• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

توجيهات القرآن الكريم للتمتع بالصحة النفسية

د. عبدالرحمن محمد العيسوي

توجيهات القرآن الكريم للتمتع بالصحة النفسية
لا شك أنّ القرآن الكريم جامع لكل ما يحقق الاستقرار للفرد والجماعة بل للبشرية جمعاء. وصدق الله إذ يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89)، وفيه شفاء للقلوب، وأمن وأمان للنفوس. من اتبعه كان آمناً ومن يعمل به لن يضل أبداً، ولأن حاجة النفس إلى التربية عظيمة، فلم يكن هناك ما هو أحط قدراً ولا أبخس ثمناً من نفس لم تنل نصيبها منه. وليس من السهولة أن تسلم الأُمم وتهذب الشعوب قبل أن تسلم نفوس الأفراد وتهذب. والقرآن الكريم حين يتعرض لتربية النفس، فإنما يريد لها الأمن والاستقرار ويحفظها من التوتر والاضطرابات، وبذلك فإنّه يترفع بها إلى كل فضيلة ترفع قدرها وتحفظ كرامتها وتصون شرفها، ويسمو بها عن كل رذيلة تبخس قيمتها. وفي هذا ما يجعلها تتكون تكويناً صالحاً يصل بها إلى ذروة المجد وقمة الشرف والطهر، ويحقق لها الصحة النفسية ويحفظها من الصراع والاكتئاب. من أجل ذلك لم يدع القرآن الكريم فضيلة إلا حث النفس عليها وأضاء لها طريق الوصول إليها، ولم يدع رذيلة إلا حذرها إياها ووضع العراقيل في سبيلها، وصوّر لها العاقبة في صورة مشوهة تنفر منها الأنظار حتى رغبت النفس في كل فضيلة وتعففت عن كل رذيلة، فلا يوجد من ينكر دماثة أخلاقها وسمو تربيتها وبذلك تصبح من النفوس المطمئنة. ولكي يعمل القرآن الكريم على إيجاد شخصية ذات نفس صافية، فقد أمدها بأكبر قسط من الأسس والتربية السليمة الصحيحة لتسلك حياتها وهي أعز ما تكون جانباً، وأعظم ما تكون شأناً، فأوضح لها طريق الخير وطريق الشرّ وعليها أن تختار ما يعود عليها بالنفع: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام/ 104). ومما يدعو للفخر حقاً أن تأخذ المجتمعات الغربية بتعاليم القرآن الكريم، بعد أن أعياها العجز عن إيجاد حل لمشاكلهم وخاصة النفسية منها، وأصبح هناك منهج للعلاج النفسي يعرف "بمنهج العلاج الإسلامي" ويستمد مقاومته من تعاليم الإسلام وإعادة تعديل السلوك عن طريق تعميق الإيمان لدى المرضى، وقد حقق المرضى في ظله تقدماً عظيماً حيث لاحظ عالم النفس كارل يونج من خلال أبحاثه أنّ المترددين في العيادات النفسية يعانون من الفراغ الروحي. ويكمن العلاج في جرعات قوية من الإيمان، وصدق الله إذ يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). ولقد رسم القرآن الكريم الطريق القويم الذي يسلكه الفرد حتى يتحقق له التوازن النفسي وينمي لديه الإرادة القوية أمام مغريات الحياة فيحدثنا في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران/ 14). وحتى لا يصاب الإنسان بالإحباط عندما تكون تطلعاته أكثر من إمكانياته وقدراته الفعلية، يحدد ذلك القرآن الكريم في قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286). وهو ما يعرف بمبدأ الفروق الفردية في التربية الحديثة.

 

ولقد أوضح القرآن الكريم أنّ المسؤولية في حدود طاقة الإنسان. كما أوضح أنّه لا ينبغي أن يخضع أحد لإنسان لكي يستذله، لأنّ الأرزاق بيد الخالق، عملاً بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (فاطر/ 3).

ويحذرنا القرآن الكريم من الغرور والتعالي لأنّه آفة مذمومة بالإضافة إلى أنّه يؤدي بالفرد إلى السلوك غير السوي، ويسلم الإنسان إلى أخطر الأمراض النفسية الذي يعرف في علم النفس الحديث (بالبرانويا) أي جنون العظمة، فيقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 4-10)، فلا عزة لمخلوق غير الله عزّ وجلّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر/ 10). وما أكثر ضحايا هذا المرض الاجتماعي الخطير، الذي لا يكشف إلا عن ظلمة في العقل وحماقة في القلب وجهالة في النفس، إذ إنّ المغرور يعيش في برج من الخيال، فيجني على نفسه من حيث لا يدري. وأسوأ ألوان الغرور ذلك الذي يدفع ضحاياه إلى التخبط في أعمالهم حتى لا يميزون بين الهدى والضلال والحسنة والسيئة. والقرآن الكريم يكافح هذا السلوك البغيض، بقوله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف/ 103-104). فلا يمكن لمغرور أن ينجح في أمر يوكل إليه، وكيف يصيب النجاح أو السداد والغرور مسيطر على عقله ومستحوز على وجدانه، والجهل متحكم في تفكيره. والقرآن الكريم يستعرض صفحة مشوهة لهذه العادة الرذيلة للتنفير منها والقضاء عليها في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر/ 56). وحث القرآن الكريم النفس البشرية على أن تتحلى بالصبر، لأنّه من صفات النفس السوية ومن علامات الصحة النفسية، بالإضافة إلى الحب والصدق قولاً وعملاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119). كما دعا إلى حفظ الأمانة، والأسرار، والتسامح، والصبر على الشدائد، والعفة، والقناعة، والاستزادة من المعرفة، وانشراح الصدر، والمروءة والتواضع، ونبذ التعالي، والبعد عن الحرام، وتجنب الظلم. كما أوضح القرآن الكريم أنّ الاتزان والتروي صفتان محمودتان يعيش المتصف بهما آمناً في حياته موفور الكرامة محفوفاً بالوقار. والهوج والتسرع صفتان مرذولتان لا ينكب بهما غير الجاهل المتهور أو الأحمق الطائش، ذلك الذي يسبق لسانه تفكيره وتسبق يده عقله، ويقذف بنفسه إلى موارد الهلكة، ويلقي بعنقه بين أغلال الندم والحسرة. والإنسان المتزن، الذي لا يتصرف قبل أن يفكر، ولا يخطو قبل أن يقدر، ولا يقدر قبل أن يدبر لا يصطدم في حياته بمشكلة تسلبه هدوءه، ولا يرتطم بعقبة تتحطم عليها سلسلة أفكاره، لأنّه ينظر إلى الأمور بمنظار التروي والدقة حتى لا يضطر إلى أن يقود نفسه إلى اللوم الذاتي ويسلمها إلى الأسف. والقرآن الكريم ما أجمله حين يربي النفوس على أن تطبع بطابع الاتزان، ويحذرها التسرع حتى لا تندم على ما فعلت وتتحسر على ما أحدثت، فتراه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6). وتتجلى دعوة القرآن الكريم إلى الاعتدال لما تحتاجه الحياة دائماً. فهي تتطلب الاعتدال في كل شيء. فالتفريط والإفراط ممقوتان في ميزان الإسلام، وكلاهما يلحق بصاحبه المشقة والعناء والقلق والاضطراب ويسلمه إلى الاكتئاب النفسي. كما يقود الإفراط صاحبه إلى الانهيار والتفريط يهوي به إلى الحضيض. والقرآن الكريم حين يربي النفس على التوسط والاعتدال في أمور دنياها ودينها، فإنّه يريد أن يصقلها بالحزم لتشق طريقها في الحياة إلى النجاح، ولتقطع مراحلها آمنة لا يساورها اضطراب أو قلق أو صراع ولا يزعج صفوفها تعكير ولا يستفز هدوءها تنغيص. واهتمام القرآن بهذه التربية الرفيعة دليل على حاجة النفس إليها، حاجتها إلى ضروريات الحياة ومستلزماتها، فيقول: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29)، ويمتدح قوماً عرفوا بالحزم وحسن السلوك في أمور حياتهم، فيقول: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67). كما أوضح القرآن الكريم ضرورة الاعتدال في المأكل والمشرب، حتى تسلم النفس من الأمراض والأوجاع الناتجة عن الإفراط في تناول الطعام وأهمها التخمة التي أصبحت من أكثر أمراض العصر، فيقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). ويتعرض القرآن الكريم بالتوضيح إلى أهمية آداب السلوك، مبيناً أسس السلوك السوي ليتحقق للإنسان الاستقرار في علاقته مع الآخرين، ويصبح كالبنيان يشد بعضها بعضاً، ذلك لأنّ الشخصية التي تمتزج بالفضائل امتزاجاً شاملاً وتستوعب أسمى الصفات وأكمل العادات هي التي تلتزم بآداب السلوك الحميد.   المصدر: كتاب (الهَدي الإسلامي والصحة النفسية)

ارسال التعليق

Top