• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رؤية الإسلام للحوار الديني

محمد محفوظ

رؤية الإسلام للحوار الديني

◄لا شكّ في أنّ ما سُمِّي في مدونات المؤرخين بـ"صحيفة المدينة"، وهي نص العقد والاتفاق الذي أبرمه الرسول (ص) مع مكوّنات وتعبيرات مجتمع المدينة آنذاك، يُعدّ من النصوص التأسيسية التي توضح بشكل لا لُبس فيه طبيعة العلاقة القائمة، أو التي يجب أن تقوم بين مختلف المكوّنات الدينية والقومية للاجتماع السياسي الإسلامي. فهو (أي النص) "يكشف عن النوايا الحقيقية للإسلام الذي أقدم لأوّل مرة في التاريخ الحضاري على إنشاء مجتمع واحد مختلط (وطني وسياسي ومدني)، حيث يقوم الناس على اختلاف أديانهم بمسؤوليات واحدة في حياتهم الدنيا".

ولقد استنبط العلماء والفقهاء هذه الحقيقة الدستورية والقانونية والسياسية من المقولة الواردة في "صحيفة المدينة" (لهم مالنا، وعليهم ما علينا). فالحقوق كلّها متساوية كما الواجب. فالاختلافات الدينية أو السياسية لا تشرّع للتمييز، بل تؤكد ضرورة المساواة وتكافؤ الفرص. لذلك فإنّ العلاقة التي تؤسسها "صحيفة المدينة"، هي علاقة المساواة والتكافؤ ونبذ كلّ أشكال التمييز والتهميش.

جاء في الوثيقة "إنّهم أُمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو الحرث على ربعتهم، وبنو ساعدة على ربعتهم، وبنو جشم على ربعتهم، وبنو النجار، وبنور عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو أوس وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم. وإن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل".

وفي الإطار الديني، فإنّنا نعتقد أنّ الحوار بين الإسلام والمسيحية لم ينقطع منذ بزغ فجر الإسلام. ولقد اتخذ هذا الحوار أشكالاً متعددة وموضوعات مختلفة. فتارة يكون الحوار ذا طابع لاهوتي – عقدي، يُعنى بشؤون الربوبية والوجود والآخرة وما أشبه، وتارة أخرى يناقش قضايا مُعاصرة تهم الإنسان والمجتمعات المعاصرة. "وقد تجلّى هذا الحوار أوّل تجلّياته في القرآن الكريم، وكان ذا اتجاهين: أحدهما، يتمثّل في دعوة المسيحية إلى الإيمان به، باعتناقه والاعتراف له بأنّه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية. وثانيهما، يتمثّل في دعوة المسيحية – إذا رفضت الإيمان به – إلى التعايش معه بعد الاعتراف به. إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق".

إنّ الرؤية القرآنية لا تفرّق بين أنبياء الله تعالى، وتعتبرهم جميعاً في قافلة واحدة، وهي قافلة الإيمان والهُدى. يقول تبارك وتعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285).

وتشترك الرسالات السماوية كلّها بالدعوة إلى العدالة وسيادة قيمها ومتطلّباتها في الواقع الإنساني. قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (الشورى/ 13-14).

ووجّه القرآن الحكيم إلى أهل الكتاب، نداء التعاون على مقاومة الظلم ونُصرة الحقّ وإقامة العدل. قال تبارك وتعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).

فـ"الموقف الأساس في الإسلام من الإنسان هو التكريم، بصرف النظر عن أي انتماء من الانتماءات. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). والتكريم الإلهي للإنسان نابع من السر الإلهي في الإنسان أنّه نفخة من روح الله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر/ 29). (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة/ 9).

وهو الذي اقتضى سجود الملائكة له. ومهمة الإنسان على الأرض هي أنّه خليفة الله. فهذا الإنسان المكرّم هو خليفة الله في الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30). إنّ هدف الخلق الأوّل للإنسان هو أن يكون خليفة الله للإعمار وللوصول إلى التكامل الروحي.

وعليه، فإنّ تاريخ الإيمان وفق الرؤية الإسلامية تاريخ واحد، وأنّ تجلّيات الإيمان على ألسنة الرُسُل والأنبياء هي تجلّيات لحقيقة واحدة لا تفاوت في جوهرها، وإنما تتفاوت في سعتها وعمقها وإجمالها وتفصيلها.

والسؤال الذي يُطرح هنا هو: كيف نظر القرآن الحكيم إلى أهل الكتاب. بالإمكان الإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط التالية:

إنّ الذكر الحكيم علّم المسلم أنّ أهل الكتاب، هم سلفه في الإيمان الإبراهيمي، وأنّ بينه وبينهم قرابة المشاركة في هذا الإيمان، وإنّ إيمانهم جزء مقوّم لإيمانه الإسلامي. قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136).

وعلى أساس الإيمان الجامع، وجّه القرآن الحكيم المسلمين إلى الجامع التوحيدي نحو أهل الكتاب. قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).

التعامل والتحدّث معهم باحترام وتقدير، ولعلّ في تسميتهم بأهل الكتاب، للتأكيد على القرابة الروحية والإيمانية، ما يشير إلى هذه الحقيقة، ويؤكدها، وصنّفهم الذكر الحكيم إلى قسمين: منهم من استقام، ومنهم من انحرف. قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 113-114).

لم ينعكس هذا النقد الذي مارسه القرآن الحكيم تجاه أهل الكتاب للاختلاف العقدي على التشريع الاجتماعي والسياسي. بل أكّد القرآن الحكيم مبدأ الاستقلال التشريعي لأهل الكتاب في شؤونهم وأحوالهم كلّها. قال تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مرجعكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 47-48).

وبالتالي فإنّ الاختلاف العقدي، لم يفضِ إلى إلغاء شخصيتهم الثقافية، بل على العكس تماماً. حيث إنّ صيانة مبدأ الاستقلال التشريعي، قاد بدوره إلى استقلال الشخصية الثقافية وحرّية ممارسة العبادة وكلّ الطقوس الدينية والشعائرية. بل إنّ القرآن الكريم وفي سورة كاملة (سورة البروج)، خلّد ذكر شهداء نصارى نجران، عبّر عنهم بالمؤمنين ومدحهم. فقال عزّ مَن قائل: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج/ 4-10).

وفي سورة الروم تسجيل صريح وواضح لتعاطف المسلمين مع المسيحيين في مواجهتهم وصراعهم مع المجوس الذين اعتبرهم مشركو مكة أقرباء روحيين لهم، في مقابل اعتبار النصارى أقرباء روحيين للمسلمين. قال تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الرّوم/ 1-4).

فالرؤية الإسلامية والتجربة التاريخية الإسلامية الأولى، كلّها مضامين وحقائق، تؤكد قيم الشراكة والاحترام المتبادل من أهل الديانات التوحيدية الكبرى. ولكن ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية، نتجت ظواهر مضادة الحقائق والمضامين الثابتة.►

 

المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرّية والمشاركة

ارسال التعليق

Top