• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دلائل الرحمة في آيات الصيام

صالح أحمد العمودي

دلائل الرحمة في آيات الصيام
◄منها: النداء المحبّب.. تبيان الغاية من التشريع.. التدرج في الكليف أنزل الله كتابه العظيم هداية ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: (الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (لقمان/ 1-3)، وقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (النمل/ 77)، وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89)، فالقرآن كلّه رحمة الله المنزَّلة على عباده، يحمل في آياته من الأحكام والتشريعات ما فيه رحمة وتيسير على العباد، ورفع للحرج عنهم، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج/ 78). ومن العبادات والتكاليف التي تبدو في ظاهر أمرها شاقة متعبة: الصيام، والنفوس المتجردة عن الإيمان تستثقلها لأنها كما قال سيد قطب – يرحمه الله –: "مجال الإستعلاء على ضرورات الجسد كلها، وإحتمال ضغطها وثقلها" (في ظلال القرآن، ج1، ص167). ولكن الله عزّ وجلّ عليم بعباده وبضعفهم، وهو الرؤوف الرحيم بهم، ولهذا جعل سبحانه الرحمة واللطف قرين أحكامه المنزلة، ولهذا كانت آيات الصيام من سورة البقرة مقرونة بدلائل الرحمة، وآيات اللطف الرباني، رحمة في الألفاظ والتعابير، ورحمة في المعاني ورحمة في الأحكام، تتعاقب فيها اللفتات الموحية التي تودد الله عزّ وجلّ لعباده وأوليائه. ومن دلائل الرحمة وإشارات الرأفة بالمؤمنين من خلال هذه الآيات التي تضمنت الأمر بالركن الثالث ما يلي: 1- في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة/ 183)، يدعو الله المؤمنين بنداء محبب يذكر المؤمن بالرباط الذي يربطه بالله وهو الإيمان، وفيه ثناء عطر عليهم لتحليهم بهذه الصفة، وهذا النداء يستثير العزيمة نحو تحمل التكاليف التي تتلوه: "إنّ الله سبحانه يعلم أنّ التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع وإستجاشة لتنهض به وتسجيب له، مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتُراض عليه، ومن ثمّ يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب" (في ظلال القرآن، ج1، ص167). 2- في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة/ 183)، جاء الفعل مبنياً للمجهول، ولم يُذكر الفاعل، ومع أنّ الله سبحانه هو الذي كتب علينا الصيام، فإنّ العدول عن البناء للمعلوم فيه ملحظ تودد من الله، فلم ينسب الأمر إليه مباشرة، لأن في هذه العبادة نوعاً من المشقة والحرمان من أحب الأشياء إلى النفس. 3- في قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة/ 183)، حث وتشجيع على الصيام بعد فرضه وإيجابه، وفيه تسلية للمؤمنين حال تحملهم لهذا التكليف، وفيه إثارة للعزيمة نحو أداء هذه العبادة، وذلك من خلال بيان أنّ هذه الفريضة قد أوجبها الله على المؤمنين من قبل في الرسالات السابقة، وقد أداها عبادٌ لله من قبل فهم أسوة وسلوة: ومن طبيعة النفس أن تتردد أمام الجديد، وأن تُقدم عليه إذا علمت أن لها فيه سلفاً. وحين تراعي الآيات هذا الجانب في النفس فهي تراعي حاجتها إلي التلطف والرحمة. 4- في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، ذكر الله الغاية من الصوم، وهي حصول التقوى، وهي أعظم ما يتمناه المؤمن وغاية ما يسعى لتحقيقه، ويجهد لبلوغه، فإذا تيقن المؤمن أنّ الصوم – التكليف الجديد – قائد إلى تلك الغاية الغالية، أقبل إليه مسرعاً، فالنفس تزداد إقبالاً على الأمر إذا عرفت غايته، ويتزايد الإقبال حين تعرف أن نتيجة هذا الأمر هي الهدف الذي ترومه. 5- في قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 184)، بهذه العبارة "بيّن الله مقدار الصوم وأنّه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس، وتضعف عن حمله وأدائه، بل أياماً معدودات" (تفسير ابن كثير: ج1، 202). ذكر ابن كثير أنّ الصيام كان في أوّل الإسلام أياماً معدودات من كل شهر ثمّ نسخ بصيام شهر رمضان، ولكن رمضان بأيامه كلها يظل جزءاً بسيطاً من العام. قال السيوطي في تفسيره (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) "أي قلائل مؤقتات بعدد معلوم – وهي رمضان – وقلّله تسهيلاً على المكلفين". 6- في قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة/ 184)، بيان لرخصة ورحمة جعلها الله للمريض والمسافر، لقد جعل الله الصيام أياماً معدودات، "ومع هذا فقد أعفى من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرين حتى يقيموا، تخفيفاً وتيسيراً" (في ظلال القرآن، ج1، ص168)، ورحمة بالمكلفين. 7- في تتمة الآية: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184)، بيان للتشريع الأوّل في الصيام. لقد فُرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، وكان تكليفاً جديداً فيه مشقة على النفس، فكان من رحمة الله أن أباح للمسلمين – في مرحلة أولى – الفطر من دون سفر أو مرض، لكن بشرط إطعام مسكين مقابل كل يوم، وتلا هذا التشريع تحبيب إلى الإطعام مطلقاً، وتحبيب آخر إلى الصوم بذكر أفضليته على الفطر مع الإطعام. هذا التدرج في التكليف مظهر من مظاهر الرحمة الربانية بالعباد. 8- في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، بيان لخصيصة يمتاز بها شهر الصيام عن سائر الشهور، هي أنّ القرآن نزل فيه "من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا" (تفسير الجلالين)، كما قرر ذلك عدد من المفسرين، وكان في نزول القرآن الكريم هداية للناس ونعمة ومنة ورحمة من الله على عباده، ففي الآية إشعار بمنة الله على عباده، وتذكير بالرحمة المنزلة. توطئة للأمر بالصيام في الشهر الذي نزلت فيه هذه الرحمة. حتى تكون عبادة الصيام في هذا الشهر مقابلة لتلك المنة، وهي إنزال القرآن الكريم، وشكراً لها. 9- في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185)، أمر صريح مباشر بصيام شهر رمضان على كل مسلم بالغ مقيم غير مسافر، وهو تشريع ينسخ التشريع السابق، بإباحة الفطر لمن أراد أن يطعم، ومع صراحة التكليف، فقد تلحظ في لفظه تلطفاً خفياً، إذ إنّ الأمر بالصوم معلق بشرط، فالذي يشهد رمضان وهو مقيم في دار هو المكلف بالصيام. أما المسافر فمن رحمة الله أنّ الصوم لا يجب عليه حال سفره، كما أنّ الأمر في الآية موجه إلى الضمير الغائب، وليس إلى المخاطب مباشرة، ولا شك في أنّ التكليف بهذه الصيغة ألطف من التكليف بصيغة مباشرة نحو: "فصوموه، فصمه، فصوموا"، وهكذا القرآن لا تفارقه الرحمة الربانية. 10-                    في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة/ 185)، إبقاء على رخصة الفطر للمريض أو المسافر، مع قضاء ذلك الصوم في أيام أخر بعد زوال العذر، وكرر – هذا الحكم – لئلا يُتوهم نسخه بتعميم: من شهر.." (تفسير الجلالين)، وهو أيضاً إبقاء على رحمة الله وتيسيره على عباده، وهو أرحم الرحمين. 11-                    في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، تقرير لقاعدة شرعية عامة كلها رحمة ورأفة ولطف، فالله عزّ وجلّ – في كل ما يشرعه ويأمر به – يريد التيسير والتخفيف، وإن كان ظاهر العبادة غير ذلك أحياناً، ومن غاية الرحمة واللطف أن تأتي هذه القاعدة الشرعية العامة في ثنايا أحكام الصيام فهي تضفي على الآيات ظلال المودة ونسائم الأنس بمحبة الله اللطيف الرؤوف بعباده المؤمنين، إذ إنّ القاعدة تنفي كل ما قد يخامر القلب من إحساس بثقل هذه العبادة التي كُلّف بها، وتزرع الثقة بأن كل أحكام الله يسر ومرحمة، وأنّ الله سبحانه لا يشرع ما فيه العسر والمشقة على العباد، كيف وهو أرحم الرحمين؟ 12-                    في قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185)، بيان لغايات، وحكم، وفوائد الصيام، فهذه التشريعات الربانية هي من أجل أن يكمل المسلمون صيام شهر كامل، ومن أفطر بعذر فعليه القضاء ليكمل عدة الشهر – وهي تشريعات تهدف إلى أن يكّبر المؤمنون ربهم، ويشكروه على نعمه التي من أجلها هدايته لهم. ومن المعلوم أن ذكر غايات وأهداف الأمر والتشريع مما يدعو إلى مزيد من الإقبال والإمتثال للأمر. 13-                    في الآية التالية يقول الله عزّ وجلّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، وفي هذه الآية "نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الإستجابة لله" (في ظلال القرآن، ج1، ص173) إذ فتح الله سبحانه في هذه الآية باب الدعاء على مصراعيه. ولعل من بعض أسرار ورود هذه الأية في ثنايا آيات الصيام أن تكون منة في مقابل التكليف، فمقابل العبادة الشاقة التي تحرم النفس من بعض حاجاتها ومطلوباتها: هناك عبادة يسيرة تفتح باب العطاء والكرم والإجابة، إنها لفتة عجيبة تحمل رحمة وتودداً عظيماً من الرحيم الودود سبحانه. 14-                    في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187)، بيان لتدرج من نوع آخر في التشريع نحو الرحمة، والتيسير، والتخفيف، وهي رخصة من الله، ورفع لما كان عليه الأمر في إبتداء الأمر بالصوم، فقد كان الصائم حين يفطر إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى الصلاة العشاء، أو إلى أن ينام. ومتى نام أو صلى العشاء حُرم عليه كل ذلك إلى الليلة القابلة، فوجد المؤمنون الأولون في ذلك مشقة كبيرة (تفسير ابن كثير، ج1، ص209). ثمّ نسخ الله ذلك الحكم بهذه الآية: "فردهم إلى اليسر، وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة" (في ظلال القرآن، ج1، ص174). لقد كان هذا التدرج نحو التيسير والتخفيف، مقابلاً للتدرج السابق نحو الإلزام والإيجاب، فلمّا أوجب الله صيام الشهر جعل مدة الفطر فيه من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وفي التدرج رحمة بالمكلفين، ورأفة بالمؤمنين. 15-                    في قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) (البقرة/ 187)، يمتن الله على عباده برحمته لهم ورأفته بهم، حيث تاب وعفا عنهم مع ما وقع منهم من مخالفة شرعية في عهد التشريع الأوّل، فقد وقع بعض الصحابة – رضوان الله عليهم – في ذلك حين جامع بعضهم زوجته بعد نوم أو بعد العشاء (ابن كثير، ج1) وفي توبة الله وعفوه عنهم رحمة عظيمة، وهو أيضاً بيان لعلة التخفيف السابق، وهو رفع الحرج والإثم عن المؤمنين، مما يدل على مدى رحمة الله بعباده المؤمنين. 16-                    في قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة/ 187)، نجد أربعة أفعال أمر متصلة بضمير المخاطبين وهي: باشروهن، ابتغوا، كلوا، اشربوا، لكن هذه الأوامر لا تفيد أكثر من الإباحة، وليست أوامر ملزمة مثل الأمر بالصوم في نهار رمضان، ومع ذلك نجد هنا الألفاظ مباشرة صريحة موجهة للمخاطبين غير مرتبطة بشرط، وهي في نفس الوقت أوامر محببة إلى النفس يميل إليها الطبع، بينما لم نجد هذه الصيغة المبنية للمعلوم الموجهة للمخاطب غير المقيدة بشرط، لم نجدها في بيان فرضية الصيام، وفي الأمر بصيامه لمن شهده، ذلك أن من رحمة الله وتودده بعباده في القرآن الكريم أن يعدل عن الصيغة المباشرة في الأمر الشاق الثقيل على النفس، وأن يوجه إلى الأمر المحبوب المألوف بصيغة مباشرة ومطلقة. هذه بعض دلائل الرحمة الربانية التي تبينت في آيات الصيام، بعضها رحمة في الأحكام والتشريعات، وبعضها رحمة في الأساليب والصيغ، والقرآن العظيم كله رحمة، فهو منزل من الرحمن الرحيم، البر الكريم.►

ارسال التعليق

Top