• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رسالة العظيم هي القيمةُ الكبرى

رسالة العظيم هي القيمةُ الكبرى
   ◄"قد يكونُ مولدُ العظيم قيمة، لكنّ رسالته هي القيمةُ الكبرى".

وفي هذه الأيام نستقبل ذكرى ولادة نبيّنا محمّد (ص)، القضية هي أن نتمثّله هو في رسالته المتمثلة في شخصه، فرسول الله (ص) إسلام كلّه، وهو القرآن الناطق، عقله عقلُ الإسلام، وقلبه قلب الإسلام، ومنطقه منطق الإسلام، وحركته حركة الإسلام، فليس فيه شيء غير الإسلام حتى وهو يعيش في بيته مع عياله، وحتى وهو يتحدّث مع الناس. فرسول الله (ص) لا يمكن أن يقترب من الباطل حتى في طريقة أكله وشربه.

 

التكامل في شخصية الرسول (ص):

ولهذا فإنّ الحديث عن أنّ رسول الله (ص) يخطئ في غير مجال التبليغ، حديث عن تقسيم شخصية رسول الله، فبعض الناس الذين يتحدّثون عن عصمة في التبليغ وعن خطأ يمكن أن يمتدّ إلى الانحراف العملي أو في واقع الحياة، لا يعرفون حقيقة الإنسانية، وهي أنّ الإنسان واحد فينا، فأنت إمّا أن تكون معصوماً بكلّك، وإمّا أن تكون غير معصوم بكلّك، أمّا أن تكون معصوماً في جانب، وغير معصوم في جانب، فمن الذي جزّأ عقلك حتى يلتقي بالباطل تارة ويلتقي بالحقِّ أخرى فتضع بذلك الفواصل لتجعل فيه منطقة للحقِّ وأخرى للباطل؟ ومن الذي قسّم قلبك فجعلك تنفتح في عاطفتك على الحقّ تارةً، وتنفتح على الباطل تارةً أخرى، ليكون هناك فاصل بين الحقِّ والباطل في قلبك.

إنّنا نفهم معنى العصمة في النبوّة من خلال فهم معنى النبوّة في الدور، فهي ليست مجرّد شخص يحمِّله الله رسالة ليكون بمثابة ساعي البريد للناس في إبلاغ الرسالة ويرجع إنساناً عادياً كبقية الناس. وهي في معناها: رسالة الله التي لابدّ أن تتجسّد في الرسول كما في الوحي، بحيث أنّ الله يريد أن يغيِّر العالم على أساس الحقِّ من خلال إنسان يتجسّد فيه الحقّ، وإذا عرفنا أنّ الله الذي يخلق الشمس نوراً كلّها، ويخلق ماءً يتفجّر بكلّه ويعطي بكلّه، فلماذا لا نتصوّر أن يخلق الله إنساناً هو النورُ كلّه؟ كيف هو النورُ فيه؟ لقد خلق الله له عقلاً فيه كلّ الإضاءة فلا ينفتح إلّا على الحقِّ، وخلق له قلباً يملك موازين العاطفة في حركة العاطفة بالحقِّ، وهداه الصراط المستقيم في حركته.

 

حقيقة الخطاب الإلهيّ:

أمّا أن يتحدّث الناس عن بعض الآيات القرآنية التي تقول إنّ الله تعالى عاتب رسوله (ص) كما في (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (التوبة/ 43)، ففي القرآن خصوصية لابدّ أن ننتبه إليها، وقد حدّثنا عنها أحد أئمة أهل البيت – عليهم السلام – وهو الإمام محمّد الباقر (ع) فقد روي عنه أنه قال: "إنّ القرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة" فالله إذ يخاطب نبيّه يخاطب الناس من خلاله ليقول لهم إذا كان خطاب العنف في فرضية الانحراف يوجه إلى النبيّ فكيف بكم؟! إنّه يريد أن يصوّر عظمة القضية التي يعنف فيها في خطاب النبي لا لأنّ النبي (ص) يعيش أجواء هذه المسألة، ولكن ليعرّفنا سبحانه وتعالى أنّ المسألة بمستوى الخطورة التي لو صدرت من النبيّ لكان لله عزّ جلّ منه موقف عنيف، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (الزّمر/ 65)، فهل أنّ فرضية أن يشرك الأنبياء الذين جاؤوا بالتوحيد هي فرضية معقولة؟ بالطبع لا.

ولكن كما يقول الفلاسفة فإنّ (فرض المستحيل ليس مستحيلاً)، وكما في قوله سبحانه: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة/ 44-46)، ولذلك فإنّ الله تعالى أراد أن يؤكد بشرية النبيّ في حياته، ولكنها بشرية معصومة بالوحي وبالعلم الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى له، وعندما قال رسول الله (ص) "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" فمعنى ذلك أنّ العلم كلّه اجتمع في ذاته، فهو المدينة وهو الذي تجد العلم فيه، وعندما يتحدّث عليّ (ع) عن علمه فإنّه يتحدّث عن التلمذة على رسول الله (ص). ولذلك علينا أن لا نغلو فنساوي عليّاً (ع) بالرسول (ص) أو كما يغلو البعض فيرفعه فوقه، في حين أنّه يقول: "علّمني رسول الله" فأنا تلميذه "ألف باب يفتح من كلِّ باب ألف باب".

فمعنى قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم/ 3)، أن ليس للنبيّ هوىً يدفعه إلى أن يتكلّم أيّة كلمة مخالفة لما يريده الله، ولذلك كانت كلماته شريعة، وكان فعله كذلك شريعة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).

لذلك افهموا القرآن عندما يتحدّث عن رسول الله (ص) بإسلوب قد يوحي بحسب بعض قواعد اللغة العربية بأنّ الكلام موجّه إليه وهو – في الحقيقة – ليس موجّهاً إليه وإنما يخاطبنا من خلاله، فلقد تعلّم رسول الله (ص) من القرآن هذا الأسلوب عندما أراد أن يعبِّر عن خطورة مسألة معيّنة تتصل بالنظام العام لانضباط الناس في الحقِّ أنّه قال: "إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها"، فهل يمكن أن تتصوّر فاطمة (عليها السلام) تسرق وهي التي أذهب الله عنها الرِّجس وطهّرها تطهيراً، كما أذهب عن أهل البيت – عليهم السلام – ذلك، ولكنّه أراد أن يبيِّن أنّ الإسلام لا يمكن أن يتسامح مع أي إنسان يمكن أن يصدر عنه الخطأ حتى لو كان في هذا المستوى.

 

العمل هو الأساس:

ففي (طبقات ابن سعد) أنّ رسول الله (ص) عندما كان في مرض الموت وكان إلى جانبه عمّه (العباس) وعمّته (صفيّة) وابنته (فاطمة) التفت إليهم بأسمائهم وبصفاتهم النسبية: (يا عبّاس بن عبدالمطلب، يا عمّ رسول الله إعمل لما عند الله فإنِّي لا أغني عنكَ من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبدالمطلب، يا عمّة رسول الله إعملي لما عند الله فإنِّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمّد يا بنت رسول الله إعملي لما عند الله فإنِّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً) أي أنّ العمل هو الأساس والشفاعة تأتي في مرتبة متأخرة، لهذا علينا أن نفهم بأنّ رسول الله (ص) هو الحقُّ كلّه، وأنّه العدل كلّه، وأنّه النورُ كلّه، والصفاء كلّه.

وعندما نقف في ذكرى رسول الله (ص) نلاحظ شيئاً يتصل ببعض تقاليدنا الجديدة، وهو أنّ القرآن الكريم وحتى في السنّة النبوية الشريفة لم يتحدّث عن مولد أيّ نبيّ إلّا نبيّين فقط وهما: (موسى) (ع) لأنّ الله أراد أن يتحدّث عنه من باب كرامته به والمعجزة في ذلك، وأراد ذلك كجزء من تصوير البيئة وسيطرة (فرعون) عليها، فالمولد هنا مرتبط بطبيعة القصّة لأنّه له معنى خاصاً.

 

ولادة السيِّد المسيح (ع):

والمورد الآخر، هو ولادة عيسى (ع) باعتبار أنها مظهر لقدرة الله وإلّا فإنّ الإسلام بشكل عام لا يهتم بمناسبات المولد، بما هي تأريخ للحظة تأريخية معيّنة بعيداً عن المفاهيم العقيدية والتربوية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تأكيد حديث بعض الناس أنّ الاحتفال بالمولد بدعة فهذا كلام لا معنى له.

ففي الإسلام حركة العظيم هي القيمة الكبرى، ودور العظيم هو القيمة، ورسالة العظيم هي القيمة، ولذلك نرى أننا عندما تحدث القرآن الكريم عن النبيّ (ص) لم يتحدّث عن مولده أبداً (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ) (الجمعة/ 2)، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب/ 45).. إلخ، فكلّها تتحدّث عن الرسالة، وهكذا بالنسبة للأنبياء، وعلى هذا فإنّ الإسلام يريدنا أن نرتبط بالناس من خلال دورهم الحركيّ، فبمقدار ما يملك الإنسان من دور حركي وعطاء للإنسانية بحيث يغني الحياة، يمكنك أن تتحدّث عن تاريخه، فتاريخ الإنسان يبدأ من دوره لا من ولادته، وقد نحتاج أن ندرس حياة الإنسان منذ ولادته لنفهم بعض المؤثرات، أو نحيط بالشخصية كلّها، كما في اهتمامنا بحياة الأنبياء والأئمة (ع) منذ ولادتهم.

 

أفضل هديّة:

ولهذا فنحن نحتقل في مولده وفي مبعثه وفي إسرائه وفي معراجه على أساس أننا نحتقل به بصفة أنّه رسول الله وأنّه يمثل الإنسان الكامل، وأنّه يمثل قرآناً يتحرّك، فلقد كان الناس يقرأون القرآن من خلال كلماته، وكانوا يقرأون القرآن من خلال سيرته، وكانوا يسمعون منه الآيات ويتمثلونها في ملامحه وفي كلِّ حركته وحياته.

ومن هنا أتريدون أن تقدموا هدية لرسول الله (ص) في عيد مولده كما اعتدتم ذلك في تقديمكم هدية لإنسان ما في عيد ميلاده؟ لا تقدِّموا له الزينات في شوارعكم، ولا أناشيد المولد في موسيقاكم وألحانكم وحسب بل ليقدِّم كلّ واحد نفسه إلى رسول الله مسلم القلب والحركة والعلاقة والتطلّع ليقول له: يا رسول الله إني أقدِّم نفسي كمسلم يعيش الإسلام من خلال كل ما عشته وبلّغته، فهي أعظم هدية تقدِّمها لرسول الله (ص).

وإذا كنت تعصي الله قبل ذلك في الصغير والكبير وجاء يوم المولد وأصبح الصباح عليك فتُب إلى الله من ذلك وقدّم توبتك هدية لرسول الله (ص) فإنّه جاء ليتوب الناس عن الشرك، وعن الكفر، وعن العصبية.

وإذا كنت متعصباً لعائلتك أو لشخصك أو لمن تحب، فقل لرسول الله (ص): يا رسول الله كما أنّ الذين أسلموا على يديك منذ البداية رفضوا عصبياتهم وجاؤوا إليك من أجل أن يعيشوا الرسالة معك بعيداً عن العصبية فإننا نرفض العصبية.

ليعيش رسول الله (ص) في عقولنا عقلاً إنسانياً منفتحاً على الحقِّ، وليعش في قلوبنا عاطفة إنسانية تتحرّك في الخط العاطفي على أساس الحقِّ، وليعش رسول الله في حياتنا حركة للدعوة إلى الله، وللجهاد في سبيله.. وليكن كل واحد منّا رسول الله (ص) ولو بنسبة الواحد إلى الألف، وليكن فينا شيء منه، من أخلاقه، ومن تقواه، ومن روحانيته، ومن حركته، ومن بطولته في سبيل الله، فذلك هو معنى المولد ومعنى الاحتفال بالمولد.►

ارسال التعليق

Top