• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المعنى الحقيقي لـ«مفهوم التوبة»

المعنى الحقيقي لـ«مفهوم التوبة»

◄التوبة هي ترك الذنب والندم على ما فرط من الإنسان والعزيمة على ترك المعاودة وترك ما يجب تداركه من الأعمال بالقضاء أو الأداء (مثل أداء حقوق العباد).

وهنا لابدّ من ذكر عدة بديهيات:

1- خلق الله الإنسان وخلقه مرتبطاً بمجتمعه الذي يعيش فيه ويؤثر فيه ويتأثر به، وليس من الحكمة والعدل والانصاف أن يترك البشر بدون قواعد تحكمهم ونظام ينظم حياتهم ومجتمعهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وفيما بينهم وبين خالقهم وفيما بينهم وبين الموجودات الأخرى.

والإنسان بحاجة إلى نظام لتربية نفسه أوّلاً والتغلب على أهوائه وشهواته، كما يحتاج إلى نظام للأسرة التي يعيش فيها لينتظم مع أخوته وأبويه وأولاده وزوجه بعلاقات قويمة كريمة، ثم لنظام بين الأسر جميعها ثم بين الإنسان وربّه، وبينه وبين الطبيعة التي حوله. وكما إنّه بحاجة إلى علاقات عامة، مالية وعبادية وجهادية... إلخ.

2- خلق للإنسان كما قدمنا مجموعة غرائز وعواطف.

3- كما خلق له عقلاً يميز بين الجيد والرديء والحسن من القبيح كما جعل له سبحانه إرادة وترك له حرّية الاختيار.

4- جعل الله سبحانه وتعالى عقوبات، فلكلّ مخالفة عقوبة قد يكون إيقاع العقوبة في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط، وقد تكون العقوبة في الدنيا والآخرة.

إنّه نظام دقيق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة... إنّه الإسلام العظيم الذي نظّم كلّ شيء فلم يترك حتى ارش الخدش. وهو بالمقابل جعل الثواب ورد الجميل لكلّ مَن يعمل صالحاً.

بعد هذه البديهيات الأربع، نأتي إلى مسألة التطبيق فنجد إنساناً أدرك هذه كلّها، ومع ذلك نراه يقدم متعمداً وبكلّ اختياره على فعل القبيح وعلى ظلم الناس وظلم نفسه هو بالذات، وبالتالي ليكون عنصراً شاذاً في المجتمع يؤدي بالتدريج إلى فقدان النظام وخلخلة المجتمع الذي يعيش فيه وتشيع الرذيلة بدل الفضيلة والشر بدل الخير.

فما هو جزاء هذه الشخص الذي نتصوره هكذا:

أعطاه الله عقلاً

ثم أرسل له مبلِّغاً ومرشداً

وعرّفه القبيح ونهاه عنه، وعرّفه الحسن وأمره به

ولكنه فعل القبيح وترك الحسن

فهل يترك هذا المذنب، هذا الذي يريد أن يسيء إلى مجتمعه؟ هل يترك سدى؟ دون أن تطبق بحقّه العقوبات، بل أقسى العقوبات؟

نعم إنّه لكذلك.

إنّ هذه الأفعال التي ارتكبها حالات مرضية تسيء إلى المجتمع المثالي الذي يريده الله سبحانه وتعالى، فلابدّ إذن من القضاء على هذه الحالة المرضية لكيلا تتفشى ويصيب شرها الآخرين.

إنّ الزاني يجلد في الدنيا أو يقتل حسب اختلاف الحالات ويعذب بالنار في الآخرة.

وإنّ الممتنع عن الصوم يجب أن يطعم ستين مسكيناً بالإضافة إلى عذاب الآخرة.

وإنّ عقوبات محددة وغير محددة (وهو ما يسمى بالتعزيرات) وهي كثيرة جدّاً تطبق بحقّ الذين انحرفوا عن جادة الصواب وحاولوا أن يشيعوا الفساد في مجتمعهم واظهروا عنادهم وكبريائهم أمام إرادة الله سبحانه وتعالى.

إنّهم يستحقون هذه العقوبات استحقاقاً تاماً بدون أي ظلم وأي تعسف جزاءاً وفاقاً لما قد ارتكبوا من معاصي وآثام ولما تركوه من واجبات وذلك إذا لم يتوبوا ولم تشملهم رحمة أو شفاعة.

ولكن قد يُشعر هذا الإنسان الذنب إنّه أصبح نشازاً في المجتمع المثالي الذي يريده الله سبحانه وتعالى وقد يستيقظ ضميره فيجد نفسه بعيداً عن رحمة الله وإنّه أصبح مرفوضاً من المجتمع الخيّر في الدنيا وإنّه سوف ينال عقاباً في الآخرة من لدن عزيز جبّار متكبِّر.

فهل من ملجأ يلجأ إليه؟ وهل من علاج يعالج حالته؟ وهل من منقذ ينتشله من سقطته؟ وهل من عطوف يحنو عليه؟

إنّه الآن يريد أن يعود إنساناً سوياً ملتزماً بعد أن اقترف الذنب فندم على ما فرط في جنب الله وبعد ما إنحاز إلى الضلال.

إنّه الآن يريد أن يسير في الركب الصالح إطاعة لله وإذعاناً.

صحيح إنّه ارتكب ذنباً حين لم يتغلب على عواطفه وغرائزه ولكنه الآن يريد أن يسيطر على عواطفه من جديد ويعطي تعهداً للباري تعالى بأنّه أصبح إنساناً يمتلك هذه العواطف والغرائز وليست هي التي تمتلكه.

إنّه في الحالة يأتيه النداء من الله سبحانه وتعالى، من الرؤوف الرحيم (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53)، فقد غفر الله تعالى جميع ذنوبه وعاد إنساناً سوياً وكأنّه لم يقترف أي ذنب، بل إنّه إذا عمل صالحاً فأنّ الله سوف يبدل سيئاته حسنات.

انظروا إلى هذه الرحمة العظيمة التي تغمر البشر.

إنسان اقترف ذنباً فشذ عن الطريق وأصبح شخصاً مرفوضاً من قبل المجتمع المثالي الذي يريده الله سبحانه وتعالى.

كان قلقاً حائراً متردداً قانطاً يائساً، ندم على ما اقترف فاستغفر ربّه ثم عمل صالحاً لأنّه أصبح إنساناً يريد أن يثري مسيره الحياة، فبدّل الله سبحانه وتعالى جميع سيئاته حسنات إذ يقول: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 70).

بل إنّ الله يحب أولئك الذين كانوا قد انحرفوا ثم عادوا إلى رشدهم فتابوا إلى الله، فأعطاهم الله ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها.

قال الله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222).

وقال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر/ 7-9).

وقوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 68-70).

أي رحمة هذه من الله؟ عبد يعصيه فيذنب ثم يتوب إليه، فيغفر له جميع ذنبه ويجعل سيئاته حسنات، وزيادة على ذلك فإنّ الله تعالى يحبه فيكون حبيب الله.

ولقد تمت التوبة بين العبد وربّه بدون أيّة شكليات ومراسيم زمانية أو مكانية، فبمجرد أن يستشعر بالندم ويتوب، يتوب الله عليه، في الليل أو النهار، في المسجد أو البيت.

إنّه قد يكون قد اقترف ذنباً يخجل أن يطلّع عليه الناس ولكنه استيقظ ضميره، فتعاهد مع خالقه بأن لا يعود ولا يطلّع عليه أحد غير الله.

أما النصارى، فقد اشترطوا لمن يريد الاعتراف، أن يحضر لرجل الدين ليجلس على كرسي الاعتراف، فيذكر جميع أفعاله، فيمنحه هذا صكوك الغفران ويضمن له الجنة.

فمن هو هذا الذي يمنح صكوك الغفران، إنّه هو يحتاج إلى مغفرة من ربّه. إنّ البشر كلّهم فقراء إلى الله (وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا) (الفرقان/ 3).

إنّ الإنسان المذنب في كثير من معاصيه لا يريد أن يطلّع عليه أحد لأنّه لا يزال يخشى المجتمع الذي يعيش فيه، فهو إذا ما تاب فإنما يحب أن يبقي معصيته سرّاً لا يطلّع عليه أحد من البشر. وإنما ذلك سرّ بينه وبين ربّه.

بل إنّ كثيراً من المذنبين يرغب لو تمكن أن ينسى ما اقترفه من ذنوب فهو نفسه أيضاً لا يريد أن يتذكّر ذنوبه، فكيف يرضى أن يطلّع عليها غيره حتى لو كان رجل كنيسة؟

قال الإمام الصادق (ع): "إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله وستر عليه" فسُئل الإمام وكيف يستر عليه؟ قال: "ينسى ملكيه ما كانا يكتبان عليه ويوحي إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن إكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله عزّ وجلّ حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب".

والخوف من انكشاف سرّ المعصية، قد لا يكون في الدنيا فقط بل ربما يكون العاصي في خشية من انكشاف معصيته في الآخرة أيضاً عندما يدخل النار، ودخول النار لا يكون إلّا علامة المعصية والذنب.

ربما كان مظهره في الدنيا مظهر المتدينين ولكن النار كشفته لزمرته وجماعته. يقول تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (آل عمران/ 192)، فكان الخزي والعار بحد ذاته عذاب شديد، يخجل أن يتعرض إليه الإنسان يوم القيامة.

 

شروط التوبة:

يشترط في قبول التوبة أمور:

1- أن يندم على ما فرط منه، فيجزم بأنّه لو تتاح له نفس الفرصة لا يعود لمثل تلك المعصية، بل إنّه يستهجن ما فعله وما صدر منه، فيقرر مع نفسه ومع ربّه أنّه سوف لن يكرر الذنب ولن يعود لمثله.

2- أن يترك الذنب قربة إلى الله تعالى وليس لأمر آخر، كالذي كان يشرب الخمر فأضر بصحّته فتركه. إنّ هذا لا يسمى تائباً فقد يسمى نادماً لأنّه أضر بصحّته. ولكنه لم يتركه تقرباً وامتثالاً لأمر الله تعالى، أو كالسارق يترك عملية السرقة لأنّه يخشى من السجن وهكذا...

3- أن يندم ويتوب وهو في وضع غير حرج من حياته، كمن يشرف على الموت كالغريق والقتيل.

قال الله تبارك وتعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) (النساء/ 18).

فقد سُئل الإمام الصادق (ع) عن تفسير هذه الآية قال: "إنما لا تقبل توبة هذا إذا عايش أمر الآخرة" أي إذا علم أنّه ميت لا محاله ويتوضح ذلك بالغريق أو القتيل. وهي بخلاف ذلك تكون مقبولة في أي وقت كان من عمر الإنسان.

قال رسول الله (ص) في آخر خطبه خطبها "مَن تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال إنّ السنة لكثيرة ومَن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال وإنّ الشهر لكثير ومَن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال وإنّ اليوم لكثير ومَن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثمّ قال إنّ الساعة لكثيرة، مَن تاب وقد بلغت نفسه هذه – وأهوى بيده إلى حلقه – تاب الله عليه".

ولا شكّ أنّ الرسول (ص) يقصد أنّ الإنسان يندم ويتوب قبل موته وهو لا يعلم إنّه سوف يموت بعد سنة أو بعد شهر أو بعد يوم أو بعد ساعة وإنما هو ندم فتاب ثم مات بقدر بعد ساعة من توبته فإنّ الله تعالى يقبل توبته.

قد يتوهم أنّ في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريضاً على ترك الطاعة، فإنّ الإنسان إذا أيقن إنّ الله سوف يقبل توبته إذا اقترف أية معصية من المعاصي، فإنّ ذلك قد يزيد من جرأته على هتك حرمات الله تعالى والانغماس في المعاصي والذنوب، قاصداً أن يذنب ثم يتوب بعد فترة من الزمن.

الواقع إنّ هذا ليس توبة حقيقية، ذلك إنّ التوبة لابد أن يسبقها ندم على ما اقترف من ذنب، وهو يأتي بعد ترك للمعاصي وفي هذه الحالة لا يتحقق الندم ولا يتحقق الترك، بل هو يحدّث نفسه بالتوبة قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ولا معنى للندامة بل قد يكون نوعاً من الاستهزاء والاستخفاف الذي قد يؤدي إلى سوء الخاتمة.

4- أن يتلافى في توبته ما فرّط من أمور حال عصيانه وتجاوزه، فقد يكون هذا التائب قد ترك صلاة وصياماً وحجاً وزكاة، فهل إنّه عندما يتوب تسقط عنه كلّ هذه الواجبات؟ لا... إنّه ليس كذلك، إنّه يجب عليه أن يقضي ما فاته من صوم وصلاة ويؤدي الحج وضريبة الزكاة.

وقد يكون ذنبه متعلقاً ومرتبطاً بحقوق الناس، كأن يكون قد سرق والعياذ بالله، فيجب عليه أن يرد المسروق أو قيمته لأنّ الله سبحانه وتعالى احترم الناس بحقوق جعلها لهم وعد التعدي على أحدهم في شيء من ذلك ظلماً وعدواناً...

(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) (يونس/ 44).

وقد يكون الذنب هو إنّه اغتاب مَن لا تجوز غيبته، فعليه أن يستغفر له أو يترضاه وهكذا...

أما إذا كان قد شرب الخمر أو كذب وما إلى ذلك من الذنوب التي لا علاقة لها بحقوق العباد فإنّ مجرد الندامة والتوبة يكفي لتكفيرها.

إنّ الله يغفر جميع الذنوب إلّا الشرك (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) (النساء/ 116).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (آل عمران/ 90).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا) (النساء/ 137).

فهم كانوا مؤمنين ثم كفروا، فأولئك لن تقبل توبتهم وعقوبتهم القتل رأساً مع مصادرة أموالهم وهو ما يسمى بالاصطلاح الفقهي (بالمرتد الفطري).

أما أولئك الذين آمنوا بعد كفر، فإنّ الإسلام يجب ما قبله، بمعنى أنّ الإسلام يسقط عنهم جميع التكاليف التي يتحملها المسلم العاصي من قضاء للصلاة والصيام وما إلى ذلك. فكأنه قد بلغ سن التكليف الآن وهذا من لطفه تعالى ورحمته، وهو بحد ذاته يشجع الكفار على تقبل الإسلام. فإنّ الكافر إذا عرف أنّه بمجرد أن يسلم، عليه أن يصلي ويصوم ويؤدي ضرائب خمسين سنة مضت من عمره مثلاً فإنّه لن يقدم أحد على الإسلام.

نعم، إنّ الله سبحانه وتعالى يغفر حتى لأولئك الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً، إذ يقول عزّ مَن قائل: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 33-34).

أي إنّهم تابوا قبل أن يقبض عليهم ويحالوا للمحكمة، معنى هذا إنّهم تابوا من تلقاء أنفسهم خشية من الله ورغبة إليه وتقرباً له.

والتوبة في الواقع لطف إلهي لا يدانيه لطف أبداً: ففي القوانين المدنية قد يتعرض الإنسان للعقوبات فتصادر أمواله ويحكم عليه بالحبس وتسقط عنه جميع حقوقه المدنية.

ثم يقرر رئيس الجمهورية أو الملك أو أية جهة مخولة أخرى، إعادة الاعتبار إليه، فيرجع مواطناً صالحاً كما يقولون.

أما هنا في التوبة، عندما يتوب الإنسان إلى ربّه، فلن يعود إلى مصاف الناس الأسوياء فقط، وإنما يبدل الله سيئاته حسنات إذا عمل صالحاً.

يقول الله سبحانه وتعالى: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان/70).

ففي القوانين المدنية، الشخص الذي أعيد له الاعتبار لا يطمح أن يعطي جزاء على ما اقترف من مخالفات، وإنّه فقط اعتبرت جريمته غير ذات أثر، وعاد كسائر المواطنين في تمتعه بالحقوق. اللّهمّ إلّا إذا كانت جريمته سياسية ثم تغير الوضع السياسي في ذلك البلد تغيراً تاماً، فيكون في نظر الدولة الجديدة إنساناً مناضلاً، فيثاب على أفعاله النضالية التي كانت في نظر الدولة القديمة جريمة سياسية.

أما في الإسلام فالذي يبدل سيئاته حسنات هو واحد لم يتغير وهو الله تعالى، والوضع الاجتماعي لا يزال كما هو لم يتغير أيضاً، ولكن الذي حصل هو تغير في نفسية الفاعل، نفسية المذنب، استيقظ ضميره وتاب إلى رشده وتاب إلى الله، ثم بدأ يعمل صالحاً.

والصالح الذي بدأ بعمله ليس صالحاً شاقاً، وإنما هو سائر الأعمال الخيرة التي اعتاد الإنسان على فعلها يومياً والتي لا تحتاج إلى مشقة ملحوظة.

فإذا عاد مريضاً كتب له ذلك صدقة.

وإذا أزاح حجراً عن الطريق كتب له صدقة.

وإذا احترم أبويه أعطى بذلك درجة.

وإذا أعان شيخاً على الطريق أعطى به درجة.

كلّ ذلك وأمثاله أعمال صالحة يستحق الإنسان عليها درجات وهي بنفسها تمحو السيئات فتجعلها حسنات. فهذا لطف إلهي وباب رحمة واسع فتحه الله سبحانه وتعالى للإنسان لكي يقلع عن ذنوبه ويكون عضواً نافعاً في مجتمعه ليشارك في دفع المسيرة الإلهية الخيّرة التي أرادها الله للبشرية.

وإذا كانت التوبة سبيلاً لإصلاح الفرد فهي كذلك من أنجح وسائل الدفاع الاجتماعي ضد الإجرام والانحراف، لأنّها تشد ذوي الذنوب والآثام إلى الصلاح شداً، وتبعث فيهم دائماً أمل الاستقامة وتؤهلهم للخير والفضيلة وتستصرخ فيهم عزيمة التمرد على الانحراف والجنوح.►

ارسال التعليق

Top