• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

شروط كمال التوبة

مجموعة مؤلفين

شروط كمال التوبة
◄تعريف التوبة: التوبة من الأمور المهمة والصعبة، وهي عبارة عن الرجوع من وحول المادة وظلمانيتها إلى نور النفس وروحانيتها اتي كانت قد حجبتها الذنوب وغطتها غشاوة من المعاصي. توضيحة: عندما يولد الإنسان تكون نفسه خالية من كل أنواع الكمال والجمال والنور والبهجة، كما أنها خالية من أضداد هذه الصفات المذكورة الأربعة فكأنها صفحة نقية خالية لم يُكتب فيها شيء ولكنها مستعدة لنيل أي صفة من الصفات فيمكن أن يملأ الإنسان هذه الصفحة بما يشاء، صفات رفيعة أو وضيعة. ولكن فطرة الإنسان التي ترسم توجهه الأولي عُجنت على الاستقامة ولها نورها الذاتي، وعندما يبدأ الإنسان بارتكاب المعاصي والسيئات يبدأ الظلام والسواد بالظهور في صفحة القلب هذه، فكلما ازدادت الذنوب والمعاصي كلما اتسعت رقعة السواد والظلام إلى أن تحتل القلب كله وينطفئ نور الفطرة التي أودعها الله تعالى فيه ويبلغ مرتبة الشقاء الأبدي. ولكن إذا استيقظ الإنسان قبل مرحلة الشقاء الأبدي ثمّ اجتاز منزل اليقظة ودخل على منزل التوبة مستوفياً شروطها التي سيأتي ذكرها فسيزول هذا الظلام من نفسه وسيعود إلى نور الفطرة.   أركان التوبة: هناك أركان وشرائط لا يمكن أن تكون توبة الإنسان صحيحة ومقبولة إذا لم تتوفر فيها هذه الشروط والأركان، وسنذكر هنا أهمها: 1-    الشعور بالندم القلبي على ما ارتكبه من ذنوب ومعاصي، وعلى تقصيره في أداء التكاليف الشرعية، ويعمل على تقوية الندامة في قلبه ويضرم النار فيه على غرار "نار الله الموقدة" فتحترق بنار الندامة هذه جميع المعاصي وتزول كدورة القلب وصدئه. وليعلم أنّه إن لم يحرق قلبه بنار الندم التي هي باب من أبواب الجنة، فعليه أن يستقبل في ذلك العالم النار العاتية حيث ستفتح في وجهه أبواب جهنم!. 2-    العزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائياً.   تذكير النفس: لتحقيق هذين الركنين يجب على الإنسان أن يتذكر دائماً تأثير معاصيه في روحه، وقد ذكرت الروايات أنّ المعصية تحدث نقطة سوداء في قلب الإنسان وتأخذ هذه النقطة بالتوسع وتغطية القلب حتى يصل إلى مرحلة الشقاوة الأبدية التي لا رجعة فيها! وتذكر عواقب المعاصي في عالم البرزخ يوم القيامة كما ورد في الروايات الشرعية والأدلة العقلية، فإنّ للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب معها، تملك الإرادة والشعور، ويكون شغلها الشاغل تعذيب الإنسان المذنب والإساءة إليه! بل إن نار جهنم أيضاً تحرق الإنسان وتعذبه عن شعور وإرادة ووعي! (هل من مزيد). فإذا استطاع من خلال ذلك تحقيق ركني التوبة هذين يتيسر أمر سلوكه طريق الآخرة، وتغمره التوفيقات الإلهية ليصبح مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222)، ومصداقاً لرواية الإمام الصادق (ع) التي ذكرناها في بداية الدرس.   شروط التوبة: بالإضافة إلى الأركان التي ذكرناها فهناك شروط يجب أن تتحقق حتى تقبل التوبة عند الله تعالى، وهناك شرطان أساسيان لقبول التوبة، وقد جمعها أمير المؤمنين وملك الكلام عليّ بن أبي طالب (ع) في كلمته المروية عنه في نهج البلاغة: فقد روي في نهج البلاغة أن قائلاً قال بحضرته (ع): أستغفر الله، فقال له: "ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار إنّ الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان: أوّلها الندم على ما مضى، الثاني، العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها. والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله". فبالإضافة إلى ركني التوبة اللذين مرَّ ذكرهما يشتمل هذا الحديث على شرطي القبول أيضاً وهما: 1-    إرجاع الحقوق لأهلها، فعلى الإنسان التائب أن يرد كل ما أخذه من الناس من دون حق، وعليه أن لا يتوانى في ردها أو طلب السماح منهم، وليعلم أن أصحاب الحقوق سيطالبونه بها يوم القيامة ولا وسيلة له لأدائها هناك سوى أن يتحمل ذنوب الآخرين ويدفع إليهم أعماله الحسنة! 2-    تأدية حقوق الخالق له سبحانه وتعالى: فيقضي ما فاته من الفرائض الإلهية ويؤدي ما لم يفت وقته بعد. سهولة التوبة لو لا الوسوسة: وعليك أن لا تيأس من رحمة الله ولطفه ولا تسمح للشيطان والنفس الأمارة بالهيمنة والوسوسة في قلبك، فيصوِّر انّ التوبة أمراً شاقاً وصعباً ويصرفانك عنها، حتى وإن كانت بدأت السير ولو كانت بدايتك بخطوات قليلة حسب استطاعتك، واعلم أنّ اليأس من رحمة الله تعالى من أعظم الذنوب.   شروط كمال التوبة: إذا تحققت الأركان والشروط المتقدمة فإنّ التوبة ستكون مقبولة بإذن الله تعالى، ولكن مع ذلك هناك شروط يمكن إضافتها إلى التوبة لتوصلها إلى الكمال وتجعلها على أفضل وجه فلكل منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف قلوبهم وهما شرطان أيضاً، ورد ذكرهما عن عليّ (ع) في الرواية السابقة: 1-    محو آثار الذنوب النفسية: إن لكل معصية ولهو انعكاس وأثر في الروح، فإنّ هذه المتعة الطبيعية التي عاشها الإنسان مع المعصية ستبقى تلقي بظلالها على نفسه وروحه وتجذبها إلى المعاصي، وما دامت هذه الظلال عالقة بها فإنّ النفس ترغب إليها، ويعشقها القلب، ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمردها على صاحبها والعياذ بالله وهذه الآثار ستبقى حتى بعد زوال المعصية، فعلى الإنسان أن يهتم بإزالتها أيضاً، فيتدارك أي نقص طرأ على نفسه نتيجة حالة اللهو التي عاشها مع المعصية، فلابدّ على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يذيقَ الروح ألم الرياضة الروحية ومشقة العبادة، فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة من العبادة، وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ المادية تداركه بالصوم والمستحبات المناسبة حتى تطهر النفس من كل آثار المعاصي وتبعاتها، فتعود النفس إلى صفائها كما كانت قبل المعصية، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصيلة. وتحصل له الطهارة الكاملة. فلابدّ للتائب أن ينتفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة الروحية من العبادات والمناسك حتى تزول معها كل تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام. 2-    محو آثار الذنوب الجسمية: إنّ بعض الذنوب بالإضافة لآثارها النفسية لها آثار بدنية أيضاً، كأكل المال الحرام الذي ينبت اللحم من خلاله، إنّ هذه الآثار البدنية التي نشأت بفعل الذنوب والمعاصي ينبغي استئصالها أيضاً كما يستأصل الآثار النفسية، وذلك من خلال ممارسة الرياضة الجسمية كالإمساك عن أكل المقويات والمنشطات والصيام المستحب أو الواجب إذا كان في ذمته صيام واجب، فيذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام والمعصية أيام الخطايا والآثام. ولابدّ في غضون اشتغاله بهذه الأمور من التفكر والتدبر في نتائج المعاصي وشدة عقاب الحق المتعالي ودقة الميزان وألم البرزخ، وليشعر قلبه أن كل ذلك نتيجة الأعمال القبيحة والمخالفة لمالك الملك، لعله يحصل له نفور من المعاصي وارتداع نهائي عنها.   ما هو المطلوب في التوبة: ليس المطلوب في التوبة بدايةً الحصول على مراتب الكمال التي ذكرناها، فهي من متمِّمات التوبة ولكنها قد تصعب على البعض، فيظن أن عملية التوبة أمر شاق، فيعرض عنها ويتركها! أو يقع في موضوع التسويف والتأجيل حتى يكتب من الأشقياء! إنّ كل خطوة مهما كانت صغيرة في طريق السلوك إلى الآخرة هي أمر مطلوب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى، وعندما يضع الإنسان قدمه على الطريق فإن الله سيأخذ بيده ويسهل له الأمور بعد ذلك. وقارن الأمور الأخروية بالأمور الدنيوية، فإنّ العقلاء إذا لم يستطيعوا أن يحققوا هدفهم الأعلى والأرفع، فهم يطمحون بالحصول على المرتبة الأقل ولا يستسلمون أبداً. وأنت أيضاً إذا لم تستطع أن تحقق التوبة الكاملة، فلا تعدل عن التوبة ولا تعرض عنها وحاول أن تحقق المستوى المستطاع منها. إنّ صعوبة الطريق يجب أن لا تمنع الإنسان من السير، فإنّ الهدف مهم وعظيم جدّاً، وكلما عظم الهدف في عين الإنسان سهلت عليه الطريق وهانت في عينه مهما كانت صعبة، وأي شيءٍ أعظم من النجاة الأبدية والرَوْحِ والريحان الدائمين؟ وأي بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ إنّ هذه التوبة ستنقل الإنسان من الشقاء الأبدي إلى السعادة المطلقة، فإذا كان الهدف عظيماً إلى هذا المستوى، فلا بأس بالمعاناة والتعب لأيام قليلة.   الاستغفار: إنّ طرق باب مغفرة الله تعالى واللجوء إلى صفة الغفران من الله تعالى من الأمور الهامة التي يجب أن يقدم عليها التائب، ويطلب فتح هذا الباب له للحصول على هذا المقام، بلسان مقاله وحاله في السر والعلن وفي الخلوات، والطلب منه تعالى بكل مذلة ومسكنة وتضرع وبكاء أن يستر عليه ذنوبه وآثارها، فإن مقام الغفارية والستارية للذات المقدسة يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب، فإنّ الصور المعنوية للإنسان أشبه بالولد الذي يولد له في الدنيا، بَلْ أشدّ التصاقاً به! وحقيقة التوبة والاستغفار بمثابة قطع كل صلة مع هذا المولود ونفيه. إنّ الله سبحانه وتعالى بسبب مغفرته وستره يقطع كل صلة بين هذا الوليد المشؤوم وبين الإنسان، ويحجب عن تلك المعصية كل المخلوقات التي اطلعت عليه من الملائكة، وكتّاب صحائف المعاصي، والزمان والمكان وأعضاء نفس الإنسان وجوارحه، وينسيهم جميعاً تلك المعصية كما أشير إليها في الحديث الشريف "يُنسي مَلَكَيْهِ ما كتبا عليه من الذنوب" ويحتمل أن يكون معنى النسيان هنا هو الوحي لهذه المخلوقات بكتمان المعاصي، والوحي يتحقق بأحد شكلين: إمّا إصدار الأمر لهذه المخلوقات بعدم الإدلاء بالشهادة، أو رفع الآثار التي تركتها المعاصي على الأعضاء والتي بها تتم الشهادة التكوينية. فمع عدم التوبة يمكن أن يشهد عليه كل عضو بلسان مقاله أو حاله.   جميع الموجودات ذات علم وحياة: إنّ لكل واحد من الموجودات علم وحياة ومعرفة، بل أنها جميعاً تحظى بالمعرفة لمقام الحق المقدس جلّ وعلا، فإنّ الوحي لبقاع الأرض والأعضاء والجوارح بالكتمان وإطاعتها للأمر الإلهي، وتسبيح الموجودات بأسرها الذي نصّ عليه القرآن الكريم وأوردته الأحاديث الشريفة كثيراً، كل ذلك يدل على علم وشعور وحياة الموجودات، بل دليل على الارتباط الخاص بين الخالق والمخلوق. (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة/ 1).►   المصدر: كتاب الأخلاق من (الأربعون حديثاً)

ارسال التعليق

Top