• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رمضان المبارك.. شهر العبادة

د. إبراهيم الجنابي

رمضان المبارك.. شهر العبادة

   عبادة الله سبحانه وتعالى هي الغاية من خلق الإنسان، قال الله تعالى في سورة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، ويأتي شهر رمضان ليذكّر العبد المسلم بما ينبغي أن يكون عليه العبد عندما يجعل من حياته كلها عبادة لله تعالى، ويغير من عاداته وغرائزه وسلوكه وفق ما يأمره به مولاه عز وجل ابتغاء مرضاته. بشر رسول الله (ص) الأمة الإسلامية ببشائر عظيمة تختص بشهر رمضان الفضيل، فهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وهو شهر تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد فيه مردة الشياطين، وهذه البشائر العظيمة من شأنها أن تحث كلّ عاقل على الاستزادة من العبادة والعمل الصالح في هذا الشهر الفضيل رجاء إغتنام هذه العطايا الربانية والمنح الإلهية. انّ الصيام من أعظم العبادات في الإسلام لأنه يزرع التقوى في قلب المسلم، ويثمر مخافة الله عز وجل ودوام مراقبته والتزام أوامره، حيث يترك الصائم طعامه وشرابه وسائر المفطرات طواعية لربه تعبداً وخضوعاً وانقياداً، ممتثلاً لما أمره ربه عز وجل. ومن أجل هذا كان الصيام ركناً من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إسلام الإنسان إلا بفعلها بنية خالصة لوجه الله تعالى. وإحدى العبادات العظيمة التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل.

    

    - العبادة في الإسلام:

    إنّ العبادة في الإسلام إنما شرعت لتزكية النفس وتهذيب الأخلاق والترقي في مقامات القرب من الله تعالى، ولذلك فإن أقرب العباد إلى الله تعالى وأحبهم إليه أكثرهم عبادة وإخلاصاً. وفي الحديث القدسي: "إنّ الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته". ومعنى الحديث أن المتعبد بالفرائض قد أدى أحب شيء إلى ربه تعالى وإذا إزداد من النوافل أحبه ربه وعندئذ تحفّهُ العناية الإلهية والحفظ الرباني في كل خطوة وكل مكان وزمان. كما أنّ أعظمهم مكانه عند ربه أكثرهم تقوى، قال تعالى في: (.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..) (الحجرات/ 13)، ومن ثم فإنّ التعبد في الإسلام هو في الحقيقة البلسم الشافي للنفس من كلّ أمراضها والمُذهب لكل مخاوفها وآلامها، قال تعالى في: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، وقال تعالى في: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13)، وقال تعالى في: (... قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ...) (فصلت/ 44).

    

    - صلاة وصيام:

         كان النبي (ص) يستشعر الراحة والطمأنينة في العبادة حتى إنه كان يقول لبلال حين إقامة الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"، وهذا يرشدنا إلى أن الصلاة والعبادة راحة للمصلي وسكينة للنفس، وهذا هو ما كان يفعله (ص)، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه: "إذا حَزَبَهُ امر صلى"، و"حزبه" بمعنى أهمّه وأشغله. أما الأحاديث النبوية الواردة في فضل الصيام فهي كثيرة، فقد بشر النبي (ص) الصائمين بالأجر العظيم والثواب الجزيل، فالصيام سبب عظيم لغفران الذنوب وابتداء عهد جديد من الطاعة ويتجلى ذلك في قوله (ص): "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". والصيام سبب في فرح الصائم وسعادته في الدنيا بإكمال العبادة، وفي الآخرة بالثواب العظيم، إذ يرى أجر الصيام عند ربه حين يلقاه فيفرح ويستبشر. قال رسول الله (ص): "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمئة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخُلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك". والصوم حاجز عند النار ومُبْعدٌ لصاحبه عن حرها ولهيبها، ولأجل ذلك فقد أخبرنا (ص) بما أعد الله تعالى لمن صام يوماً في سبيل الله فقال: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً"، والصوم باب موصل إلى الجنة، قال رسول الله (ص): "إنّ في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلن يدخل منه أحد". والصيام شافع لأهله يوم القيامة فيدخل أهله الجنة، قال رسول الله (ص): "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه. قال: فيشفعان".

    

    - خاتمة المسك:

         وأما العشر الأواخر من رمضان فإنها خاتمة المسك التي فيها ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، ولذلك كان رسول الله (ص) يزداد من العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فقد كان رسول الله (ص): "يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره". وكان رسول الله (ص): "إذا دخل العشر، أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر". والمقصد العظيم من قيام الليالي العشر كلها وإحياء الليل بالعبادة والاجتهاد فيها هو لإدراك ليلة القدر، فهذه الليلة هي أعظم ليلة في العام على الإطلاق، من قامها إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، قال رسول الله (ص): "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وهي مميزة بذلك، لأنها الليلة التي ابتدأ فيها نزول القرآن الكريم على قلب نبينا محمد (ص)، ولأنها الليلة التي تقدر فيها أقوات السنة كاملة فمن وافق هذه الليلة فليدعُ بهذا الدعاء الذي أوصى به النبي (ص): "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

    

    - وصايا مهمة:

         هنا بعض الأمور المهمة لمن أراد أن يحقق لنفسه المغفرة والقبول والعتق من النار في هذا الشهر المبارك منها وجوب الإخلاص في العبادات والأعمال التي يقوم بها، واحتساب الأجر عند الله تعالى، وطلب المثوبة منه وحده سبحانه فهو المنعم المتفضل بالأجر العظيم. ومن الأمور التي تحقق المغفرة والقبول والعتق من النار، التوبة ظاهراً وباطناً من كل الآثام والموبقات، والامتناع عن محبطات الأجر والثواب كالغيبة والنميمة وإيذاء الناس بالكلام والفعل. فقد قيل للنبي (ص): يا رسول الله. إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله (ص): "لا خير فيها، هي من أهل النار". وقالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار، ولا تؤذي أحداً؟ فقال رسول الله (ص): "هي من أهل الجنة". و"الأثوار" جمع ثور وهي قطعة من الأقط وهو لبن جامد كان العرب يصنعونه من اللبن الرائب. فالمرأة الأولى كانت تصوم وتقوم لكنها لم تستفد من ذلك بسبب إيذائها لجيرانها بلسانها، والأخرى تصلي المكتوبة وليس عندها قيام وتتصدق بالقليل مما عندها لكنها لا تؤذي أحداً فبلغت بذلك مرضاة الله عز وجل. ومن تلك الأمور أيضاً شغل الوقت في الخير النافع ليلاً ونهاراً في رمضان، فلا يجوز الانشغال بأمور تضيع الأجر، مثل النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، كما لا يجمل للصائم الانشغال بأشياء هي مضيعة للوقت كالإكثار من اللعب واللهو، ولا يليق بالقائم الجلوس بالساعات على ما لا ينفع وينشغل بذلك عن الخير العظيم كقراءة القرآن والذكر والاستغفار والدعاء. ومن جملة تلك الأمور الانتباه إلى الأحكام الفقهية للصيام وتعلّمها من مصادرها الموثوقة، لأنّ كثيراً من الناس يفسدون صيامهم لجهلهم بأحكام الصيام الفقهية. لذا، يجب على كلّ مسلم تعلم الأحكام الشرعية حتى يتمكن من أداء العبادة على أكمل وجه وأحسنه.

ارسال التعليق

Top