• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المواطنة والحرية

د. الحبيب الجنحاني*

المواطنة والحرية
◄برز مفهوم المواطنة في المجتمع الغربي عام (1783) في أوج نضج فلسفة الأنوار، وعاشه الناس في عالم الفعل أيام الثورة الفرنسية، وقد ألغت ألقاب عصر الإقطاع، وقلصت من سيطرة الكهنوت الكنسي، وأصبح الناس يخاطبون بمواطن، أو مواطنة، ثمّ تطور المفهوم عبر ثورات متعددة في خضم صراع سياسي واجتماعي عاشه القرن التاسع عشر، والنصف الأوّل من القرن العشرين. لقد أسهم في تطور المفهوم تيارات سياسية اجتماعية، وفكرية متعددة، وخاصة التيار الليبرالي، والتيار الماركسي. ولا يمكن فهم هذا التطور إلا من خلال ربطه بالدعائم الصلبة التي قامت عليها حداثة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، ويمكن تلخيص قيمها في مقولات أربع: -        المقولة الأولى: لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. -        المقولة الثانية: تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية، والحرية والعدل السياسي والاجتماعي. -        المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية. -        المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حركة الأنوار لكونها تياراً فلسفياً أو فكرياً مجرداً، بل ولدت، وشقت طريقها في ظروف صراعية مع الوقت المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكنهوت الكنسي، وقوة النظم السياسي الاستبدادية، فليس من الصدفة إذاً أن يكون أخطر سؤال طرحه فلاسفة عصر الأنوار، وأبلغه في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في رقاب الناس ومصالح المجتمع؟   -        العقد الاجتماعي: جاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريات في العقد الاجتماعي، فليس من الصدفة أن يوليه أحد رواد النهضة العربية الحديثة: فراعة الطهطاوي (1801-1873) عناية خاصة، فمن المعروف أن إيمانويل كنت (1724-1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، لكنه يقول عن مؤسسات الكنهوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية إنها مؤسسات "تدوس بأرجلها حقوق البر المقدسة". وأعود لأُأكّد أنّ هذه الأسس الفكرية قد انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي، وفرح أنطون (1877-1922)، وأديب اسحق (1856-1885)، وسلامة موسى (1887-1958)، وأحمد لطفي السيد (1871-1963)، وطه حسين (1889-1973)، فالحداثة التي تأثر بها التنويريون العرب هي حداثة عصر الأنوار ليعي أنّه صانع تاريخه، فهو إذن مسئول عن اختياره، وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قروناً طويلة، فالسلطة شأن إنساني دنيوي، والإنسان وحده، وعبر نضاله الطويل، له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، وله الحق في تغييرها إذا لم تستجب لمصالحه، والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال بها بين مفهومين: العقلانية والتحرر، فالعقلانية لا معنى لها من دون أن تكون في خدمة التحرر، وما يقترن به من حريات، وديمقراطية ومواطنة والتحرر يصبح من دون عقلانية أمراً مستحيلاً. وهكذا أصبحت ممارسات الفكر العقلاني هي المحك، وحجر الزاوية، وبرزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم والتحرر، فلا حداثة من دون تحرير الإنسان من كل المسلمات والبدهيات، والميتافيزيقيات، والأساطير، وتحرير التاريخ من مقولة الحتمية.   -        عصر الحداثة: ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر قد ميزوا تمييزاً واضحاً بين وجهي الغرب: الغرب الاستعماري الذي قاوموه داخل أوطانهم، وغرب التقدم الذي حاولوا الاقتباس منه، فتحدثوا عن الحريات العامة في أوربا، وعن الدساتير، وعن حقوق المواطنة، وعن دولة المؤسسات، وتبين أن حديثهم في رحلاتهم إلى أوربا عن هذه القضايا لم يأت صدفة، بل كان هادفاً إلى إطلاع الرأي العام العربي الإسلامي يومئذ على مظاهر التقدم التي يتمتع بها الغرب، وهي مظاهر أفرزها عصر الحداثة. عندما يعود الدارس إلى أدبيات الفكر السياسي العربي الحديث يتضح له أنّ المفهوم السائد حتى مطلع القرن العشرين هو مفهوم الرعية، ولم يكن الناس رعايا الدولة، بل هم رعايا الخليفة، أو السلطان، أو الإمام. وبعد ميلاد النظم الجمهورية بقوا رعايا السلطة ورعايا الحاكم بأمره، بالرغم من المظاهر الشكلية من دساتير، ومجالس نيابية، وانتخابات. برز مفهوم الوطن والمواطن بالمعنى الحديث في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، فلم يتحدث رواد الإصلاح عن المواطنة، لكنهم استعملوا مفهوم حب الوطن وربطوه بالحرية، وبالحكم المطلق الاستبدادي الذي زهد في الوطن بالأمس، ويزهد في المواطنة اليوم. كتب المصلح التونسي أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) في كتابه "إتحاف أهل الزمان..." مندداً بالحكم المطلق، ومعللاً ضعف الممالك الإسلامية، قال: "ومن المعلوم أن شدة الملك القهري تفضي إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية من الشجاعة، وإباءة الضيم، والمدافعة عن المروءة، وحب الوطن والغيرة عليه، حتى صار بعض الجهات من المسلمين عبيد جباية ليس لهم من مسقط رءوسهم وبلادهم، ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار على مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار حتى زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار، وهذه أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها". وما أشبه الليلة بالبارحة! إنّ المواطنة مرتبطة بحب الوطن والذود عنه، ولا يتم ذلك إلا إذا شعر المواطن أنّه يتمتع بحقوقه التي هي متلازمة مع الواجبات. إنّ لمفهوم المواطنة علاقة متينة بمفاهيم ثلاثة: التمدن، الحقوق السياسية والمدنية، ومرتبطة بالخصوص بالحرية فلا مواطنة بدون حرية.   -        القدوة والنموذج: أود الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ المواطنة مرتبطة بالقدوة والنموذج كذلك، فلا يمكن أن تطالب السلطة المواطن باحترام قيم المواطنة، والدفاع عن المصلحة العامة وهي غارقة في كثير من الحالات إلى الأذقان في الفساد، وقاطعة أرزاق الناس ورقابهم، إذ إنّ المقولة القديمة "الناس على دين ملوكهم" لا تزال مؤثرة في المجتمعات العربية. ومن المعروف أن ضعف الشعور بالانتساب إلى الوطن، أو إلى الأُمّة يفرز الالتجاء إلى الجماعة، وإلى العشيرة، وإلى الطائفة. من المنطقي والمؤمل أن يتجذر الشعور بالمواطنة، وتتوارى عندئذ النعرات العشائرية والإثنية، والطائفية بعد مرور قرن ونصف على نص ابن ابي الضياف، ثمّ بروز حركات تحرر وطنية عارمة في الوطن العربي على مدى النصف الأوّل من القرن العشرين مركزة أساساً على حب الوطن، والاستماتة في الذود عنه، ثمّ تلت ذلك موجة السياسات التربوية، وتنشئة أجيال جديدة من المتعلمين، وما ارتبط بذلك من التدرج في السلم الاجتماعي. كل هذه العوامل كان من المؤمل أن نفضي إلى تعمق الشعور بالمواطنة، لكن هذه النتيجة المنطقية لم تتحقق كما يشهد على ذلك الواقع العربي اليوم، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي الأسباب؟ لا شك أنها متعددة ومتنوعة، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأنّ السبب الحاسم هو تحول الدولة الوطنية، البنت الشرعية لحركات التحرر الوطني، إلى دولة قامعة هَمّشت المواطن العربي، وتفاقم الأمر لما سيطرت المؤسسة العسكرية، ونظام الحزب الواحد على السلطة، فأممت الدولة والمجتمع. إنّ وقوع الأقطار العربية في حالات معينة تحت نير المحنتين معاً: العسكر، ونظام الحزب الواحد، لم يلحق الضرر بالمواطنة على مستوى الوطن الصغير فحسب؛ بل تجاوز ذلك إلى الوطن الكبير، فقد حلم عدد كبير في صفوف النخبة العربية المثقفة بأن يتحول الشعور بالمواطنة على المستوى القطري، بعد المد العارم الذي عرفه التيار القومي في الخمسينيات، إلى ترسخ ظاهرة المواطنة العربية، خصوصاً أن أسسها السياسية والحضارية عريقة في التربة العربية، لكن انعدام المواطنة السياسية للأسباب التي ألمعت إليها عصف بالأسس، وأدى إلى ضعف الشعور بالهوية القومية، بل أفسح المجال لبروز هويات ضيقة متناقضة مع الهوية الوطنية والقومية معاً، وأعني الهويات القبلية، والإثنية، والطائفية.   -        التضامن والكونية والحرية: لا أريد أن أنهي هذا النص دون الإشارة إلى النقاط التالية: -        المواطنة وثيقة الصلة بالتضامن، فلا مواطنة حقيقية من دون وجود روح تضامنية قومية تذود عن الوطن حين يهدده خطر خارجي، وتذود في الداخل عن المصلحة العامة التي تجمع بين سكان الوطن الواحد، وهنا يبرز حالياً في الوطن العربي أخطر عائق أمام نشر روح المواطنة، فمن المعروف أنّ الطبقة الوسطى مثلت الدعامة الصلبة لحركات التحرر العربية، ثمّ إنّه كان لها أثرها البعيد المدى في بناء الولة الوطنية غداة الاستقلال، هذه الطبقة تدحرجت نحو الأسفل منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي بصفة خاصة، وبرزت فئة اجتماعية من كبار الأثرياء أصبح لها دور خطير في صنع القرار السياسي، وارتبطت برأس المال العالمي حماية لمصالحها في الداخل، ودعماً لنفوذها، بل أصبحت في بعض الحالات متحالفة مع قوى أجنبية ضد المصلحة الوطنية. إنّه من الطبيعي أن يحتد في هذا الوضع الجديد الصراع الاجتماعي ليصبح معوقاً خطير الشأن لفكرة المواطنة، فمن الصعب في هذه الحالة أن يركب السفينة نفسها سكان أحياء الصفيح وسكان أرخبيل الأثرياء في المدن العربية، وهذا الصنف هو أقرب إلى سكان أحياء الأثرياء في العواصم الغربية منه إلى سكان أحياء الفقراء المتاخمة لهم. ويحق للمرء أن يتساءل عن مستقبل أية مواطنة قطرية كانت، أم عربية، بعد أن هبت عواصف انتفاضات الحرية والكرامة؟ تتصل القضية الثانية بالمواطنة والكونية، فمن الجوانب الإيجابية للعولمة سقوط الحدود والمسافات، وتحول العالم إلى قرية كونية بفضل الثورة الاتصالية، فليس من المبالغة القول: إنّ صنفاً من صنوف المواطنة قد ولد، وأعني المواطنة الكونية والسمة الأساسية لمحتوى المواطنة الكونية هي حقوق الإنسان بشتى أصنافها، إذ إنّ الإنسان في هذه الحالة يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة إلى فضاء أرحب جراء التمسك بهذه المواطنة، ويصبح حينئذ المس بهذه الحقوق في أية منطقة من مناطق العالم، مهما كانت نائية وقصية، يثير رد الفعل على مستوى العالم، فمفهوم الجماعة الكونية مثل الملامح الجنينية لمفهوم المواطنة العالمية المطروحة اليوم سياسياً وفكرياً.

أما القضية الثالثة، وهي بيت القصيد في هذا النص، فهي علاقة المواطنة بالحرية، فلا مواطنة من دون حرية، كما أنّه لا حداثة حقيقية من دون حرية، وقد تفطّن إلى ذلك أحد رواد الحركة الإصلاحية العربية: خير الدين التونسي لما تحدث في كتابه أقوم السالك عن العدل السياسي، وعدّ الحرية عاملاً حاسماً في ما عرفته الممالك الأوربية من تقدم، فقد أدرك ومعه زمرة من رجال الإصلاح خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنّ الأوضاع لا يمكن أن تتغير، وأن يخطو العالم العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية من دون تغيير الأوضاع السياسية، وأن تبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف خير الدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية ودورها في ما حققه المجتمع الأوربي من تقدم، ولا غرو في ذلك، وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة، مؤكداً "أنّ الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية"، فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجداً بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران.►

*مفكر وباحث وأكادمي تونسي

ارسال التعليق

Top