• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأشيرة دُخول إلى الجنّة

أسرة البلاغ

تأشيرة دُخول إلى الجنّة

 

تأشيرة دُخول إلى الجنّة

 

لجنة التأليف – مؤسسة البلاغ

 

ليست أطروحة هذا الكتاب صكوك غفران جديدة تمنح قطع أراضٍ في الجنّة مقابل عرضٍ ماليّ لشراء تلك الصكوك والحصول على عقد شرعي يحق لحامله إبرازه يوم القيامة بوصفه سنداً ودليلاً يؤيّد حقّه المزعوم.

 

ما هي صكوك الغفران؟

بحسب المعتقدات الدينية الكاثوليكية، هي صكوك (أوراق عادية مجرّدة) تُمنح للعُصاة والمذنبين والمجرمين مقابل الإلغاء الكامل أو الجزئي من العقاب الدنيوي على الخطايا التي تمّ الصفح عنها، وكانت عادة ما تُمنح مقابل أعمال خير أو صلوات. وكانت مزاعم (الباعة) من الكهنة والرهبان لتلك الوثائق أو العقود حصول الشخص الشاري -مهما كانت معاصيه- على الغفران وعند منحه الصك، فإنّ أعضاء الكنيسة يصلُّون من أجله ليعود إلى حياة سليمة من الأخطاء. ويحق له إظهاره كدليل على تصفية حسابه مع ربّه. وقد شاعت بدعة (صكوك الغفران) ومنح قُطع أراضي في الجنّة للمغفورِ لهم في العصور الوسطى قبل ما يقرب من (500) عام، وقد أصدرها البابا (لاون العاشر) سنة 1530م ليبيعها ويحصل على الأموال اللازمة لبناء كنيسة القدّيس بطرس بروما.

ليس لنا ولا لأحد غيرنا -مهما علا مقامه- أن يعد بشيء هو من اختصاص الله تعالى، وإذا كان الأنبياء يفعلون فبإذن الله تعالى لا أنّهم استعاروا حقّه في منح الجنّة لهذا وذاك وتبشيره بها من دون وجه حقٍّ أو داعٍ من دواعي الاستحقاق.

إنّنا من جهةٍ مسلمون قرآنيُّون نتلو كتاب الله تعالى الذي يقول بالنصّ وبالحرف: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة/ 111-112).

شرطان أساسان هما: (إسلام الوجه لله) الإيمان به والطاعة له، والإحسان أو الإخلاص في العمل (وهو محسن). بهذين الأساسين الإحسان والعمل الصالح، وارتكازاً على هذين العمودين (الإيمان والطاعة) تُبنى وتُحرز جنّة الله، وإلّا فما عداها (أمانٍ): ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ تحتاج إلى دليل وإثبات ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾!

ولذلك (هيهات! لا يُخدعُ الله في جنّته) والسؤال الذي تمّ طرحه في بداية الدعوة الإسلامية مايزال حيّاً قائماً: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة/ 214). ونظيره السؤال الآخر: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران/ 142). وعلى ذلك، فإنّ قول بعض الكتابيين: ﴿.. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً...﴾ (البقرة/ 80)، الذي هو من جنس احتكار الجنّة لمن كان هوداً أو نصارى، جاء ردُّ القرآن عليه صاعقاً: ﴿.. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/ 80). وكما صُحِّحت النظرة في (حيازة الجنّة) هناك لمن أسلم وجهه وهو محسن، صُحِّح المفهوم هنا في أنّ (النجاة من النار) لا تكون إلّا بإيمانٍ وعملٍ صالح، قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة/ 81). هذا هو شرط دخول الجنّة وذاك هو سبب دخول النار، ولا مكان لصكوك غفران لا في الإنجيل ولا في التوراة ولا في القرآن!

ومن جهةٍ أخرى، فنحن نؤيّد ما ذهب إليه المصلح (مارتن لوثر) الذي شنّ حرباً شعواء على مفاسد وخزعبلات وأباطيل الكنيسة، وكان من أولى وأكبر إشكالاته عليها هو تلك الصكوك العبثية التي تمثِّل ضحكاً على (العقول) لا (الذقون) فقط، والتي أدّت أو كانت سبباً مهماً من أسباب ظهور العلمانية الحديثة في أوربا. لقد كان (لوثر) وسائر المصلحين يرون أنّ (الإيمان) برحمة الله تعالى هو خير وسيلة لتخليص الروح من العقاب، وهو ما ينسجم والنظرة القرآنية لـ(الخلاص) و(الانعتاق) و(الفوز بالجنّة). وبالتالي، فالمسألة مسألة (إيمان) + (عمل صالح) لا مسألة أُمنيات وتخرُّصات وأوهام وأحلام: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ (المعارج/ 38).

إنّ مقولة هذا الكتاب أو فرضيّته التي نحاول إثباتها هي أنّ (الجنّة) ليست بـ(المجّان) وإنّما هي بـ(ثمن)، وأثمانها مختلفة بحسب درجاتها ومنازلها، وإنّها يُمكن أن تُحرز بعملٍ قليل مُخلص يُراد به وجه الله (مرضاته)، منطلقين في فاتحة التحرُّك للبحث من مقولة علويّة رائدة: «الفقيه كلّ الفقيه مَن لم يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤيِّسهم من روح الله ولطفه ورأفته، ولم يؤمنهم من مكر الله وعقابه»[1].


 

قولوا: (لا إله إلّا الله) تُفلحوا!

أوّل صرخة انطلقت من الحنجرة النبويّة الصادعة بالحقّ وبالصدق، هي الدعوة إلى النطق بشهادة التوحيد، لأنّ النبيّ6 أراد -بوحي من السماء- أن يضع حدّاً فاصلاً بين عهدين: (الجاهلية) الغارقة في عبادة الطاغوت (كلّ معبود من دون الله)، و(الإسلام) الذي هو عبادة خالصة لله الواحد الأحد الذي لا شريك له.

إنّ كلّ مَن نطق بالوحدانية لله، وشهد بها، وأعلنها، وأشهرها أمام النبيّ6 وعلى الملأ، فإنّه يحقن بها دمه، ويكون له ما للمسلمين من حقوق وما عليهم من واجبات، هي بحدّ ذاتها (عاصمة) و(منجية) ومحقِّقة لغرض (الفلاح) إذا لم يحدث ما يناقضها من كفر مستبطن (نفاق).

لكننا نلاحظ أنّ تلك المقولة لم تفقد بريقها ووهجها حتى بعد أن قوي الإسلام بل أخذت مداها العملي الأكمل، أي لم تكن شعاراً مرحلياً أُريد به إحداث نقلة نوعية في التفكير أو الذهنية الجاهلية المنغلقة على ما وجد الأبناءُ الآباءَ عليه فاتّبعوه، ولذلك وبعد ما يقرب من قرنين من الزمان نلاحظ أنّ الإمام علي بن موسى الرضا7 يقف في محطة من محطات سفره من (المدينة) إلى (خراسان) في مدينة يقال لها (نيسابور) بين حشد غفير من العلماء والمحدِّثين ليروي -بناءً على طلبهم- الرواية التي عُرفت في ما بعد بـ(سلسلة الذهب) كونها تبدأ منه راويةً عن آبائه وأجداده ومنتهية في سندها إلى النبيّ6 ومنه إلى جبرئيل7 وإلى الله جلّ جلاله، قال: «لا إله إلّا الله حصني ومَن دخل حصني أمن من عذابي»[2]! لكنه لم يطلقها هذه المرّة عارية مجرّدة، أو على اعتبار أنّها الكافية لـ(نطقها) فقط، بل كان لابدّ بعد أن قوي الإسلام وبسط جناحيه على أطراف المعمورة من معرفة (مصداقها) إلى جانب (منطوقها)، ولذلك أردف 7 بعد قليل بإشارة صريحة إلى أنّ (الإيمان) هو انتقالة من (خير القول) إلى (خير العمل): «بشرطها وشروطها وأنا من شروطها»! وهذا هو فحوى قول الحقّ سبحانه وتعالى في الردّ على الفهم الأعرابيّ السطحيّ للإيمان: ﴿قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات/ 14-15).

وهذا يعني أنّ تطوراً نوعياً في تجسيد مقولة (لا إله إلّا الله) في نسختها العملية قد حصل بعدما تفاعل التوحيد مع الوجدان وتلاقح مع الشعور وراح يبحث عن مسارات تطبيقية ترتقي به من مجرّد كلمة تُنطَق إلى عمل مُمَنهج ومُبَرمج يسير وفق مقولة استكمالية وليس جديدة وهي: «الإيمان: قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، ويقينٌ بالقلب»[3]، أو هو «ما وقر في القلب وصَدَّقه العمل»[4]، لكننا لا نعدم آثاراً كثيرة تؤكِّد على أنّ كلمة التوحيد بحدّ ذاتها عاصمة وأنّها سبب مهم من أسباب إبعاد الإنسان عن شبح النيران.

فعن (جابر بن عبدالله الأنصاري)، عن النبيّ6: «مَن مات يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، دخل الجنّة»[5] وهي -على فرض صحّة الرواية- شهادة مصدّقة بالعمل الصالح والاستقامة.

ولا يكون توحيد إلّا مع إيمان بنبوّة ومعاد. وعن الإمام الصادق7 في قول جبرئيل7 للنبيّ6: «يا محمّد طوبى (الجنّة) لمن قال من أُمّتك لا إله إلّا الله وحده مخلصاً»[6] ذلك أنّ شرط الإخلاص هو (المنجي) وليس شهادة التوحيد وحدها (لقد نطق أبو سفيان وابنه معاوية وحفيده يزيد بها لكنهم ماذا فعلوا بعد ذلك؟!) إذ ما يجدي أن تقول لا إله إلّا الله وأنت تحارب الله تعالى بالمعاصي وتضرب التوحيد بالصميم بارتكاب الجرائم والمفاسد وكلّ القبائح والشرور. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة/27)، نعم، هناك باب مفتوح على الدوام وعلى مصراعيه اسمه التوبة. يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه/ 82).

 

هل كان النبيّ6 يُوزّع صكوك الغفران؟!

في مواقف ثلاثة متقاربة -وبحدود اطّلاعنا المتواضع- يعد النبيّ6 بعض المسلمين الذين يطيعوه (وهم بإطاعتهم له إنّما يطيعون الله) بنخيل في الجنّة، والوعد بنخلة أو غيرها في الجنّة يعني ضماناً وبالضميمة أنّ صاحب النخلة الموعود بها هو في الجنّة أيضاً، إذ كيف يوعدُ بها وهو خارج الجنّة وماذا يستفيد منها إذا لم يدخل الجنّة؟! لنتأمّل المواقف الثلاثة لنرى هل هي (صكوك غفران) كما يعترض بعض المشوِّهين لصورته 6 في الأذهان، أم أنّ المسألة هنا تختلف عن المسألة هناك؟

الموقف الأوّل: عندما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ (الحديد/ 11)، يروي (القرطبي) في تفسيره أنّ أبا الدحداح أو أحد الصحابة (وقيل أبو طلحة الأنصاري) جاء وسأل النبيّ6: «فداك أبي وأُمّي يا رسول الله، إنّ الله يستقرضنا وهو غنيّ عن القرض؟ قال: «نعم، يريد أن يدخلكم الجنّة به»، قال: فإنّي إن أقرضت ربّي قرضاً يضمن لي ولصبيتي الدحداحة معي الجنّة؟ قال: «نعم»، قال: فناولني يدك (طريقة المبايعة وعقد الصفقة)، فناوله 6 يده، فقال: إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى»!

الموقف الثاني: في قصّة أو سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ (الليل/ 4-7). إنّ رجلاً كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء ودخل الدار فصعد النخلة ليأخذ منها التمر فربّما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ التمرة من فمهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتى يخرج التمرة من فيه. فشكا الرجل ذلك إلى النبيّ6، فلقي النبيّ6 صاحب النخلة، وقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان. لك بها نخلة في الجنّة؟ فرفض، فجاءه أحد الصحابة وقد سمع مقالة النبيّ6 لصاحب النخلة، فقال له: أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم. فذهب وساوم صاحبها عليها فاشتراها. ثمّ جاء النبيّ6 وقال له: إنّ النخلة قد صارت في مُلكي فهي لك، فأعطاها 6 لصاحب العيال، ونزلت الآيات من سورة الليل.

الموقف الثالث: في قصة (سمرة بن جندب) الذي كانت له نخلة في بيت أحد المسلمين، وكان يدخل البيت بدون استئذان ليقطف التمر من نخلته، فاشتكى صاحب الدار عدم استئذان سمرة، فاستدعى النبيّ6 سمرة وفاوضه على نخلته بأن يتنازل عنها له 6 وله نخلة في الجنّة فرفض، وساومه على عشرة فرفض، إلى أن أمر 6 صاحب الدار بقلعها ورميها إلى سمرة، كما لم ينلها صاحب النخلة المائلة، قائلاً: «لا ضرر ولا ضرار»[7].

النبيّ6 في المواقف الثلاثة لم يتصرّف تصرُّف الرهبان والقساوسة في القرون الوسطى بمنح قطع أراضٍ في الجنّة اعتباطاً أو بطريقة (وهب الأمير بما لا يملك)، ولم يكن مستفيداً استفادة شخصية من تبرُّعات المتبرِّعين، ولا هو يفعل ذلك من عنده، يقول تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (النجم/ 3-5)، ويقول عزّوجلّ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة/ 44-47). هذا والنبيّ مرخَّص من قِبَل الله تعالى وبإذنه أن يُشرِّع ضمن الخط العام للشريعة: ﴿.. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...﴾ (الأنفال/ 24). فهو من العدل والحكمة بحيث يضع الشيء في موضعه من غير (تحيُّز) لطرف ولا (إجحاف) بحقّ طرف، ولا أن يفعل فعلاً يخالف إرادة الله، معاذ الله.

في قضية أبي الدحداح أو أبي طلحة لم يفعل النبيّ6 أكثر من أن يطبِّق الوحي وأن يعد بما وعد الله تعالى به عباده المحسنين، خاصّةً وأنّ إقراض الله يستوجب في مقابلة العطاء أضعافاً مضاعفة يمكن أن تنال أبا الدحداح نفسه وصبيته معه أيضاً.

وفي قصّة التعويض عن النخلة المائلة، فإنّ مشتريها ليهبها إلى النبيّ6 إنما أطعم بها صبية فقراء لوجه الله، وحينما يُراد وجه الله في عمل فالله سبحانه يُثيب صاحبه بنفس الثواب.

وفي مشكلة سمرة أراد 6 أن ينقذ عائلة الأنصاري من تجاوزات سمرة وطوافه المستمر على نخلته من غير استئذان، وليجعل تلك العائلة هي المالكة لها والمتمتِّعة بنتاجها أو تمرها، فهو في المواقف الثلاثة كان يتصرّف وفق الخط القرآني العام لم يشذّ ولم يتعدّ أبداً. والمواقف كلّها تصب في المجرى العام لبحثنا في أنّ (الجنّة) قد تُشترى أو تُكتسب أو تُحرز وتُضمَن بعمل بسيط من حيث الظاهر، لكنه عند الله كبير من حيث الدافع والنيّة والمقصد. ولذلك، فأيّما موقف مماثل للمواقف الثلاثة يتبرّع فيه النبيّ6 لمسلم أو مؤمن بمقعد في الجنّة، هو في سياق ما ذهبنا إليه من تحليل أو رؤية. فلقد خدم النبيّ أحد المسلمين عشر سنين فأراد أن يكافأه، فسأله أن يطلب ما يشاء من مكافأة نظير خدمته له، فطلب الخادم منه 6 أن يُمهله ليفكِّر، ثمّ عاد إليه في اليوم التالي ليقول له: إذا كان يوم القيامة ودخلت الجنّة ادخلني معك. فأطرق 6 (وحيثما يُطرِق، كما في تتبُّعنا لروايات إطراقه، فإنّه يستدعي أو ينتظر الجواب من السماء، فلا يبتّ في أمر كهذا ليس له فيه إذن إلّا بعد أن يستأذن، وفي إطراقته تلك يُوحى إليه أو يُلقى في روعه الجواب). وأجابه بالإيجاب شارطاً عليه أن يكثر السجود (أي الصلاة بتعبير الجزء عن الكلّ، أو إطالة السجود في الشكر وتذكُّر النعمة، حيث يكون الإنسان أقرب ما يكون إلى ربّه في سجوده).

وكيف يستكثر بعضهم على النبيّ6 أن يعد بعض المحسنين بنخلة أو عدّة نخلات في الجنّة، وهو الذي يعرف أكثر من غيره صفات أهل الجنّة، ولذلك حازها (أبو طلحة) أو (أبو الدحداح) ولم ينلها (سمرة) كما لم يحظَ بها صاحب النخلة المائلة!! والنبيّ يعلم أكثر من غيره أنّ كرم الله أوسع من أن يُحدّ، وإنّ رحمته بالمحسنين أشدُّ من رحمة الأُمّ بابنها، وإنّه يعطي الكثير بالقليل ويقبل اليسير الحسن الصالح، وهل يقل عملٌ يُتقبل؟!،. وكيف نستغرب عليه وعداً كهذا وأخوه موسى7 قد مرّ به موقف استدعى أن يعد امرأة عجوزاً أن تكون معه في الجنّة.

تقول الرواية -على فرض صحّتها- أنّه 7 أراد نقل رفات يوسف7 من (مصر) إلى (بيت المقدس) عندما أمره الله تعالى بأن يتّجه إلى هناك، ولم يكن يعلم قبره، فسأل عنه فأُخبر إنّ امرأة عجوز تعرفه على وجه التحديد، فطلبها وسألها، فقالت: لا أُجيبك حتى تضمن لي، فقال لها: أضمن لكِ ماذا؟ قالت: أن أكون رفيقتك أو جارتك أو معك في الجنّة، فشرط لها ذلك بإذن الله (ترخيصه). وبهذه القصّة استشهد النبيّ6 حينما أراد مكافأة أعرابي، طلب منه مئة جمل، فقال 6: «لو كان طلب ما طلبت عجوز بني إسرائيل»، ثمّ قصّ القصّة.

وكيف نستكثر ونستنكر ذلك وهو 6 يقول في حديث تتناقله الروايات في المكافأة والإثابة على إعالة وكفالة اليتيم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين -وجمع بين السبابة والوسطى من أصابعه المتقاربة- في الجنّة»[8]، إنّه 6 لا يعد بما لا يستطيع، ولا يهب ما لا يملك، وإنما يعد بما يعلم أنّ الله تعالى يفي للموعودين بما وعدهم به حقاً.

 

مثقال ذرّة:

جاء أعرابي إلى النبيّ6 وسأله أن يُعلِّمه شيئاً من القرآن (ما تيسّر)، فقرأ 6 عليه الآيات من سورة (الزلزلة) حتى إذا انتهى منها في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7-8). لم يطلب الأعرابي المزيد، بل قال: كفى!! وذهب.

التفت النبي6 إلى أصحابه قائلاً: «ذهب الرجل -وفي رواية الإعرابي- وهو فقيه»[9].

الأعرابيُّ كان ذكيّاً لمّاحاً، التقط الإشارة بسرعة البرق، فلقد اختصر فهمه للدين ولتعاليم القرآن من خلال إنّ العمل مثقال ذرّة خيراً كان العمل أم شرّاً يستحق الإثابة أو العقوبة. وتلك هي خلاصة الدين في أقصر التعبيرات وأشدّها اختزالاً له، ثمّ أنّ كلمة (كفى) التي أطلقها قبل أن يمضي ترمز إلى كفايته من النبع القرآني بهذه (الشُربة) أو (النهلة) أو (الرشفة) التي سترويه العمر كلّه.

النبيّ6 من جانبه كان حكيماً ودقيقاً وصائباً في اختياره، وكأنّه 6 وهو يتلو على مسامع الأعرابي آخر آيتين من الزلزلة، كان يتمنّى في داخله أن تصل رسالته إليه، وقد وصلت، ولذلك عبَّر تعبيراً غاية في التقدير لوعي الأعرابي وذكائه وسرعة فطنته، فوصفه بـ(الفقيه)، والفقيه حيثما يرد في تعبيرات الروايات يُراد به (المثقّف في اصطلاحات اليوم)، ومعنى أنّ الله إذا أحبّ عبداً فقَّهه في الدين، هو أن يكون على جانب من الثقافة التي تُعينه في فهم دينه فهماً صحيحاً ينال به حبّ الله ورضاه، ويُمارس حياته على ضوء وحيه وهُداه.

والسؤال هنا: كم هو مثقال الذرّة؟

(مثقال) يعني (وزن) أو (زِنة)، و(الذرّة) هي تعبير عن أصغر شيء في ميزان التقدير، قيل هي (الهباءة)، وهي الفتافت الصغيرة التي نراها من فوهة مفتاح الباب في نهار مشمس، وقيل أصغر من ذلك، حيث تشير اكتشافات العلم أنّها شيء لا يُرى إلّا بأدقّ المجاهر وبجهد كبير، وقيل هو (نمل النار الأحمر)، وربّما أريد حبّات شرره المتطايرة، وقالوا: زنة نملة صغيرة أو أصغر النمل. والذرّة -علمياً- هي الوحدة الأساسية لبناء المادة، وهي بالغة الصغر حيث تصل أو لا تتعدّى الواحد على المليون من الشعرة. وعبّر (قاموس المعاني) عن (مثقال الذرّة) بأنّه قدرٌ تافه، أي صغير جدّاً ومتناهٍ في الصغر. وذُكِر أنّه يساوي وزن أصغر نملة أو هباءة، ومثله مثل (مثقال حبّة) الذي يُراد به وزن أقل شيء.

لكننا نميل إلى اعتبارها كناية عن أصغر صغير يمكن أن يعبَّر عنه، والله تعالى حينما يتحدّث عن الأوزان لا يسوقها على النحو الذي نتعامل فيه بأسواقنا، حيث يتبادر إلى الذهن عند سماعنا (مثقال) أنّه يساوي مثقال الذهب أو الفضّة، بل ربما يُريد تقريب المعنى وحضور صورته في الذهن، ولذلك فقد يكون (مثقال الذرّة) أصغر من كلّ ما قيل عنها خاصّةً وأنّنا نرى ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الرُّوم/ 7).

وعلى فرض أنّ مثقال الذرّة هو الصغير المتناهي في الصغر، فإنّنا وعلى طريقة الأعرابي نقول: (حسبنا ذلك ويكفينا) طالما أنّ مثقال العمل الصالح تترتّب عليه نتيجة خيِّرة لم يُفصح النصّ عن ماهيتها.. وعندما يترك النصُّ المقدّس مكافأة بدون تقدير، فإنّه يفتح مجال التصوُّر على مصراعيه لمشارفة أو مشاوفة مداها.

وربما على هدي هذه الآية نسج الحديث الشريف بيانه: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً»[10]! والآخر الذي يقول: «لا تستصغرنّ حسنةً تعملها فإنّك تراها حيث تسرُّك، ولا تستصغرنّ سيِّئة تعمل بها فإنّك تراها حيث تسوءك»[11].

فمن الآن وصاعداً يتعيّن علينا أن لا نقول بإزدراء: ما قيمةُ هذا العمل أو الشأن الصغير، نحن بحاجة إلى ما هو أكبر منه لنتقرّب به إلى الله؟! بل يتوجّب القول: هات أي عمل -لله فيه رضا- مهما بدا ضئيلاً لأعمله، فقد تكون فيه (نجاتي)!!

وإذا أردنا أن نُترجم كلمة (مثقال ذرّة) في قاموس الحياة، رأيناها تُقابل أو تُقارب الأمور أو الأعمال الآتية: النبضة المحبة، والخفقة العطوفة، واللمسة الحانية، واللفتة الكريمة، والكلمة الطيبة، والهمسة الهادية، والإشارة الموحية، أدنى ممارسة، أصغر عمل، أقلّ عطاء.

وإذا حاولنا جُهدَنا أن نُقرِّب (مثقال الذرّة) من دلالتها القرآنية، نقول: إنّ عين الله تعالى[12] ليست كأعيننا، فأعيننا الصحيحة السالمة تكاد تتقارب في تقديرها للشيء الصغير، لكنّ عين الله لا ترى (الصغير) صغيراً، بل تافهاً حقيراً إلّا إذا ابتعد عن الله -مهما كان كبيراً في حجمه وآثاره- ولا ترى (الكبير) كبيراً إلّا بمقدار قربه من الله -مهما كان صغيراً في حجمه وآثاره-.

نعم، الكبيرُ في حجمه وأثره والمراد به رضا الله تعالى ونفع الناس هو خيرُ الخير ونورُ النور وأبرك الأمور.

لننتقل من (المفهوم) إلى (المصداق)، ومن (الفكرة) إلى (التطبيق)، ومن (المنطوق) إلى (النموذج):

1- (الخاتم) الذي كان في إصبع الإمام عليّ7 الذي تَصدَّق به على الفقير وهو راكع في صلاته (أشار إليه بطريقة ما أن خُذه) لم يكن خاتماً ذهبياً أو فضّياً أو ماسّياً[13]، ربّما كان من معدن رخيص لأنّه 7 ما عُرِف عنه اقتناء الزينة الغالية، أو قد يكون مما حصل عليه في عطائه من الغنائم بحيث إذا باعه الفقير انتفع بثمنه، لكنّنا نُرجِّح أنّه من معدن عاديّ لمعرفتنا من سياق لباس الإمام 7 وزينته وزُهده أنّه لم يقتنِ الفاخر، ومع ذلك فإنّ هذا الخاتم الرخيص ثمناً، أو القليل قيمةً في سعر السوق، أصبح له ثمناً غالياً منذ أن خَلّده القرآن في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة/ 55).

2- (أقراص خبز الشعير) التي تبرّع بها الإمام عليّ7 والسيِّدة فاطمة الزهراء3 في ليالٍ ثلاثٍ متوالية -كانوا صائمين في نهاراتها- حيث طرق باب بيتهم فيها على التناوب: (مسكين) و(يتيم) و(أسير)، فدفعوه كلّه إليهم واكتفوا بالإفطار على الماء، كما جاء في الرواية :.

إفطار بسيط (خشن بحسب التعبيرات التاريخية) يتحوّل من أقراص خبز شعير عادية كأيّة أقراص أو أرغفة يصنعها الناس من طحينهم إلى ذكرى قرآنية خالدة تُمجِّد (العطاء) و(المعطي) غير ناظرة إلى قيمة أو سعر الخبز في السوق يومذاك ولا بارتفاع أسعاره فيما بعد!!

إنّها، وهذا هو بيت القصيد، ترسم لنا معنى (مثقال الذرّة) بالنموذج والمثال، ثمّ تبيّن لنا ما معنى ﴿خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7)، تمعّنوا في النصّ جيِّداً:

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإنسان/ 8-22).

في هذا المقطع من البحث عن صحّة فرضية الكتاب (تأشيرة دخول إلى الجنّة) نكون قد دخلنا في صُلب ما نريد إضاءته والتركيز عليه، ولولا خشية الإطالة على القارئ الكريم لاستغرقنا في المقارنة بين (العمل الصغير) و(الجزاء الكبير) في سورة (الإنسان)، لكنّ لنا في فطنته كفاية، غير أنّ ما نُريد التأكيد عليه هو قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ مَن تحمّل الجوع لوقت قصير -مهما بدا ثقيلاً- (جنّةً) الأمر الذي يقارب ما نريد أن نوصل رسالته إلى القارئ أنّ ثمن الجنّة ليس باهضاً لكنّه مشروط بشروط ممكنة وإن بدت صعبة لجهة صدق الإخلاص في العمل.

 

رحمة الله تعالى:

تأشيرة الدخول إلى الجنّة تحتاج إلى فهم عدد من المقدّمات المفضية إلى بوابات الجنّة، وأوسع مدخل إلى تلك البوابات هو (رحمة الله) التي وسعت كلّ شيء.. فلنتأملها بشيء من الرويّة.

من خصائص رحمة الله تعالى، الآتي:

1- أنّها مكتوبة على الله (جلّ جلاله).. هو كتبها (فرضها) على نفسه ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام/ 54).

2- أنّها صفة من صفاته العليّة (ذو الرحمة) ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ (الأنعام/ 133).

3- أنّها واسعة تسع كلّ شيء، بما في ذلك ذنوب المذنبين، وسيِّئات السيِّئين وتوبات التائبين، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَي﴾ (الأعراف/ 156). هذا في المفهوم، أمّا في المصداق، يقول عزّوجلّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزُّمر/ 53).

4- رحمته (كثيرة) لا تنفد، يُعبِّر عنها تارةً بـ(الرحمان)، والرحمان في اللغة العربية صيغة مبالغة (فعلان) تدل على الكثرة. تقول الرحمة المهداة إلى العالمين النبيّ محمّد6: «إنّ الله تعالى خلق مئة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كلُّ رحمة منها طباق (تساوي) ما بين السماء والأرض، فأهبط منها رحمة إلى الأرض منها تراحم الخَلق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء، وبها تعيش الخلائق (بشراً وحيوانات ونباتات)»[14]. تأمّل -على فرض صحّة الرواية- أنّنا منذ أن خلق الله السماوات والأرض وخلق آدم7 وإلى اليوم وإلى يوم القيامة نعتاش على (رحمة) واحدة التي من مصاديقها (رحمة الأُمّ بولدها)، و(الطير بفراخه)، والتراحم الخلقيّ على تنوُّعه وتعدّده وتلاحق أجياله. المدّخر من رحمته تعالى (99) وإلى أي يوم؟ إلى يوم (الفقر) و(الفاقة) و(الحاجة) الماسّة، والتطلُّع إلى ما في يد الله بعد أن يسقط ما في يديّ الإنسان.

5- ويُعبَّر عن دوام رحمته -جلّ جلاله- بـ: (الرحيم)، والرحيم أيضاً صفة مبالغة (فعيل) تعني الدوام والاستمرارية، ولو كانت كثرة رحمانية من غير ديمومة رحيمية لانتقصت الرحمة (تعالى الله عن كلّ نقص).

6- هي (رحمة) سابقة على (الغضب) ومتقدِّمة وراجحة عليه، وفي الدعاء: «يا مَن سبقت رحمته غضبه»، فهي (سابقة) لأنّها (مكتوبة) منه على نفسه، ولذلك تمّت صدقاً وعدلاً -كما يقول الإمام الباقر7-. ومن دلائل ذلك، (حِلمُه) تعالى و(إمهاله) الظالمين أنفسهم وغيرهم و(عدم تعجيل العقوبة).

7- لا يُقاس الله تعالى ولا يُقارَن بغيره ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى/ 11)، وإذا قارن تعالى بينه وبين غيره فللتدليل على أنّ عظمته لا تُطال ولا تُطاوَل. في الرحمة الإلهية نقرأ (أرحم الراحمين) و(خير الراحمين) والتفضيل هنا ليس تفضيلَ مقارنة جزئياً، بل هو كلِّي مطلق، وهو كقولنا: (أعظم العظماء) و(أشرف الشرفاء)، وهو في منتهى الرحمة بحيث لا تُعلى على رحمته رحمة، وروي عن النبيّ6 أنّه قال لصحابته عندما رأى أُمّاً فرغ صبرها في البحث عن ولدها فلمّا التقفته لصقته ببطنها: «أترون هذه المرأة ملقية ولدها في النار»؟ قالوا: بلى، وهي تقدر على أن لا تفعل، فقال 6: «إنّ رحمة الله بكم أوسع من رحمة هذه بابنها»!! والدليل أنّ رحمة الله هي (أسّ الرحمات) و(منبع الرحمات) و(أُمّ الرحمات) كلّها، وما رحمة الأُمّ -كما مرّ- إلّا رشحة من رشحات رحمته اللّامتناهية.

أنعجب بعد ذلك عندما نسمع أنّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين7 لمّا قيل له إنّ الحسن البصري قال: ليس العجبُ ممّن هلك كيف هلك (يعني دخل النار)، وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا (أي دخل الجنّة)؟! قال: «أنا أقول: ليس العجبُ ممّن نجا كيف نجا، وأمّا العجبُ ممّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله»[15]؟! وعجبُ زين العابدين7 أدعا للعرفان من عجب الحسن البصري، لأنّ (عرفان) الإمام بالله وبخصائص رحمته أعمق من رؤية البصري، كما دلّ تعليقه.

هذا في (خصائص الرحمة).. أمّا في (موجباتها)، فالمستحقّون للرحمة الإلهية هم (المتراحمون) أوّلاً وقبل كلّ شيء، أي إنّ «ببذل الرحمة تُستنزَل الرحمة»[16]، كما يقول الإمام عليّ7، و«أبلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تُظهر لجميع الناس الرحمة»[17]. ومن موجباتها (الدعاء عند الاضطرار والتوجُّه الخالص)، و(المناجات)، و(حُسن المراجعة)، و(التقييم الذاتي)، و(الصبر): ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة/ 155-157)، و(الإحسان) إلى الناس: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف/ 56).

 

عدلُ الله تعالى:

قَدّمنا (الرحمة) على (العدل) لأنّنا نطمع -ليس في كتابنا هذا فقط، بل في كلّ دعواتنا ورجائنا وتطلُّعاتنا- أن يعاملنا سبحانه وتعالى بـ(فضله) و(لطفه) و(رحمته).

ما هي خصائص العدل الإلهي في جانب الجزاء (الثواب والعقاب)؟

1- من عدله (تعالى) ارتباط (العمل) ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ بـ(الجزاء): ﴿خَيْرًا يَرَهُ﴾ وهذا عامل من عوامل الاندفاع نحو عمل الخير أو العمل الصالح.

2- من عدله (سبحانه) لطفه في (الثواب) و(العقاب) لأنّ الرغبة في الأوّل تُقرِّب من الطاعة، والخوف من الثاني تبعِّد عن المعصية. يقول الإمام عليّ7: «إنّ الله سبحانه وضع الثواب على طاعته والعقاب على معصيته، ذيادة[18] لعباده عن نقمته، وحياشةً[19] لهم إلى جنّته»[20].

3- من عدله (جلّ جلاله) أنّه (صادق) إذا (وعد) وفى، وإذا (تَوعَّد) وقع وعيده، لكنّ (لطف) الله تعالى و(كماله) و(رحمته) تجعل من تحقيق الوعد وفاءً، ومن عدم تنفيذ الوعيد (تحنُّناً) و(تكرُّماً)، ولذلك خلصت الدراسات العقيدية إلى أنّ وعد الله (حقّ) أي ناجز ومُحقَّق ونافذ ومفعول، وعدم الوفاء به قبيح.. أمّا (وعيده)، فهو في الخيار إن شاء (عاقب وعَذّب)، وإن شاء (عفا وصفح)[21]. في الدعاء: «اللّهمّ إنِّي فقير إلى رحمتك وأنت غنيٌّ عن عذابي».

4- ومن عدله (تبارك وتعالى) أنّه لا يجازي (العمل) أو (التكليف) أو (المسؤولية) بنفس القيمة والمنفعة، بل يُزيد ويُضاعف عليها تفضُّلاً منه وإحساناً: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى (الجنّة) وَزِيَادَةٌ﴾ (يونس/ 26).

5- من عدله (جلّ وعلا) أنّه يغفر صغائر الذنوب (اللمم)، ومَن خلط عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، غفر الله له سيِّئاته، بل حتى لو كانت ذنوبه من الكبائر، إذا تاب عنها قبل موته بما في ذلك (الشِّرك)، فإنّ الله تعالى يتوب عليه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ (النساء/ 48)، مُقيَّد بالموت على الشِّرك، فالذي يموت وهو مشرك لن يغفر الله له.. أمّا الذي كان مشركاً وتاب، فإنّ الله تعالى يغفر له ولا يحاسبه على سابق شركه، وإلّا كان عَذَّب كلّ المسلمين الذين كانوا مشركين في الجاهلية.

6- ومن عدله، وهو أحكم الحاكمين، أنّه يقبل (القليل) و(اليسير) من العمل، ويعفو عن (الكثير) من الذنوب، وهذه هي فحوى كتابنا هذا الذي تقوم مقولته أو رسالته على (قبول) القليل المخلص، و(مقابلته) بالكثير المجزي. في الدعاء: «اللّهمّ يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفوا عني الكثير، إنّك أنتَ الرحيم الغفور»! ويحدونا الرجاء ونحن نُردِّد مع الإمام عليّ7: «اللّهمّ احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك»[22]، أن يحملنا سبحانه على عفوه ولا يحملنا على عدله.

 

عفوُ الله تعالى وصفحه:

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ (النساء/ 43)، العفوّ الكثير العفو، الغفور الكثير المغفرة، وكلمة (كثير) في تعبيراتنا (قصيرة) و(مقصّرة) قد يفهم بها كثير الدنيا، ولكن رحمة الله وعفوه وغفرانه من الكثرة اللّامتناهية وليس من الكثرة المتناهية، لكثرتنا حدود وليس لكثرته حدود. ولهذا نفهم لماذا أجاب 6 زوجته عائشة لمّا سألته عن الدعاء في ليلة القدر، تقولين: «اللّهمَّ إنّك تحبّ العفوَ فاعفُ عنِّي»[23]. هذا العفو الذي كان إذا فَكّر فيه الإمام عليّ7 قال في مناجاته: «إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليتي»[24]، لكنه يحسم القلق الدائر في مناجاة أخرى بقوله: «إلهي جودُك بسط أملي، وعفوك أفضل من عملي، إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتُك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتُك بمغفرتك، فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك»[25].

قال أعرابيّ: «يا رسول الله، مَن يحاسب الخلق يوم القيامة؟ قال: الله عزّوجلّ. قال: نجونا وربُّ الكعبة! قال: وكيف ذاك يا أعرابي! قال: لأنّ الكريم إذا قدر عفا»[26]. بعيداً عن الفلسفة والاستغراق في معميّات العقيدة، والتنظيرات المعقّدة، استلّ هذا الأعرابي فهمه لعفو الله وصفحه وغفرانه لعباده من أخلاقية عربية تنتسب إلى المروءة، والدين في عمقه مروءة، فاعتبر في استدلال منطقيّ رائع أنّ من شيم الكريم أن يعفو عند المقدرة، وحينما يقف الناس بين يدي الله لا مهرب لهم منه إلّا إليه، ويكون الحكم له وكلمة الفصل بيده، لا يبلغ طمع الناس بكرمه كما في ذلك اليوم الذي تتجلّى فيه قدرته بأجلى صُوَرها ومعانيها، فكيف يكون كريمٌ بأعلى وأقصى درجات الكرم، ولا يكون (عفوّاً) (غفوراً)؟!

إنّ الموجب لعفوه سبحانه وتعالى عفونا بعضنا عن بعض. يقول الإمام الصادق7: «اعفُ عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك»[27]. وكان مما رآه النبيّ6 ليلة الإسراء والمعراج المشهد الآتي: «رأيتُ ليلةَ أُسريَ بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنّة، فقلت: يا جبريل، لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين»[28].

مرّة أخرى: أُنظر إلى (الشرط) ولا تكتفي بالنظر إلى (الجزاء). وتعليق عفو الله تعالى على عفو الناس بعضهم لبعض هو مقدّمة لعفوه تعالى عنهم لأنّه أولى بالكرم والعفو منهم، ولذلك كان من بين الذين يدخلون الجنّة بغير حساب هم العافون عن الناس. فعنه 6: «إذا أوقف العباد (أي للحساب) نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة. قيل: مَن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس»[29].

ومن رائع وبديع لفتات الإمام زين العابدين7 هذه المقابلة بين (عفونا) كبشر وبين (عفوه) تعالى كربّ وكإله. يقول ضارعاً بين يدي الله في ختام دعائه المروي عنه والمسمّى بـ(دعاء أبي حزة الثمالي): «اللّهمّ إنّك أنزلتَ في كتابك أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا فإنّك أولى بذلك منّا، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد جئتك سائلاً فلا تردّني إلّا بقضاء حاجتي، وأمرتنا بالإحسان إلى ما ملكت أيماننا ونحن أرقّاؤك فاعتق رقابنا من النار، يا مفزعي عند كربتي ويا غوثي عند شدّتي إليك فزعت، وبك استغثت، ولذتُ لا ألوذ بسواك ولا أطلب الفرج إلّا منك فأغثني وفرِّج عنِّي يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير إنّك أنت الرحيم الغفور»[30].

إنّه احتجاج (العبد) بحجّة (إلهيّة)، فـ(العفو عمّن ظلم) و(عدم ردّ السائل عن الباب) و(الإحسان إلى ما ملكت اليمين) الله تعالى أولى بها من الإنسان الذي يأتيه (ظالماً) يقف على بابه مستعطياً مسترحماً ذليلاً فقيراً، رقبته بيد مالكها لا ينقذها إلّا عفوه.. الاحتجاج بعفو الله -كما هو الاحتجاج برحمته- من أقوى الاحتجاجات التي نواجه بها المصير. يقول زين العابدين7 في بعض احتجاجاته: «أنت إلهي أوسعُ فضلاً، وأعظمُ حلماً من أن تقايسني بفعلي وخطيئتي، فالعفو، العفو، العفو، سيِّدي، سيِّدي، سيِّدي»[31].

ويحتج 7 بكرم الله، كما يحتج بعفوه، فيقول: «فإن عفوتَ يا ربّ فطالما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أيْ ربّ يجلّ عن مكافأة المقصِّرين، وأنا عائذ بفضلك هاربٌ منك إليك، متنجِّزٌ ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظنّاً، إلهي أنت أوسع فضلاً وأعظمُ حلماً من أن تقايسني بعملي أو أن تستزلّني بخطيئتي، وما أنا يا سيِّدي وما خطري هبني بفضلك سيِّدي وتَصدَّق عليَّ بعفوك وجلِّلني بسترك واعفُ عن توبيخي بكرم وجهك»[32].

ويحتجُّ 7 بالرجاء والمعرفة بكمال الله وسعة رحمته، فيقول: «فَوَعزّتك لو انتهرتني ما برحتُ من بابك ولا كففتُ عن تملُّقك لما أُلهم قلبي من المعرفة بكرمك وسعة رحمتك. إلى مَن يذهب العبد إلّا إلى مولاه، وإلى مَن يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه. إلهي لو قرنتني بالأصفاد (القيود) ومنعتني سيبك (كرمك) من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحُلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك»[33].

قارن هذا المقطع مع المقطع المساوي له في درجة العرفان والحب والرجاء في (دعاء كميل) الذي هو دعاء الخضر7 الذي عَلّمه الإمام عليّ7 لأخصّ أصحابه (كميل بن زياد): «فبعزّتك يا سيِّدي ومولاي أُقسمُ صادقاً، لئن تركتني ناطقاً لأضجّنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك أين كنت يا وليَّ المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين، أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سُجِنَ فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وحُبِسَ بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضجُّ إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسّلُ إليك بربوبيتك، يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك..»[34].

 

الاستدلال بعفو وصفح النبيّ6 وآله::

استكمالاً للاحتجاج بعفو الله تعالى وكرمه وسعة رحمته وغناه عن عذابنا وحاجتنا إلى لطفه ومغفرته، نتساءل محتجين (الاحتجاج من أساليب التلطُّف في الدعاء ومخاطبة الله عزّوجلّ).. فهو ليس احتجاج (المواطن) على (السلطة)، وإنّما الاستعانة بالدليل العقلي أو النقلي في أنّنا الفقراء إلى الله وهو الغنيُّ الحميد. فعندما يعفو النبيّ6 عن (وحشي) قاتل حمزة2 الذي ترك مقتله ثلمة كبيرة في قلبه ونفسه، وعن اليهودية التي سمّته، وعن قريش التي آذته وعذَّبته وناصبته العداء، فيقول لهم في فتح مكّة: «ما تروني صانعاً بكم» قالوا: كريم وابن أخ كريم! قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»! فإنّنا حينما نتّجه بأبصارنا إلى عفو ورحمة الله تعالى وكرمه، وهو واقف للحكم والفصل بيننا، وعلى وجه الافتراض يسألنا: ماذا أنا صانعٌ بكم؟ ونجيبه: أنت الربُّ الكريم الذي ليس كمثله كريم. أما نتوقع (لا من باب التمنّيات الفارغة غير المستندة على علم أو يقين) أن يأتينا جوابه: إذهبوا فأنتم الطلقاء؟ من أين تَعلَّم النبيّ6 صاحب الخُلق العظيم خُلق العفو والصفح والتسامح؟ أليس أخذه عن مربّيه الله سبحانه وتعالى؟ أيعقل أن تكون الرحمة المهداة للعالمين، وهي فيضٌ من رحمة الله، أوسع عفواً من الرحمن، الرحيم، وذي الرحمة، وأرحم الراحمين، وخير الراحمين، والذي كتب على نفسه الرحمة؟!، وما ذاك الأمن رجائنا العظيم وحُسن ظنّنا بالله الرحمن الرحيم.

هذا على صعيد العفو والمغفرة، أمّا على صعيد مقابلة العطاء بأكثر منه أو بأضعاف مضاعفة، فإنّنا لا نستغرب ولا نستكثر أن يضاعف الله العطاء لعبده على عمل صالح عمله فيوصل ثوابه إلى درجة أن يهبه الجنّة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (يونس/26).

في بعض الأدعية الرمضانية: «اللّهمّ أنّ لك حقوقاً فتَصدَّق بها عليَّ وللناس قبلي تبعات فتحمّلها عنّي، وقد أوجبت لكلّ ضيف قِرى[35] وأنا ضيفك فاجعل قرايَ الجنّة يا وهّاب الجنّة يا وهّاب المغفرة»[36].

 

(الزحزحة) و(الإبعاد):

يقول تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ (آل عمران/ 185).

وقال عزّوجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء/ 101).

الزحزحة: الإبعاد، وأصلها تكرار الجذب بعجلة.

ويقال -كما في مجمع البيان للطبرسي- لكلّ مَن نجا من هلكة، ولقي ما يُغبط (يُسعد) به فقد فاز.

في الآيتين حديث القرآن عن الدفع والتنحية والإبعاد عن النار والجذب العاجل منها، ولذلك فإنّ كلّ ما سبق من إشارات وإثارات وبشارات في ثنايا الكتاب الذي بين يديك يوحي بالنتائج الطيِّبة الحاسمة باعتبار الفوز كلّ الفوز هو ابتعاد الإنسان عن النار والدخول إلى الجنّة. وفي كلّ الوعود التي تحدّثت عنها الآيات والروايات، بل وضمنت بعضها الجنّة، فإنّ كلّ مَن (عمل مثقال ذرّةٍ) من إحسان، أو عمل صالح، أو عمل مخلص أراد به وجه الله (رضاه) يكون ممّن (سبقت له من الله الحسنى) وهو من المبعدين من النار، المزحزحين عنها، وهو ممّن فاز.

يقول المفسِّرون على هامش الآية الثانية، متحدِّثين عمّن سبقت لهم من الله الحسنى: «هم الذين وعدهم الله بالمغفرة، وبشَّرهم بالنجاة في الآخرة»، وإنّما أُبعدوا عن النار لبُعد أعمالهم عن صفة الناريّة، أي إنّهم لم يكونوا ممّن يُشعلون الحرائق في الدنيا، ولا ممّن يلقون الزيت والحطب عليها، ولا ممّن يجمعون شرارة من هنا وشرارة من هناك ليجمعوا بهما ناراً حارقة، بل كانوا ممّن وصفوا بأنّهم (الشرُّ منهم مأمون)، وكان الناس منهم في أمان، بل كانوا من إطفائيّ الحرائق، يسعون إلى إطفاء كلّ حريق يُراد له أن يأتي على أُسرة آمنة مطمئنة، أو صداقة مستقرة بين صديقين، أو علاقة مستتبة بين فريقين، وكما قال الإمام عليّ7 فإنّ «الجنّة دار أمان»، ولا يأوي إلى تلك الدار إلّا مَن أمِنَ الناس من شرّه (اليدوي) أو (اللساني). ولذلك تختم الآية الثانية (آية الإبعاد) بكلّ ما يدعو إلى الأمن والاطمئنان جزاءً بجزاء: ﴿لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾، ﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾، ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ﴾، ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ باللُّطف والبُشرى ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (الأنبياء/ 102-103).

 

من شروط الدخول إلى الجنّة:

عندما وصف الإمام عليّ7 الجنّة بأنّها (دار الأمان)[37]، فإنّه أراد أن يضعنا أمام شرطها الأساس وهو أنّها (مأوى) الذين كانوا يشيعون الأمن والأمان في الحياة الدنيا، فضلاً عن أنّها (ملاذ) من شرور الدنيا وأضرارها وأخطارها ومنغِّصاتها. ولذلك فإنّ كلّ مَن يُبعِد شرّه ويكف أذاه عن الناس هو من (المرشَّحين) و(المؤهَّلين) للحصول على تأشيرة الدخول إلى الجنّة. وليس اعتباطاً أن يصف الإمام علي بن موسى الرضا7 المؤمن بصفتين متلازمتين: (الخيرُ منه مأمول) و(الشرُّ منه مأمون)، وهل تصلح الجنّةُ دار أمانٍ إلّا لهؤلاء؟!

أمّا سؤال: كيف يُتاح لي أن أحصل على تأشيرة الدخول إلى الجنّة؟ فسنجد جوابه في ما ورد عن الله سبحانه وتعالى في القرآن وعن النبيّ6 وأهل بيته في سيرتهم:.

1- قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء/ 19). وفي الخبر عن رسول الله6: «مَن اشتاق إلى الجنّة سارع في الخيرات»[38]. وعن الإمام عليّ7: «لن يفوز بالجنّة إلّا الساعي لها»[39]. فالشرط الأوّل هو (المسارعة في عمل الخير).

2- وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة/ 111). وورد عن الإمام عليّ7: «مَن باع نفسه بغير نعيم الجنّة فقد ظلمها»[40]. وهذا هو الشرط الثاني، وهو تسخير الذات والمواهب في خط رضا الله تعالى وخدمة الناس.

3- ويقول جلّ جلاله: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ (الرّحمن/ 60).

جاء في تفسير ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾: هل جزاء (التوحيد) إلّا (الجنّة)؟! حيث رُوِي عن النبيّ6في معنى الآية: «ما جزاء مَن أنعم الله عزّوجلّ عليه بالتوحيد إلّا الجنّة»[41]. وعن الإمام جعفر الصادق7: «قول لا إله إلّا الله ثمن الجنّة»[42]. وهذه الأحاديث مستوحاة من حيث المضمون من حديث السلسلة الذهبية (الحديث القدسيّ) الذي مرّ بنا في أوّل الكتاب «لا إله إلّا الله حصني فمن دخله أمن من عذابي».

4- ومن شروطها (حُسن الخُلق)، في الخبر عن رسول الله6: «أكثر ما تلج (تدخل) به أُمّتي الجنّة: (تقوى الله) و(حُسن الخُلق)»[43]، وهما متلازمان، فإنّ تقوى الله بمراقبته في أعمالنا وتعاملاتنا وعلاقاتنا مع الناس يتطلّب خُلقاً حسناً. جاء في الخبر عنه6: «أقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً»[44].

5- ومن شروطها (الاستحياء من الله). أوصى النبيّ6 أباذر2، قائلاً: «أتحبُّ أن تدخل الجنّة؟ فقال: نعم فداك أبي. قال 6: فأقصر الأمل واجعل الموت نصب عينك، واستحِ من الله حقّ الحياء»[45].

6- الجامع للشروط:

رُوِي عن الإمام محمّد الباقر7 أنّه قال: «عشرٌ مَن لقي الله (عزّوجلّ) بهنّ دخل الجنّة:

أ) شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله.

ب) والإقرار بما جاء من عند الله عزّوجلّ (من أوامر ونواهٍ وردت في كتابه الكريم).

ت) إقامة الصلاة.

ث) وإيتاء الزكاة.

ج) وصوم شهر رمضان.

ح) وحجّ البيت.

خ) والولاية لأولياء الله.

د) والبراءة من أعداء الله.

ذ) واجتناب كلّ مُسكر»[46].

أي العمل بفرائض الدين، وما (المستحبّات) من الأعمال إلّا لإحراز المزيد من الثواب والحسنات، وإلّا فمن أتى الله وقد أدّى فرائضه استحقّ الجنّة حتى ولو لم يعمل عملاً مستحباً. يقول الإمام عليّ7: «الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله تؤدِّكم إلى الجنّة»[47].

وإذا اعتبرنا أنّ هذه الشروط صعبة أو أساسية أو كبرى، فإنّ ثمة شروطاً أخرى أدنى درجة في الصعوبة ومتاحة لفريق أوسع من الناس مع توفّر شرط الإيمان بالله تعالى وبالمعاد أساسين سابقين لكلّ شرط.

 

عمل واحد يُدخل الجنّة!!

سنقرأ أوّلاً جملة من هذه الأعمال التي تُمكِّن من الحصول إلى تأشيرة الدخول إلى الجنّة:

1- عن الإمام جعفر الصادق7: «أربع مَن أتى بواحدة منهنّ دخل الجنّة: مَن سقى هامة (شخصاً أو حيواناً) ضامئة، أو أشبع كبداً جائعة، أو كسا جلدة عارية، أو أعتق رقبة عانية (أسيرة)»[48].

أين هذا في كتاب الله؟ هو في ما فهمه الأعرابي من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7). وأين هو في السنّة؟ هو ما ورد من قوله 6: «إنّ في كلّ كبد حرّى أجراً». وربّما رواه بعد المعراج: «اطّلعتُ ليلةً أُسريَ بي على النار، فرأيتُ امرأةً تُعذَّب، فسألتُ عنها، فقيل فيها ربطت هرّة (قطة) ولم تُطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت، فعذّبها بذلك. وقال: واطّلعتُ على الجنّة فرأيتُ امرأة مُومِسة (زانية) فسألت عنها، فقيل: إنّها مرّت بكلبٍ يلهث من العطش فأرسلت أزارها في بئر فعصرته في حلقه حتى رُوي فغفر الله لها»[49].

وروى صاحب كتاب (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) أنّ امرأة غير ملتزمة دينياً كانت تُطعم الطيور (الحمائم)، وكان جارها المتديّن ينتقدها ويعتبر عملها ذاك ليس بذي قيمة طالما أنّها غير ملتزمة، فكانت تقول له: لا أدري إن كان الله يرضى عن عملي هذا أو لا، ولكنني أجد طيوراً جائعة فأطعمها شفقةً عليها. ثمّ مرّت سنوات والتقيا في الموسم (الحج)، فبادرته: أتعرفني؟ قال: مَن؟ قالت: أنا التي كنتُ أطعمُ الحمائم وكنت تقول أنّ لا جدوى من عملي، أما رأيت لعلّ الله الرحيم التفت إليَّ من خلال شفقتي على بعض مخلوقاته، وأنعم عليَّ بالتوبة، بل دعاني إلى (ضيافته)!

2- عن الإمام الصادق7: «ثلاث مَن أتى بواحدة منهنّ أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار (وهو مُعسِر)، والبشر (البشاشة) لجميع العالم، والإنصاف من نفسه»[50].

وإذا صُنِّف الأوّل والأخير في الشروط الصعبة، فلا نظن أنّ الثاني (البشاشة) صعباً، ولا نريد الاستطراد بما تفعله الابتسامة والبشر في الوجه، والبشاشة، والهشاشة في قلوب الناس ومشاعرهم، فلعلّ تجربة كلّ واحد منّا معها كافية لتبيان أثرها النفسي والاجتماعي.

3- في الرواية عن النبيّ6: «دخل عبدٌ الجنّة بغصنٍ من شوك كان على طريق المسلمين فأماطه عنه»[51]. وهذا العمل كان يوصي به 6: «تَبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة، وإماطتك (إزالتك وإزاحتك) الحجر والشوك والعظم (وشظايا الزجاج والمسامير وغيرها) عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك (إناء الماء) في دلو أخيك صدقة»[52].

4- وفي سيرته 6 أنّ جماعة سألوه، فقالوا: دُلّنا على عملٍ إذا عملناه دخلنا به الجنّة. فقال 6 بما معناه: لا تسألوا أحداً، بل اعتمدوا على أنفسكم ولا تتّكلوا على غيركم في شؤونكم، فكان إذا سقط سوط أحد من يده وهو على ظهر الدابة لا يقول لمن في الأرض: ناولنيه، بل ينزل ليأخذه.

5- وفي قصة مكافأته لخادمه التي مرّ ذكرها، وافق 6 أن يرافقه خادمه إلى الجنّة، لكنه شرط عليه قائلاً: «نعم، ولكن أعني بكثرة السجود».

وقد يضمن الأنبياء لبعض الناس دخول الجنّة بعملين. يُحكى أنّ رجلاً سأل السيِّد المسيح7: يا معلِّم الخير، دلّني على عملٍ أنال به الجنّة؟ قال 7: «اتّقِ الله في سرّك وعلانيّتك وبرّ والديك»[53]. وخطب النبيّ6 في المسلمين ذات يوم، وقال: «مَن يضمن لي ما بين لحييه (لسانه)، وما بين رجليه (فرجه)، ضمنتُ له الجنّة»[54]، أي أن لا يتحدّث إلّا بخير وأن لا يوقع فرجه في حرام.

فماذا نستوحي من هذه الأمثلة التي لها ما يناظرها أيضاً؟

1- شرط القبول الأوّل (الإخلاص):

فأيّما عمل تعمله وأنت تستحضر في غايته رضا الله، حتى ولو كان سهلاً أو قليلاً، فهو قد يكون سبباً لنجاتك ونجاحك وحصولك تأشيرة الدخول إلى الجنّة. يقول الإمام عليّ7: «كلّما أخلصتَ عملاً بلغت من الآخرة أمداً»[55]. وقد بَيَّن النبيّ6 سبب تفاوت درجاتنا في الآخرة اعتماداً على شرط الإخلاص في قوله: «بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين»[56].

وحينما ترد كلمة (طوبى) في الأعمال المُخلصة، تعني (حيازة الجنّة) كقوله 6: «طوبى للمخلصين». ولعلّه 6 خَفَّف علينا المهمّة في قوله المرويّ عنه: «أخلص قلبك يكفك القليل من العمل»[57]. ولو أردنا أن نُلخِّص رسالة كتابنا بكلمة لما وجدنا أفضل وأوفى من هذه الكلمة. وكان فيما ناجى الله تبارك وتعالى موسى7: «يا موسى، ما أُريد به وجهي فكثيرٌ قليلُه»[58]!. وإذاً، فنحن لسنا أمام (كمّ) من الأعمال، بل إزاء (النوع)، ومتى أحبّ الله إنساناً رضي منه باليسير.

2- الشرط الثاني (الصدق):

الكلمة التي نُردِّدها دائماً: (النجاة في الصدق) قد لا نعي أنّها نصيحة (دنيوية) في ما يترتّب على الصدق من آثار طيِّبة تُنجي من الكثير من المزالق، و(أخروية) تُنجي من الكثير من المهالك، بل وتنقذ الصادقين من النار. يقول الإمام عليّ7: «الصادقُ على شفا (طرف أو حافة) مُنجاة وكرامة»[59].

3- الشرط الثالث (النيّة الحسنة):

عن الإمام الصادق7 في سبب خلود أهل الجنّة في الجنّة: «وإنّما خلد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً»[60]. ومن أروع ما حدّثنا به الإمام عليّ7 أنّ: «النيّة الصالحة أحد العملين»[61]، أي إنّ (النيّة) بحدّ ذاتها عمل، ولذلك كان النبيّ6 يوصي أباذر2، فيقول له: «يا أباذر، هُمَّ بالحسنة وإن لم تعملها»[62].

وفي التحليل النهائي: لماذا كانت النيّة الحسنة أو الصالحة مَدعاة للنجاة؟

يُجيبنا الإمام عليّ7 قائلاً: «حُسن النيّة من سلامة الطويّة»[63]، وهذا ما سنلاحظه في قصص رفاق الأنبياء في الجنّة، وهل الجنّة إلّا لمن أتى الله بقلبٍ سليم؟!

4- الشرط الرابع: (حُسُن الظنّ بالله تعالى):

ذلك أنّ الله عزّوجلّ يقول -كما في الرواية- عن الإمام الرضا7: «أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي؛ إن خيراً فخيرا وإن شرّاً فشرا»[64]. ولهذا السبب كان النبيّ6 يقول: «لا يموتنّ أحدكم حتى يحسن ظنّه بالله عزّوجلّ، فإنّ حُسن الظنِّ بالله عزّوجلّ ثمن الجنّة»[65]. وكان الإمام عليّ7 يصوغ المعنى ذاته بكلماته، فيقول: «مَن حَسُن ظنّه بالله فاز بالجنّة»[66].

5- الشرط الخامس (الصبر):

عندما قال الإمام عليّ7: «مَن صَبَر ساعة حُمِد ساعات»[67] لم يكن يتحدّث عن الثناء على الصابر في الدنيا فحسب، بل كان يرمي ببصره أو ببصر السامع لقوله الآخذ به إلى ما بعد حدود هذه الدنيا، وخير مَن يحمد الصبر مَن أمر بالعمل به، قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة/ 155).

وهل بعد الجنّة مِن بُشرى؟

أوحى الله تعالى إلى داود7: «إنّ (خلّادة بنت أوس) بَشِّرها بالجنّة وأعلمها أنّها قرينتك في الجنّة. فانطلق إليها فقرع الباب عليها، فخرجت وقالت: هل نزل فيَّ شيء؟! قال: نعم، قالت: وما هو؟ قال: إنّ الله تعالى أوحى إليَّ وأخبرني أنّكِ قرينتي في الجنّة، وأن أُبشِّركِ بالجنّة، قالت: أو يكون اسمٌ وافق اسمي (أي لعلّك أخطأت في المرأة التي أوحي إليك أن تُبشِّرها). قال: إنّكِ لأنتِ هي! قالت: يا نبيّ الله ما أُكذِّبك، ولا والله ما أعرفُ من نفسي ما وصفتني به، قال داود7: اخبريني عن ضميركِ وسريرتكِ ما هو؟ قالت: (وانتبهوا لما قالت): أمّا هذا فسأخبرك به، أُخبرك أنّه لم يُصبني وجعٌ قطّ نزل بي كائناً ما كان، ولا نزل بي ضُرٌّ وحاجة وجوع كائناً ما كان، إلّا صبرتُ عليه، ولم أسأل الله كشفه عنّي حتى يحوِّله الله عنّي إلى العافية والسعة، ولم أطلب بدلاً، وشكرتُ الله عليها وحمدته، فقال داود7: فبهذا بلغتِ ما بلغتِ». وقال الإمام الصادق7 الذي روى هذه الرواية معقِّباً: «وهذا دينُ الله الذي ارتضاه للصالحين»[68].

ومن الصبر الموجب لحيازة تأشيرة الدخول إلى الجنّة (المداومة على العمل الصالح وإن قلّ). لأنّه -كما ورد عن الإمام الباقر7- من خير الأعمال، ولاحظوا صفة العمل ونوعه (وإن قلّ).

قصة خلّادة لها نظائرها.. فقصة الحطّاب الذي أوحى الله لداود7 أنّه قرينه في الجنّة تختصر تأشيرة الدخول بـ(الشُّكر) على (المُنعِم) و(النعمة)، وخلاصتها أنّه ذهب وابنه سليمان7 يستطلعا وضع الحطّاب المُبشَّر بالجنّة فرأياه لا يعمل عملاً صغيراً ولا كبيراً إلّا ويدخل في تفاصيل شكره لله تعالى، فهو يشكر الله على البذرة وسقياها وتحوّلها إلى شجرة، وعلى قدرته على الاحتطاب، وعلى مَن دفعه تعالى لشراء الحطب منه، وعلى ما استطاع أن يشتري به طعاماً، ثمّ يدخل في شكر كلّ جزئية من أجزاء الطعام، ثمّ يبكي خوفاً من أن لا يكون شكر الله كما ينبغي، فقال داود7 لابنه سليمان7: «قم بنا، فما رأيتُ أَشكَر من هذا»!.

والقصّاب صاحب موسى7 الذي أوحي إليه أنّه من أهل الجنّة أو رفيقه فيها الذي وقع موسى7 على سرّه بأنّه كان يرعى أُمّاً عجوزاً رعايته لطفل، ويعتني بها غاية الاعتناء، فعرف موسى7 أنّ سبب حصوله على التأشيرة هو (برّه بأُمّه).

واشتاق المسلمون ذات يوم لرؤية رجل من أهل الجنّة، فأخبرهم النبيّ6 أنّه أوّل داخل من باب المسجد، فتطلّعوا فرأوه شخصاً عادياً (لم تكن الأضواء مسلّطة عليه بحسب تعبيراتنا الدارجة هذه الأيّام)، فلمّا وقفوا على سرّه، قال: ليس لديّ كثير من صلاة وصيام غير الفريضة؛ ولكنني ما رأيت نعمة على أحد فحسدتها، بل سألت الله أن يديمها عليه ويُبارك له فيها وأن لا ينزعها عنه.

إنّ صفات أهل الجنّة تُعطينا أو تُقدِّم لنا ضوءاً إضافياً كاشفاً عن كيفية الحصول على التأشيرة، فالأخير ممّن عقل مواعظ الله تعالى ولم يمدّ عينيه إلى ما مَتَّع الله تعالى به الناس، ولذلك ورد عن الإمام عليّ7 قوله: «لقد سبق إلى جنّات عدن أقوام ما كانوا أكثر الناس لا صوماً ولا صلاةً ولا حجّاً ولا اعتماراً، ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه»[69].

فما هي الصفات الأخرى التي أَهَّلت بعض الناس لتأمين تأشيرة الدخول إلى الجنّة؟

1- أهل المعروف: عن الإمام الباقر7: «أوّل أهل الجنّة دخولاً إلى الجنّة أهل المعروف»[70]، والمعروف كلّ عملٍ حسنٍ بـ(العقل) وبـ(الشرع)، وكلّ ما هو خلاف القبيح والمنكر.

2- الهيِّن الليِّن: عن الإمام عليّ7: «إنّ أهل الجنّة كلُّ مؤمن هيِّن ليِّن»[71]، أي البسطاء غير المتشدِّدين وغير المتطرِّفين وغير الصعبين أو المتعصِّبين.

3- أهل البلايا والهموم: في الرواية عن النبيّ6: «إنّ في الجنّة منازل لا ينالها العباد بأعمالهم. قيل: يا رسول الله، مَن أهلها؟ قال: أهل البلايا والهموم»[72].

4- المتحابون في الله: عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام علي بن الحسين7: «إذا جمع الله -عزّوجلّ- الأوّلين والآخرين (يعني يوم القيامة)، قام منادٍ فنادى ليسمع الناس، فيقول: أين المتحابّون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، قال: فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب. قال: فيقولون: فأيّ ضرب (نوع أو صنف) أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله. قال: فيقولون: وأيّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله، ونبغض في الله. قال: فيقولون: نِعمَ أجر العاملين»[73]، هؤلاء يمكن أن نصطلح عليهم بأنّهم اختزلوا المسافة وحرقوا المراحل.. إنّه الحب المجرّد من الدوافع الذاتية والمنافع المصلحية، بل هو حبٌّ لله وفي الله ومن أجل مرضاة الله.. إنّه حبُّ التعاون والمناصرة والتواصي بالحقّ وبالصبر.

ومثل هذا الشرط شروط أخرى تكرَّرت في روايات عدّة تتحدّث عن الذين يدخلون الجنّة بغير حساب لتوفر شرط ما من شروط حيازة تأشيرة الدخول، ومن هؤلاء (الصابرون) الذين مرَّ ذكرهم.. فعن (الثمالي) أيضاً، عن الإمام الباقر7، عن رسول الله6: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ونادى منادٍ من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، يقول: أين أهل الصبر؟ قال: فيقوم عنق (جماعة) من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون لهم: ما فضلكم هذا الذي نودّيتم به؟ فيقولون: كنّا يُجهَل علينا في الدنيا فنتحمّل ويُساء إلينا فنعفوا. قال: فينادي مُنادٍ من عند الله تعالى: صدق عبادي، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب. قال: ثمّ ينادي منادٍ من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، فيقول: أين جيران الله جلّ جلاله في داره؟ فيقوم عنق من الناس، فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون: نتحابّ في الله، ونتباذل في الله، ونتزاور في الله. قال: فينادي مُنادٍ من عند الله تعالى: صدق عبادي، خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب، فينطلقون إلى الجنّة بغير حساب، ثمّ قال أبو جعفر (الباقر7): فهؤلاء جيران الله في داره، يُخاف الناس ولا يخافون، يُحاسَبُ الناس ولا يُحاسبون»[74].

5- المحسنون: في الرواية عنه 6: «إنّ في الجنّة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها (كالغرف الزجاجية اليوم) يسكنها من أُمّتي: مَن أطابَ الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام»[75]. وإطابة الكلام هو قول الخير الذي فيه نفع للناس لا قول الزور أو اللغو والثرثرة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون/ 3)، وإطعام الطعام لقوله سبحانه: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ (البلد/ 14)، أي في يوم مجاعة. وإفشاء السلام، لقوله جلّ جلاله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ (النساء/ 86). وإدامة الصيام، لقوله عزّوجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة/ 183)، وفي الرواية عن النبيّ6: «إنّ للجنّة باباً يُدعى (الريّان) لا يدخل منه إلّا الصائمون»[76]. وصلاة الليل لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء/ 79).

والأدعى إلى العجب من ذلك كلّه أنّ أحد مفاتيح الجنّة أو موجبات منح تأشيرة الدخول إليها ليس العمل الصالح ذاته فقط، بل كفُّ الأذى والشرّ عن الناس داعٍ من دواعي الدخول إلى الجنّة، أي اجتناب أي مزعزع للأمن المجتمعي. سأل النبيّ6 أعرابيّ عن العمل الذي يُدخله الجنّة، فقال 6: «إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة. اعتق النسمة[77] وفكَّ الرقبة. قال: أوَليسا واحداً؟ قال 6: لا، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها، والفيء (الإنفاق) على ذي الرحم الظالم (لاستمالته وعسى أن يترك ظلمه)، فإن لم يكن ذلك، فأطعم الجائع، واسقِ الضمآن، وأمر بالمعروف، وانهَ عن المنكر، فإن لم تُطق ذلك فكفّ لسانك إلّا من خير»[78].

إنّ كف الأذى عن الناس وتجنيبهم شرور الأعمال، هو بحدّ ذاته عمل يُثاب الإنسان عليه بدخوله إلى الجنّة التي سبق أن جاء وصفها بأنّها (دار أمان) لكلّ مَن حرص على أمن الناس في دار الدنيا، وكأنّ أمان الناس في الدنيا هو الذي أدّى إلى استحقاق دار الأمان في الآخرة.

ولمّا كان عتق الرقبة (منتفياً ولم يعد له وجود بعد أن قضى الإسلام عليه)، فإنّ بدائله موجودة. عن (معمّر بن خلّاد)، قال: كان أبوالحسن الرضا7 إذا أكل أتى بصفحة (صينية) فتوضع بقرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به، فيأخذ من كلّ شيء شيئاً، فيضع في تلك الصفحة، ثمّ يأمر بها إلى المساكين، ثمّ يتلو هذه الآية: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ (البلد/ 11)، ثمّ قال7: «علم الله أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة»[79].

وسيأتي بيان كيف أنّ النبي6 في خطبته الشهيرة التي استقبل بها شهر رمضان، ربط أيضاً بين إطعام الطعام وبين الدخول إلى الجنّة، ذلك أنّ مشكلة الجوع والجياع في العالم هي من أخطر المشاكل التي تواجه الناس بعد الحروب والكوارث (الزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف). ووفقاً لمنظمة الصحّة العالمية، فإنّ الجوع هو الخطر الأكبر على العالم والصحّة العامّة، والمساهم الأكبر في زيادة معدّل وفيات الأطفال. وبحسب (منظمة الأغذية والزراعة)، فإنّ الموت جوعاً يؤثِّر حالياً على أكثر من مليار شخص، أو يمكن القول إنّ (1 ضمن 6) من الذين يعيشون على هذا الكوكب يموتون جوعاً!، بل إنّ الجوع سبب كبير من أسباب الجرائم والسرقات وممارسة المحرمات والممنوعات.

أعلمتَ لماذا هذا التكثيف القرآني في الدعوة إلى إطعام الطعام في يوم ذي مسغبة واعتباره اقتحاماً (اجتيازاً) للعقبة التي تحول دون الحصول على تأشيرة الدخول إلى الجنّة؟!

 

خطبة النبيّ6 في استقبال شهر رمضان[80]:

في هذه الوثيقة النبوية دلائل عديدة وإرشادات مهمّة على إثبات الفرضية التي صدّرنا بها هذا البحث، وهي قراءة استدلالية على ما نريد تأكيده والوصول إليه، أو إيصاله من رسالة مدعّمة بالدليل.

يقول 6 في الخطبة الشهيرة التي خطب أو خاطب المسلمين فيها في أهمية وقيمة شهر الضيافة (شهر رمضان)، وما يمكن أن يحرز من فرص الفوز أو تأمين تأشيرة الدخول إلى الجنّة: «اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه».

والسؤال: لماذا هذا الربط والاقتران بين (جوعين): صغير أو أصغر (جوع الصائمين في شهر رمضان)، وبين الجوع الأكبر في يوم القيامة؟ فكأنّ الإشارة الضمنية، هي أنّ جوع الصوم هنا يرفع غائلة الجوع هناك.

ثمّ يقول 6: «ارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات ينظر عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده، يُجيبهم إذا ناجوه، ويلبِّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه». ومورد الشاهد أو الاستدلال هنا قوله 6: «ينظر عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده»، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قد ينظر إلى الإنسان نظرة رحمة لا يُعذِّبه بعدها أبداً. في الخبر عنه 6: «إنّ لربّكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعلّه أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبداً». ويستطرد 6 في الخطبة الاستقبالية لشهر رمضان فيقول بعد وغائلة الجوع هناك، والصبر على الحاجة هنا للشعور بالغنى يوم الفقر هناك: «اعلموا أنّ الله تعالى ذكره أقسم بعزّته أن لا يُعذِّب المصلِّين والساجدين ولا يُروِّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين».

وعدم الترويع بالنار يوم القيامة لا معنى له إلّا الدخول إلى الجنّة. يقول الإمام عليّ7 في الدُّعاء الشهير الموسوم بـ(دُعاء كُمَيل) الذي عَلّمه لصاحبه كميل بن زياد بما استوجبه حقّ الصُّحبة: «وليت شعري يا سيِّدي وإلهي ومولاي، أتُسلِّط النار على وجوهٍ خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسنٍ نطقت بتوحيدك صادقة، وبشكرك مادحة، وعلى قلوبٍ اعترفت بإلهيّتك محقّقة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبُّدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظنّ بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم»[81].

ويمضي 6 في خطبة التمهيد لشهر الضيافة قائلاً: «أيُّها الناس، مَن فَطَّر منكم صائماً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة (أي ما يساويه ويعادله)، ومغفرة لما مضى من ذنوبه». قيل: يا رسول الله، وليس كلّنا يقدر على ذلك. فقال 6: «اتّقوا النار بشقِّ تمرة، اتّقوا النار ولو بشربة من ماء يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه».

وفي هذا المقطع ذي الدلالة الواضحة الصريحة تلخيص آخر لمقولة الكتاب الذي نحن فيه، الذي لو أردنا أن نصوغ له عنوان آخر لقلنا: «اتّقوا النار ولو بشقِّ تمرة»!! وشقّ التمرة ليس هو التمرة الكاملة، بل نصفها. والسؤال: أيعقلُ أن تُتّقى النار بنصف تمرة؟! أهذا البسيط، اليسير، القليل، الضئيل ثمن أغلى ما يطمح إليه الإنسان (الجنّة)؟

لابدّ في الإجابة عن هذا السؤال، التأمُّل في هذه الحوارية بين النبيّ6 وبين رجل من قريش. قال 6 في ما رُوِي عنه: «مَن قال (سبحان الله) غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومَن قال (الحمدُ لله) غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومَن قال (لا إله إلّا الله) غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومَن قال (الله أكبر) غرس الله له بها شجرة في الجنّة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنّ شجرنا في الجنّة لكثير. قال: نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها، وذلك أنّ الله عزّوجلّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمّد/ 33)».

فالنبيّ6 يُعلِّمنا هنا أنّ الأثر المترتِّب على التسبيحات هو غرس الأشجار في الجنّة (أي أشبه بوضع اللبنات في بيوتنا أو قصورنا هناك كما في رواية أخرى من روايات الإسراء) ما لم يأتِ مانع فيمنعها أو رافع يرفعها، كقوله 6: «ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها» علماً أنّ ثواب الله تعالى لا حدود له وغير قابل للقياس بعطاءاتنا الدنيوية المتبادلة على نحو التكافؤ والتساوي (مساواة الأجر لقيمة العمل).

وفي الرواية عن الإمام الباقر7، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال النبيّ6 لجابر بن عبدالله: «يا جابر، هذا شهر رمضان مَن صام نهاره، وقام ورداً من ليله، وصان بطنه وفرجه (عن الحرام)، وحفظ لسانه (عن الكذب والغيبة والسباب) لخرج من الذنوب كما يخرج من الشهر»، أي (يخرج من الذنوب) ليدخل الجنّة في ما لو أدركته المنية ولم يرتكب ذنوباً أخرى. قال جابر: يا رسول الله، ما أحسنه من حديث. فقال رسول الله6: «وما أصعبها من شروط»!

وهذا الكلام ينطبق على كلّ حديث فيه ترغيب في الجنّة. ففي العودة إلى حديث (شقّ التمرة)، فإنّها في حسابات السوق لا تساوي شيئاً، ولكنها عند الله الذي يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7)، لها حسابها الكبير. والمشكلة التي نعانيها أنّنا قد نحقِّق بعض هذه الشروط، لكننا قد نرسُل نيراناً بعد ذلك تحرقُ ما زرعنا، ونرتكب جرائم تهدم ما بنينا!

وفي خطبة استقبال الشهر الفضيل، يقول 6 أيضاً: «أيّها الناس، مَن حسَّن منكم في هذا الشهر خُلقه كان له جوازاً على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام»! وقد مرّ بنا أنّ (حُسن الخلق) سبب مهم من أسباب الحصول على تأشيرة الدخول.

ويضيف 6 قائلاً: «ومَن خَفَّف في هذا الشهر عمّا مَلَكت يمينه (زوجته) خَفَّف الله حسابه»، «ومَن كفَّ فيه شرّه كفَّ عنه غضبه يوم يلقاه»، «ومَن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه»، «ومَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه»، «ومَن تَطوَّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار»، «ومَن أكثر فيه الصلاة عليَّ ثَقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين». إلى أن يقول 6: «أيُّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتَّحة، فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم»!

وكلّ هذه الإشارات والبشارات دالّة على ارتباط أفعال الصوم وملازماته بالجنّة، ولا نستغرب بعد ذلك لماذا يتكرّر دعاؤنا وطلبنا في شهر رمضان بأن يجعلنا الله فيه من عتقائه من النار.

إنّ خروجنا من الشهر الفضيل أنقياء من الذنوب يعني ضمانة الدخول إلى الجنّة، هو أشبه بالحصول على التأشيرة (الفيزا) ممّا لا يعني (السفر) و(الوصول) و(الدخول). نعم، في حال عمل الصائم بذلك ووافته المنية بعد شهره، يكون قد حصل على الإمضاء على التأشيرة وختم الدخول، وإلّا فحال الصائم المرتكب للذنوب بعد شهر رمضان حال العائد من الحج وقد غُفِرت له سوابق ذنوبه (يعود كيوم ولدته أُمّه)؛ ولكنه قد يُدشِّن صحيفة أعماله الجديدة بذنوب ومعاصٍ جديدة، وهنا ننتهي إلى ما قاله 6 لجابر بن عبدالله الأنصاري (ما أصعبها من شروط)، وما قاله للرجل من قريش «ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها».

 

الفرضيّة.. والمطلوب إثباته:

كانت (الفرضيّة) التي طرحها الكتاب تتلخّص في أنّ عملاً واحداً مخلصاً يراد به التقرُّب إلى الله تعالى وينظر الله سبحانه إليه بنظرة رحمانية، فإنّ صاحبه قد لا يُعذَّب أبداً، ويمكن أن يكون عمله (ما لم يُسيء ويُذنب بعده ليمحوه أو يحرقه أو يأتي بأضداده) سبباً لحيازته تأشيرة دخول إلى الجنّة.

الدليل من القرآن: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (يونس/ 26).

ومن السُنّة: عن رسول الله6: «مَن صلّى ركعتين ولم يُحدِّث فيهما نفسه بشيء من أمور الدنيا غفر الله له ذنوبه»[82]، أي ما سبق من ذنوبه، فعليه أن يستدرك ويستأنف ما بقي من حياته في الخير والصلاح.

وعنه 6: «مَن صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب»[83].

وفي الرواية عنه 6: «أيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام، غَلَّق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنّة تدخل من أينما شاءت»[84].

وفي الأثر عن الإمام الصادق7: «سألت أُمّ سلمة رسول الله6 عن فضل النساء في خدمة أزواجهنّ، فقال: أيّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تُريد به صلاحاً إلّا نظر الله إليها، ومَن نظر الله إليه لم يُعذِّبه»[85].

وهذا كلّه من رحمة الله التي يقول عنها النبيّ6: «لو تعلمون قدر رحمة الله تعالى لاتّكلتم عليها»[86]. وإذا كان ذلك هو من أثر وفضل الرحمة الواحدة التي يتراحم بها الناس، فكيف بـ(99) رحمة المدخرة ليوم الفقر والفاقة والفزع الأكبر؟!

على أنّنا أكّدنا في غير موضع من الكتاب على أنّ النظر يجب أن ينصبّ على (الشرط) لا أن تُنسينا حلاوة الجزاء صعوبته وضرورة توفيره أو تأمينه أو تلبيته، من (الصدق) و(الإخلاص) و(حُسن الخلق) و(صلاح النيّة) و(سلامة القلب) و(حُسن الظنّ بالله تعالى).. كلّ ذلك بعد (التوحيد) والإيمان بـ(المعاد).

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ ضمان التأهُّل للدخول إلى الجنّة والحصول على تأشيرة لا يعني (وحدة الدرجات) أو (وحدة المنازل)، ففي سورة (المؤمنون) و(المعارج) أيضاً، عندما يُحدِّثنا القرآن عن صفات المؤمنين وصلاح أعمالهم وخلوص نيّاتهم يعتبر الحائزين على تلك الشروط من سكنة (الفردوس): ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون/ 11). والفردوس تعني -لغة- الزيادة والسعة. واصطلاحاً: البستان الجامع لكلّ ما يكون في البساتين، ولذلك قيل هي مسكن الأبرار والقدِّيسين والصالحين. وإنّما خصّ تعالى طائفة من المؤمنين العاملين بـ(جنّات عدن)، أو (الغرفات) وهي المنازل الرفيعة العالية، لأنّ تأشيرة الجنّة لا تؤشِّر على أنّ سكّانها سيكونون على سويّة واحدة، وإنما على حسب الأعمال والنيّات والمتاعب ومستوى الصبر والتحمُّل، ودرجة الفداء والتضحية، وما إلى ذلك، وهذا شبيه إلى حدٍّ ما بفندق فيه الغرف العادية، والأجنحة الخاصّة، أو البيوت والقصور، أو القصور والصروح، ويبقى دخول الجنّة بحدّ ذاته فوزاً وإن تفاوتت فيه الدرجات.

 

خلاصة واستنتاجات:

1- لا يدعو هذا الكتاب البتة إلى الإقلال من العمل، بل إلى زيادة صلاحه وإخلاصه وصوابه وإن كان قليلاً. لأنّه حينئذ يكون عملاً مع تقوى، ولا يقل عمل مع التقوى أبداً.

2- لا جنّة بلا عمل، حتى الأنبياء نالوا الجنّة بأعمالهم ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنعام/ 135).

3- الجنّة = إيمان + عمل صالح، ولا إيماناً حقيقياً من غير إخلاص، ولا عملاً صالحاً من غير نية القربة إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته.

4- المداومة على العمل الصالح القليل أفضل من ممارسة عمل خيِّر لمرّة أو مرّتين ثمّ التوقف والانقطاع الكامل عنه. يقول الإمام محمّد الباقر7: «خيرُ الأعمال ما داوم عليه العبد وإن قل».

5- زيادة الأعمال الصالحة (إدخال الجديد في الرصيد) والاستزادة من كلّ عمل يقرّب إلى الله سبب في رفع الدرجات وعلو المقام، فلا يقولنّ أحدنا: عمل صالح واحد وكفى، لأنّ لا أحد يستطيع (التألي) على الله أو الجزم عليه. يقول تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور/ 21)، هذا أوّلاً، وثانياً فإنّ في فرصة العمر متسع لزيادة المنسوب، فلماذا البخل على النفس وتحجير الثواب وحصره بالقليل.

6- علينا -كما قال النبيّ6 لذلك الذي استحسن الجزاء وجزيل الثواب- أن ننظر إلى (الشرط) للحصول على التأشيرة ولا نعيش أحلام اليقظة والاستغراق في (الجزاء).

7- طلب النبيّ6 ممّن وافق على أن يكون رفيقه في الجنّة -على صحّة فرض الروايات المختلفة الواردة في هذا المجال- وأمره بإعانته على طول السجود، أو ملازمة ما هو عليه من خصال الخير والصلاح، يقتضي الاستمرار على الاستقامة، ولا يعني ذلك أنّه 6 يمنح شهادات حسن السلوك على نحو دائم حتى ولو أساء الممنوح تأشيرة الدخول إلى الجنّة بعد ذلك، فالنبيّ6 يفي بوعده إذا وفى الممنوح التأشيرة بشرطه.

8- قد تكون بعض الروايات التي استند الكتاب عليها لتدعيم فرضيته ضعيفة، أو إنّها سيقت للترغيب، ولكننا أخذنا بها لا من باب (التساهل في أدلة السنن) فقط وإنما لأنّنا وجدناها لا تتعارض مع جوهر ديننا دين الرحمة.

 

-وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-


[1]- نهج البلاغة، الحكمة 87.

[2]- جواهر البحار، ج90، ص193.

[3]- كنز العمّال، 12.

[4]- كنز العمّال، 11.

[5]- رواه البخاري في صحيحه.

[6]- عن موسوعة الإمام الباقر7، ص250.

[7]- رواه ابن ماجة والدار قطني وغيرهما مسندا.

[8]- رواه مسلم، ح2983.

[9]- السنن الكبرى للنسائي.

[10]- رواه البخاري ومسلم.

[11]- مجموعة ورام، ج2.

[12]- ليس لله تعالى عين، وإنّما نعني بها رقابته وشهوده وعلمه واطّلاعه وإحاطته.

[13]- يذكر الشهيد مطهري أنّ بعض مَن كتب في سيرة الإمام عليّ7 وصف الخاتم بأنّه ثمين جدّاً، وأنّه مرصّع باللآلئ والجواهر والدرر ومن معدن نفيس، ويُعقِّب أنّ بعضنا يتصوّر أنّه إذا ذكر ذلك زاد في قيمة زكاة الإمام وتبرُّعه، وما درى لو أنّه 7 كان يمتلك خاتماً غالياً لباعه ووَزَّع ثمنه على الفقراء قبل أن يأتيه السائل المتصدِّق في الصلاة!

[14]- كنز العمّال، المتقي الهندي، 10464.

[15]- بحار الأنوار، المجلسي، ج78، ص153.

[16]- غرر الحكم، 4317.

[17]- غرر الحكم، 3353.

[18]- ذيادة: إبعاد، أي منعاً لهم عن المعاصي الجالبة للنقم.

[19]- حياشة: تقريب، أو من حاش الصيد جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة ويسوقه إليها ليصيده أي سوقاً إلى جنته.

[20]- نهج البلاغة، قصار الحِكمْ والكلمات، الخطبة 368، د. صبحي الصالح.

[21]- من جميل لفتات (الشيخ محمدرضا المظفر;) قوله في (عقائد الإمامية) حول (عقيدتنا بالعدل): «ونعتقد أنّه سبحانه لا يترك الخشن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح، لأنّه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح». ص64-65.

[22]- نهج البلاغة، الخطبة 227.

[23]- سنن ابن ماجة، 3850.

[24]- أمالي الصدوق، 73/9.

[25]- بحار الأنوار، 94/97.

[26]- تنبيه الخواطر، 1/9.

[27]- تحف العقول، 305.

[28]- كنز العمّال، 716.

[29]- كنز العمّال، 7009.

[30]- عن (المصباح) للكفعمي.

[31]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[32]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[33]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[34]- عن مصباح المتهجِّد للكفعمي.

[35] - قِرى: إكرام الضيف.

[36]- من دعاء (يا عدتي)، رواه الشيخ الصدوق.

[37]- غرر الحكم، 397.

[38]- بحار الأنوار، ج77، ص94.

[39]- غرر الحكم، 7403.

[40]- غرر الحكم، 9164.

[41]- التوحيد، 22/17.

[42]- التوحيد، 21/13.

[43]- أصول الكافي، 2/100.

[44]- رواه أحمد والترمذي عن جابر بن عبدالله الأنصاري.

[45]- آمال الطوسي، 534/1162.

[46]- الخصال، الصدوق، 15/432.

[47]- نهج البلاغة، الخطبة 167.

[48]- بحار الأنوار، 74/360.

[49]- المبسوط، الطوسي، ح6، ص47. والبحار، ج65، ص64-65.

[50]- أصول الكافي 2/103.

[51]- سفينة البحار، عباس القمي، مادة (طريق).

[52]- كنز العمّال، 16305.

[53]- تنبيه الخواطر، 1/135.

[54]- معاني الأخبار، 411.

[55]- غرر الحكم، 7196.

[56]- تنبيه الخواطر، 2/119.

[57]- بحار الأنوار، 73/175.

[58]- أصول الكافي، 8/46.

[59]- نهج البلاغة، الخطبة 86.

[60]- مَن لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص400.

[61]- غرر الحكم، 1624.

[62]- مكارم الأخلاق، 2/378.

[63]- غرر الحكم، 4817.

[64]- أصول الكافي، 2/72.

[65]- بحار الأنوار، 70/385.

[66]- غرر الحكم، 8840.

[67]- بحار الأنوار، 82/136.

[68]- الكافي، ج2، ص126.

[69]- تنبيه الخواطر، 1/2213.

[70]- كنز العمّال، 1663.

[71]- غرر الحكم، 3400.

[72]- بحار الأنوار، 81/194.

[73]- الكافي، ج2، ص126.

[74]- بحار الأنوار، 7/171.

[75]- ميزان الحكمة، الريشهري، مادة (الجنّة).

[76]- معاني الأخبار، 409/195.

[77]- النسمة: كلّ كائن حيّ فيه روح.

[78]- نور الثقلين، 5/583.

[79]- المحاسن، ص392.

[80]- رواها الصدوق عن الإمام الرضا7.

[81]- عن كتاب (مصباح المتهجِّد).

[82]- بحار الأنوار، 84/249.

[83]- أصول الكافي، 3/266.

[84]- إرشاد القلوب، 175.

[85]- بحار الأنوار، 70/103.

[86]- كنز العمّال، 10387.

ارسال التعليق

Top