• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المنهج الاجتماعي والعبادي في الحجّ

عمار كاظم

المنهج الاجتماعي والعبادي في الحجّ

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحجّ/ 27). إنّ الحجّ أعظم أركان الدِّين، وهو من أهم التكاليف الإلهيّة وأثقلها، وأصعب العبادات البدنية وأفضلها.. فالغرض الأصلي من إيجاد الإنسان معرفة الله والوصول إلى حبّه والإنس به، والوصول إليه بالحبّ والإنس يتوقف على صفاء النفس وتجرّدها. فكلّما صارت النفس أصفى وأشدّ تجرّداً، كان إنسها وحبّها بالله أشدّ وأكثر. وصفاء النفس وتجرّدها موقوف على التنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات، والانقطاع عن الحطام الدنيوية، وتحريك الجوارح وإيقاعها لأجله في الأعمال الشاقة، والتجرّد لذكره وتوجيه القلب إليه. ولذلك شرّعت العبادات المشتملة على هذه الأُمور، إذ بعضها إنفاق المال وبذله، الموجب للانقطاع عن الحطام الدنية، كالزكاة والخمس والصدقات، وبعضها الكف عن الشهوات واللذات، كالصوم، وبعضها التجرّد لذكر الله وتوجيه القلب إليه، وارتكاب تحريك الأعضاء وتعبها، كالصلاة، والحجّ من بينها مشتمل على جميع هذه الأُمور مع الزيادة، إذ فيه هجران أوطان، وإتعاب أبدان، وإنفاق أموال، وانقطاع آمال، وتحمّل مشاق، وتجديد ميثاق، وحضور مشاعر، وشهود شعائر، ويتحقّق في أعماله التجرّد لذكر الله، والإقبال عليه بضروب الطاعات والعبادات، مع كون أعماله أُموراً لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فإنّ سائر العبادات أعمال وأفعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس إليها ميل، وللطبع بها إنس.

ولا ريب في أنّ الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول المؤالفة والمصاحبة، ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتظاهر الهمم، وتعاون النفوس على التضرّع والابتهال والدُّعاء الموجب لسرعة الإجابة، بذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونزول الوحي عليه، وغاية سعيه واهتمامه في إعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، والصفاء للنفس. هذا العنصر الجمعي هو إذن رُكنٌ ركين، وعنصر أساسي أصيل، من دونه لا يكون الحجّ حجّاً، ولا يقع فرضاً ولا نفلاً، ولقد حرص الإسلام على هذا التجمع في الحجّ حرصاً يفوق كلّ حرص، وجعله هو الحلقة الختامية العليا كلّ عام يتوج بها سلسلة التجمعات المحلية التي دعا المسلمين إليها في مختلف المناسبات: دعا أهل المحلة أو الحي الصغير إلى التجمع في أقرب المساجد خمس مرّات كلّ يوم، ثمّ دعاء أهل القرية أو الحي الكبير من المدينة إلى التجمع في مسجدهم الجامع مرّة في كلّ جمعة. ثمّ دعا مرّتين. لصلاة العيدين.. مراحل متصاعدة، تنمو فيها روح الجماعة شيئاً فشيئاً. ويتضخم مظهرها رويداً رويداً، حتى تصل إلى هذه التجمع الإسلامي الكبير مرّة في كلّ عام، حول أوّل بيت وضع الناس.

لقد كان مقدراً للإسلام أن ينتشر نوره في الآفاق، على مختلف الأقطار والأقاليم.. وكان من الضروري إذن لبقاء هذه الوحدة ودوامها بصورة عملية أن يفرض على الشعوب الإسلامية نظام من الاختلاط والامتزاج والتجاور والتزاور، من شأنّه أن يحد من حدة التفاوت بينها، وأن يميل بمقوماتها الإجتماعية إلى التماثل والتشابه، أو على الأقل إلى التقارب والتناسق إذ يكون هذا الاختلاط فرصة ممهدة لاقتباس ما هو حسن جميل، وتهذيب ما هو شاذ متطرّف، ويكون في الوقت نفسه تدريباً عملياً على التسامح والاغضاء عن الفوارق الشكلية التي لا يخشى أن تحدث صنعاً في كيان الجماعة العظمى، حيث قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). 

تعليقات

  • السيدة كوثر مصطفى

    عندما يتشبع فكر الكاتب ووجدانه بالمعاني العميقة والدقيقة لأي موضوع يكتب فيه يبدع القلم في حفر ونقش الكلمات الصادقة التي تقلب كيان القارئ، وتأخذه ليغوص متأثراً حيث يشعر، ويتذوق بذلك الإبداع البليغ ماهو مخزون مكتنز باعماق ووجدانه،عندها يرتوي علماً ويتفاعل عملا .

ارسال التعليق

Top