• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صناعة الشخصية المقبولة في المجتمع

علي الأديب

صناعة الشخصية المقبولة في المجتمع
كيف نساهم في صناعة الشخصية المقبولة؟ الاجابة على هذا السؤال تستدعي تلخيص فاعلية كل من الوراثة والمحيط وطريقة عملهما في تكوين إنسان ذي ملامح وسمات معينة، تتقصد انتاجه وتستهدف نشر المعرفة الخاصة بطريقة وقائية من كل عمل أو سبب يؤدي به إلى مجانبة القصد والهدف من انتاجه. وقبل أن ندخل في صميم التوصيات الرسالية التي تضع أيدينا على الطريق السليم، لابدّ أن نسلّم به علماء الوراثة من حقائق أساسية في تفاعل هذين العاملين وتظافر جهودهما في صياغة الإنسان الذي نريده ننشده، فالله "يجري الأمور على ما يقتضيه لا على ما نرتضيه". ولا نستطيع نحن تجاوز السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى منهجاً للكون والحياة فنفشل في جهدنا دون طائل، والامام علي (ع) يقول "من كابر الزمان غُلب" و"من عتب على الزمان طالت معتبته". لذا فلابدّ لنا من الرجوع إلى حقائق العلم والتجربة ونلتزم توصيات الرسالة الإسلامية التي كشفت حقيقة العوامل الدخيلة في صناعة الإنسان وعلمته سبيل الاختيار الأنجح وحفزته على إجتناب الطرق التي لا تؤدي إلا إلى ضعف المجتمع ودماره وتدهور بنيته. ومن هذه الحقائق التي على ضوئها نقدر على تخيّر السبيل الصحيح هي: 1- إن عاملي الوراثة والمحيط يعملان متكاملين متعاضدين لا متنافرين متضادين فالمحيط الجيد يستطيع أن يخفف الأثر السيء للوراثة السيئة، وانّ الوراثة الجيدة تستطيع أن تقي الإنسان من شرور المحيط السيء إلى حد بعيد، وانّ الطامة الكبرى هي في اجتماع محيط سيء ووراثة سيئة في إنسان بعينه والسعادة الكبرى إنما تكون في إجتماع وراثة جيِّدة ومحيط جيد في إنسان بعينه. 2- إنّ المحيط الجيِّد يرافق عادة الوراثة الجيدة وانّ المحيط السيء يرافق عادة الوراثة السيئة. فأبناء الطبقات الفقيرة لا يرثون في المعتاد ذكاءً منحطاً وقدرات عقلية متواضعة فحسب بل يرثون أيضاً مفاهيم أخلاقية فقيرة وحياة مادية وطرائق تعامل غير مقبولة اجتماعياً. وذلك لأنّ الفقر ملازم لحالة اجتماعية متأخرة وصحية متردية وتعليمية متدنية، والفقير مشغول بهمه الاقتصادي لا يكون على شيء أكثر من حاجاته الغريزية الإسلامية والامام علي (ع) يقول بهذا الصدد "العسر يفسد الأخلاق". "والعسر يُخرس الفَّطنْ عن حُجته" و"الفقر أحزان"، وضرورة الفقر تبعث على فضيع الأمر"، ولذلك فهو يقرر بأنّ "القبر خير من الفقر" لأن في حياة الإنسان الفقير شقاء متنوع الوجوه، و"الفقر مذلة للنفس مدهشة للعقل جالب للهموم"، وهي لذلك تصطحب معها آثاراً نفسية سيئة وتركيبة إنسانية، يستلزم إصلاحها فريد جهد وجهاد. 3- إنّ تعاقب الأجيال يزيد حسن الحسن وسوء السيء حتى يأتي حين من الدهر يكون الفارق كثيراً بين الاثنين، فالطفل الذي يولد بوراثة جيدة وفي بيئة غنية مادياً وأخلاقياً تهيئ له الفرص لاستغلال مواهبه وتفتيحها وتنميتها ثمّ يزوج بزوجة مقارنة له في الذكاء واليسر الاقتصادي والأخلاقي فيتزايد على الأيام ارتقاءً نسلهما، أما الطفل ذو الوراثة السيئة المولود في بيئة فقيرة متأخرة إجتماعياً فيأتمر به الغباء وسوء الأخلاق والفقر ليدفعاه إلى أحضان من هي أغبى منه وأفقر ولتلد له – في الأعم الأغلب – مولوداً يتزايد غباؤه وتأخره فيقف هذا قريباً من الخطيئة والجريمة والشذوذ والجنوح. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك فيما قصه علينا من خبر قوم نبيه نوح (ع) حين دعا عليهم بقوله: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح/ 26-27)، ادراكاً منه (ع) لمصير الأجيال الآتية التي ستنشأ تحت رعاية هؤلاء القوم الكافرين المعاندين. 4- انّ الطفل لا يرث جسد والديه وقدراتهم الفطرية وقصورهم العضوي البنائي فحسب ولكنه يرث إلى جانب ذلك طريقتهم في الحياة والتعامل ومفاهيمهم الاجتماعية والأخلاقية ومعتقداتهم الدينية والسياسية ومواقفهم في الحياة ولذلك فنحن نرى غالباً ان ابن الغضوب غضوب وابن العصبي عصبي وابن المتدين متدين وابن المتهتك اخلاقياً متهتك مثله. كما نرى ان ثمة عوائل اشتهرت بالمرح أو التعصب أو سرعة الغضب أو التحسس الفائق أو التزمت في تعاملها وعرفت بين الناس بمثل هذه السمات البارزة. وإلى مثل هذا يشير الامام علي (ع) بقوله: "خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب" و"بئس النسب سوء الأدب". 5- ان ما يورث من الآباء إلى الأبناء هو ما كان على صلة ببناء العضوية واصل تكوينها لا ما طرأ عليها خلال حياتها القصيرة ولم يؤثر في طبيعة بنائها. وهذا يعني ان ما يورث حقاً: كضعف الرئة وتشوه مراكز الدماغ (نتيجة الاصابة بالزهري) كما يورث المواهب الفائقة أو القدرات الضعيفة. والذي يبقى لعمل المحيط هو ابراز هذه المواهب الموروثة وتنميتها أو خنقها وطمسها، وكذلك يبقى للمحيط أن يؤثر – على مر الأجيال – في تحسين وراثة الأبناء أو اساءتها عبر الأجيال. ولذلك من يستورث من والديه ضعفه العقلي وغباءه لا تستطيع عوامل المحيط ان تقدم له معونة تذكر، وبهذا الصدد يقول الامام علي (ع): "الحمق داء لا يداوى ومرض لا يُبرأ". فالقصور العقلي مسألة وراثية، والشذوذ يورث إذا كان أصله بنائياً، أما الاجرام فبالرغم من امكان نشوئه عن أسباب جسدية مادية، إلا أنّه يرجع في معظمه إلى أسباب محيطية. وأما الجنون فينطبق عليه ما ينطبق على الشذوذ بمعنى انّه وراثي حين يكون على صلة باسباب بنائية. ويتضح مما تقدم ان عوامل المحيط ذات تأثير كبير على المنحى العام لشخصية الفرد لذا تعتبر التربية إلى مدى بعيد مسؤولة عن سلامة الإنسان ورشده. وعوامل المحيط – كما هو معلوم – عديدة فالعائلة والمدرسة والمسجد ووسائل الاعلام والشارع والنادي والمنظمة والحزب وسواها عوامل محيطية معروفة، ظاهرة القيمة واضحة الأهمية. تشترك كلها وضمن ادوارها الخاصة في تطبيع وتعديل الامكانات الخاصة بالفرد وتوجيهها تبعاً لبرامجها وخططها.   المصدر: مجلة الفكر الجديد/ العدد الأوّل

ارسال التعليق

Top