من رفاهية ويحسدونهم على ما هم فيه من سعة العيش ولا يقتنعون بالإستقرار النفسي الذي يمتلكونه.

يقول الشاعر الذي درس حياة هؤلاء وهؤلاء:

كلُّ مَن تلقاهُ يشكو دهرَهُ    ليتَ شعري هذه الدُّنيا لمن؟!

     فسمعه شاعراً آخر، فأجابه:

هذهِ الدُّنيا لمن طلَّقها                   واكتفى منها بخبزٍ ولبنْ!![4]

 

- جلسة مقارنة:

جلس أحدهم ليقارن بين لذائذ حالته المادّية المتوسطة وبين لذائذ جارٍ ثريّ، فانتهى إلى جردة الحساب التالية:

قال -ولم يكن ليخدع نفسه بما قال-: جاري الثريّ لديه أموال طائلة ولكن أكثرها مودع في البنوك.. إنّه يشتري ببعضها ما يشتهي، وأنا المتوسط الحال أشتري بالقليل الذي عندي ما أشتهي.. (نعم، سعة إشتهائه بسعة ثرائه وسعة إشتهائي بحجم أموالي).

الثريُّ الجارُ لديه عدد من السيارات الفارهة الفاخرة، وأنا لديَّ سيارة واحدة متواضعة.. هو في الوقت الذي يريد أن يخرج إلى العمل أو النزهة لا يركب إلا سيارة واحدة، وأنا إذا خرجت أركب سيارتي الواحدة.. (نعم، سيارته غالية وجميلة ولافتةً للأنظار ومكيفة وذات مقاعد وثيرة، لكن سيارتينا في النهاية توصلاننا إلى مقاصدنا).

جاري الثريّ لديه (فيلا) ضخمة واسعة وعريضة وخضراء وغنّاء، لكنه إذا أراد أن يجلس فإنّه يجلس في مكان محدَّد منها، وإذا أراد أن ينام فإنّه ينام في مكان معيّن منها، وبيتي البسيط ليس فيلا، لكنني عندي مكان أجلس فيه ومكان أنام فيه.. (نعم، سرير الثري وأثاثه فاخران لكنه لا يستطيع في جلوسه أو منامه أن يتمدَّد على مساحة فيلاه كلّها، إنّ كرسيه كما هو سريره مصنوع لإنسان واحد فقط، ومقعدي وسريري الخشبي مصنوع لإنسان واحد فقط، ونعم أيضاً، فراشه أنعم من فراشي لكنّ فراشي يجلب النوم أيضاً)!

الجار الثريّ لديه عدد من النِّساء (زوجات) ثلاث أو أربع، ولديّ إمرأة واحدة، فإذا أراد أن يخلو فإنّه لا يخلو إلا لإمرأة واحدة، فلا يستطيع أن يستمتع بالأربع في آن واحد، وأنا أستمتع في خلوتي بإمرأتي.. (نعم، أنا أُوحِّد وهو يُعدِّد، لكننا إذا طلبنا اللذّة وجدناها كلٌّ بما لديه)!

الفارقُ النوعيّ بيني وبين جاري الثريّ المنعَّم بثراء واسع، هو أنّه يعيش القلق والأرق والخوف من المجهول ومن نقصان ثروته أو ضياعها، وليس عندي ما أخاف عليه من العيش الواسع الذي أخشى أن يضيع أو يضيق أو يجلب لي الهَمّ والغَمّ!

هي -على كل حال- مقارنة ليس بين حجم لذّتين، وإنما هي مقارنة بين رؤيتين!

- الملذّات التي يعقبها الندم:

ليس كلّ الذين يعاقرون المنكرات يعيشون حسّاسية الندم أو إستشعار لذعته، فقد يطبع الله على قلوب المجرمين فلا يعود المنكر يؤنبهم أو يؤرقهم أو يدفعهم إلى إصلاح ما فسد من حياتهم، وليس لنا مع هؤلاء حديث على طريقة القرآن في مخاطبة نبيّه نوح(ع): ﴿وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (هود/ 37).

حديثنا مُوَجَّه بالدرجة الأساس إلى مرتكبي الآثام والذُّنوب ومقترفي المعاصي الذين إذا ارتكبوا فاحشة ندموا ولاموا أنفسهم وجلدوها، وإن تكرر ذلك منهم فإنّ توبتهم وندمهم واستغفارهم يتجدَّد ويتكرَّر أيضاً، فهم لا يصرّون على ما فعلوا، ولكن تعرض لهم عوارض تدفعهم إلى نسيان عهودهم وفسخ عزائمهم، فإذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون.

إنّ الملذّات أو المتع التي تفنى وتذهب سكرتها وتبقى آثارها وتبعاتها تستوقف هؤلاء، فهم يعلمون -لكن الشيطان وأنفسهم الأمّارة بالسوء- يُجمِّدان أو يُعطِّلان علمهم، بأنّ الناقد (الله جلّ جلاله) بصير، وأنّ الشاهد (سبحانه) هو الحاكم، وأنّه مطّلع على النوايا والأسرار وذات الصدور، ومحيط بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرّة، وإنّ سجل الأعمال لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولذلك يلعب إستحضار المعاد واستذكاره دوراً فاعلاً ومؤثِّراً ليس في تأنيب نفوس هؤلاء فقط، وإنما في تأديبها وتهذيبها وقلع أشواكها وطفيلياتها أيضاً!

عن الإمام علي(ع): "شتّان بين عملين (لذّتين): عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره"، وينسب إليه:

تفنى اللذاذةُ ممّن نال شهوته         من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ

تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبّتها        لا خيرَ في لذّةٍ من بعدِها النارُ

وفي ذلك يقول (أبو العتاهية):

ولربَّ شهوةِ ساعةٍ        قد أورثت حزناً طويلاً

ويبقى القول الفصل المستخلص من ذلك كلّه: إنّ البُعد عن اللذّةِ المحرَّمة هو بحدّ ذاته لذّة!!

 

- على طريق الوقاية والعلاج:

إنّ اللذّة -حسِّية كانت أو غير حسِّية- مطلوبة كجرعة مُنعشة تُلطِّف من صرامة حياتنا المحاطة بالإختناقات، وإذا خلت من الممنوع الضارّ، فهي متعة خالصة لا ينبغي تنغيصها بنظرات التطرُّف والتشدُّد والغلوّ.. فالأصل في مفهوم اللذّة هو التلازم بين الشيء وبين الطبع بحيث يوجب إرتياحاً للنفس.. ولو تأمّلنا في قوله تعالى في نعيم الجنّة (وهي دار اللذاذات): ﴿وفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ (الزخرف/ 71)، لرأينا أنّ تقديم (الإشتهاء) على (التلذُّذ) إنّ الثاني إنما يحصل بعد حدوث الأوّل وهو غيره، فالتلذُّذ من صفات النفس ويحصل عادة بعد تذوُّق الطيِّبات.

يقول (المتنبِّي):

ولذيذُ الحياةِ أنفسُ للنفـ   ـس وأشهى من أن يُملاّ!

بعض الدراسات النفسيّة الإسلامية قرأت موقع اللذّة في حياتنا، ورصدت آثارها وخلصت -في مضمار المعالجة- إلى التالي:

1- مبدأ تأجيل اللذّة:

يقوم هذا المبدأ على أرضية من الإيمان الذاتي الداعي الذي يقارن بين قيمتين: (عاجلة) و(آجلة).. العاجلة تدعوه بإلحاح إلى التلبية والإشباع والطاعة لأمرها، والآجلة تؤمله بلذّة أعمق وأدوم، كأن يقال له: إذا غضضت طرفك عن الحرام ولم تتورّط فيه، فإنّك ستجد تعويضاً سخياً في الآجل، أي في نعيم مستقبلك الأخروي، أو أنّ الله يمنح بصرك المغضوض أو العافّ عن المنكر قوّة أو طاقة إضافية تدخل في رصيد بصيرتك، أو أنّه تعالى يمنحك عوضاً عن ذلك ما يجعل لك فيه مخرجاً ويرزقك من حيث لا تُحتسب، ويطلق على هذا التأجيل بـ(التأجيل المعوَّض).

لقد هَمَّ يوسف(ع) بزليخا مثلما هَمَّت به، فكان بين خيارين: بين أن يُلبِّي نداء الشهوة العاجلة فيسقط في الإمتحان، وبين أن يُعطِّل أو يُؤجِّل ذلك إلى حين ذلك إلى حين يجد الفرج، فاختار الأصعب، فنجح في الإمتحان بدرجة إمتياز!

 

2- مبدأ التأجيل المثمَّن:

وهذا المبدأ لا يقوم على إستبدال لذّة دنيوية بلذّة دنيوية اخرى، فقد تتفق مع رفاق الدراسة أو زملاء العمل على رحلة تستمعون بها في عطلة من عطل الدراسة أو العمل، وفي اليوم المقرَّر للرحلة يتعرّض أحد والديك إلى وعكة أو نكسة صحّية طارئة أو مفاجئة مما يستدعي وجودك أو بقاءك إلى جانبه، فتقف بين خيارين: أن تمضي في مشروع الرحلة وتترك أحد والديك يعاني المرض مع حاجته إليك، أو أن تلغي ذلك المشروع لصالح بقائك قريباً من أبويك ترعاهما وتقوم أو تسهر على خدمتها طلباً لمرضاتهما ومرضاة الله تعالى.

في الحالة الثانية تكون قد خسرت لذّة أو متعة السفر مع الأصحاب والأصدقاء، لكنك في المقابل تكسب لذّة أو متعة السهر على راحة أبويك، ولذّة شعورك بأن عملك هذا عباديّ يُقرِّبك من الله زلفى، مثلما أنّه إحسان إلى الوالدين يدخل السرور على قلوبهما.. وإذا كنت قوياً في الرياضيات أو في الحساب، فإنّك تعلم أنّ اللذّة الثانية أعظم بكثير، مما لا مجال فيه للمقارنة، من لذّة مرافقة الزملاء في رحلة ترفيهية!

في رحلة الأصدقاء تُرفِّه عن نفسك، وفي البقاء إلى جانب والدك المريض تُرفِّه عن أبيك وعن نفسك أيضاً، ذلك أنّ شعوري أنِّي مرضيٌّ عنِّي بارٌ بأُمّي أو أبي، وأنِّي أُحقِّق السعادة إلى إنسان عزيز عليَّ، وأنِّي أقرأ في عينيه آيات الإمتنان، وأسمع من شفتيه كلمات الدُّعاء الصادق، أو أراهما يفتران عن إبتسامة حانية وراضية وشاكرة، لا يعادله في دنيا المشاعر الإنسانية الراقية شعور.

وقد ينتظر مشروع الرحلة مع الأصدقاء قليلاً، أو يؤجَّل لحين آخر، وحتى لو لم يكن ذلك ممكناً، فإنّ جرعة اللذّة التعويضية قادرة على إشاعة الرِّضا النفسي إن في حالة (الإيثار) أو حالة الروع الذاتي وتغليب لذّة على أخرى.

 

3- مبدأ التأجيل القيمي:

ويعني في الفهم النفسي لهذا المبدأ أنّ اللذّة العقلية وحدها كافية دون التعويض أو التثمين.. فحتى لو لم يكن هناك أجر على عمل تعمله، ولكنك تستشعر لذّته العقلية، فهذا بحد ذاته يعد مكافأة على عملك، لأنّك عملته بقطع النظر عن التعويض المادي (مكافأة في قبال مكافأة) أو التعويض المعنوي (شكر وثناء وتقدير على عمل).

أراد جماعة نفد طعامهم أن يشتروا طعاماً من عجوز كانت قد أعدّته لأطفالها، فقالت: ليس عندي طعام أبيعه ولكنني أهبه لكم! قالوا: خذي نصفاً وأعطينا نصفاً، قالت: الشطر نقيصه والكلّ فضيلة! حتى لو لم يكن في الدين مكافأة على ذلك، فإنّ مروءتي لا تسمح لي بأن أشبع وأنا أرى جياعاً!!

 

4- مبدأ توازن اللذّات:

إن كانت اللذّة مادّية سُمِّيت لذّة أو متعة ومنفعة، وإن كانت نفسية أو معنوية أو روحية، فهي (السرور).. وبما أنّ الإنسان هو كيان مزدوج أو مشترك أو مركب من مادي ونفسي، كان لابدّ من إعطاء كلّ ذي حق حقّه من الإشباع والتلبية حتى لا يتم تغليب جانب اللذائذ والشهوات والمتع الحسِّية على جانب المسرّات والمباهج الروحية والإنشراحات العقلية.

والعملية ليست تقسيماً بالمناصفة أو بالمكيال، وإنما حاجات الجسد من غير إسراف ولا إلحاف ولا إسفاف، ويأخذ العقل والنفس والروح قسط حاجاتهم وأشواقهم التي ترتقي بإنسانية الإنسان فلا يكون منحصراً في مسافة ضيِّقة بين (البطن) و(الفرج).

لم يقبل النبي(ص) من المسلمين الذين صاموا نهارهم وقاموا ليلهم واعتزلوا نساءهم ذلك الموقف المُتطرِّف منهم، وإنما انتقدهم نقداً عملياً، فقال لهم أنّه وهو رسولهم ونبيّهم وأُسوتهم الحسنة يفطر ويصوم وينام ويقوم ويعاشر النِّساء.. وإن تلك سنّته ومَن رغب عن سنّته، فهو ليس منه.

ولم يقبل الإمام علي(ع) من أحد أصحابه الذي لبس عباءة التقشُّف والزُّهد، مع أنّه(ع) كان زاهداً، واعتبر ذلك عدواناً للنفس أو إعتداءً عليها حيث خاطبه: "يا عديّ نفسه"!!

إنّ قول النبي(ص) إن صحّ وروده عنه: "أُحبّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنِّساء وقرّة عيني الصلاة" ينطوي على لذّتين دنيويتين في مقابل لذّة روحية واحدة.

وقول الإمام علي(ع) وقد قدّم له نوع من الحلوى لم يتناول منه شيئاً: "لا أُحرِّمه ولكني لا آكل منه"، لئلا يعوّد نفسه أن تطمع أو تهش إلى لذّة يرى الفقراء من رعاياه محرومين منها، فكان تعبيره دقيقاً في عدم التحريم لأنّه لا يمكن أن يحرّم الطيبات التي أخرج الله لعباده.

علي(ع) نفسه حينما يتحدّث عن (اللذّة) المادية يُسمِّيها (النشرة) لما تشيعه في النفس من حالة الإنشراح والإنبساط، حيث يقول من موقع تجريب أو إستحسان: "الطيب نشرة، والركوب[5] نشرة، والنظر إلى الخضراء نشرة".

 

- الخلاصـة:

إنّ منعكس اللذّة ليس جسدياً فقط، بل له مردود نفسي أيضاً.. فاللذّة الحسِّية جناح من أجنحة السعادة به وبالسرور الروحي تطير، فليس صحيحاً أنّ اللذّة تؤدِّي إلى التشتُّت الروحي والتمزُّق النفسي، وإنما هو الإستغراق فيها والإنكباب عليها بحيث تكون غاية أو هدفاً بحد ذاتها، هذا هو خطر اللذّة أو وجهها السلبي، وما عدا ذلك فـ(اللذّة) تقابل الإستمتاع بـ(الطيِّبات) و(الزينة) التي أحلّها الله لعباده وأراد لهم أن يأخذوا نصيبهم منها، وإلا كيف أنعم بالطيِّبات وبالزينة ثمّ لا أجتني اللذّة الناتجة عنهما؟!

إنّ روحي كإنسان مركبة من (لذّة) و(سرور) لا تنمو في مناخ العقل الصارم وجدّيته، ولا في صومعة الترهُّب والتبتُّل والإنقطاع عن الدنيا، ولذلك فإنّ تصنيف اللذّة إلى (رديئة) و(صحيحة) لا يتعلق دائماً بطبيعة الشيء المستلذّ أو المستمتَع به، وإنما بالآثار المترتبة عليه.

والبُعد الروحي للذّة -إذا جاز التعبير- يمكن تلمُّسه -مثلاً- في دموع الباكي من الندم والإعتراف والنقد الذاتي بين يدي الله في ضراعة الصلاة في جوف الليل، وفي توبة التائب من أعمال مشينة أدمنها ثمّ قاومها وكفّ عنها، وقد يحلو للبعض أن يُصوِّر السرور بأنّه لذّة خالصة وهذه مقاربة لفهمه اللذّة فهماً خالياً من تأريخ التجنّي أو الهجوم الظالم عليها.

عن (الشيخ البهائي) في كشكوله وفي تبيان إختلاف الناس في لذّاتهم: "انظر إلى الصبي في أوّل حركته وتمييزه، فإنّه تظهر فيه غريزة بها يستلذّ (اللعب) حتى يكون ذلك عنده ألذّ من سائر الأشياء، ثمّ يظهر فيه بعد ذلك إستلذاذ اللهو ولبس الثياب الملوّنة وركوب الدواب (السيارات) الفارهة فيستخفّ معها اللعب، بل يستهجنه. ثمّ يظهر فيه بعد ذلك (لذّة الزينة): (النِّساء والمنزل والخدم) فيحقر ما سواها. ثمّ يظهر فيه بعد ذلك (لذّة الجاه والرياسة والتكاثر من المال، والتفاخر بالأعوان والأتباع والأولاد) وهذه آخر لذّات الدنيا، وإلى هذه المراتب أشار سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ﴾ (الحديد/ 20).

من هذا النص يبدو أنّ حياتنا -منذ الطفولة وحتى الكبر- هي سلسلة من اللذائذ.. فلكل مرحلة ما يناسبها من لذاذات، وهي بمثابة المنكِّهات التي تعطي للطبخة مذاقها المحبَّب، وربما شكّلت دوافع ومحرِّكات ومنشِّطات لحركة الإنسان في الحياة، بل حتى مبادئ تأجيل اللذّة من معوَّض ومثمَّن وعقلي، هي في القراءة الدقيقة لها، لذائذ أعلى قيمة وأغنى سعادة من لذائذ مُجتنَبة أو مُعطِّلة للطاقة، أو مؤذية للنفس في تبعاتها وتداعياتها وآثارها المترتبة عليها.

يقول بيير داكو في (الإنتصارات المذهلة لعلم النفس): "لُقِّنا أن ننظر إلى الغرائز على أنها دنيئة، وبخاصة في ميدان الجنس، وعلينا أن لا ننسى بأن هذه الغرائز باقية، وأنها تعمل عملها، سواء كانت مكبوتة أو غير مكبوتة.. إذا فهمنا الغرائز فهماً واضحاً أو رفضناها بطريقة سليمة، فليس ثمة شيء نخشاه"!!

 

- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين -


1- لعلّك جرّبت ذلك بنفسك، فإذا جعت جوعاً شديداً فإنّ لذعة الجوع الحادّة تُصوِّر لك الرغبة في الطعام تصويراً مضاعفاً أو مكبّراً بأنّك لو أتيت بخروف محشي لأكلته بعظامه، لكنك عندما تتناول الطعام بالفعل، فإنّك ستجد بأنّ رغبتك الواسعة أوسع من حاجتك الحقيقية.

2- أحد الشُّعراء وصف قوّة الـ(نعم) في قوله بإمتداح إنسان عظيم:

ما قال (لا) قطّ إلا في تشهُّده       لولا الشَّـهدُ كانت لاؤه نعمُ

3- ينبغي أن لا يُساء فهم هذا الكلام على أنّ كلّ مستمتع بلذائذ الحياة سيكون مصيره النار، فنحن هنا -في هذا الكتاب- نتحدّث عن أولئك الذين أذهبوا بطيباتهم في الحياة الدنيا واستهلكوها إستهلاكاً كاملاً، ولم يتخذوا من ساحة الدنيا مزرعة للآخرة، حديثنا منصب على الذين لا يرون وراء متعة الدنيا ولذّتها لذّة أكبر ومتاعاً أعلى وكمالاً أكمل.

[4]- في البيت إشارة إلى الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، والجواب فلسفي يراد به أنّ الدنيا ميّالة لمن يعزف عنها ولا تحب المتكالبين عليها.

5- المراد بالركوب (المواقعة الجنسية).

ارسال التعليق

Top