• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ضرورة التماسك الاجتماعي

ضرورة التماسك الاجتماعي

◄قال رسول الله (ص) في جزء من خطبته في شهر رمضان: "أيّها النّاس: مَن فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل يا رسول الله ليس كلنا نقدر على ذلك فقال (ص): اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربةٍ من ماء..". من أبرز أهداف التشريع الإلهي إيجاد حالة التماسك الاجتماعي فيما بين المسلمين نفسياً وروحياً وقلبياً وأيّة فكرة إصلاحية تريد أن تحيا الزمن كلّه لابدّ من توفير حالة التماسك الاجتماعي فيما بين أبنائها وأن تركز على إذابة الأنانية والانفرادية والشعور الذاتي لدى الفرد. لذلك نرى الإسلام يشيع مبدأ الأخوة الإسلامية لتذويب الفوارق العرقية والإقليمية والمادية فيأمر بسحق الذات ونكران الأنا أمام المصلحة العامة وبالفعل تسمو الأخوة الإسلامية على كافة الروابط الأخرى النسبية منها والقومية لأنّ الأخوة الإسلامية هي ارتباطات روحية صادقة "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم" والأخوّة الإسلاميّة تستطيع أن توجد جسور متينة بين قلوب المنتسبين إلى الدين ولولا ذلك لانفرط البنيان الإسلامي بينما يحوّل الإسلام قدرات المجتمع وطاقاته وإمكانياته إلى وحدة متراصة متماسكة وبنيان صلب يصعب على الشيطان والهوى والاستعمار اختراق الجدران الصلبة هذه فالمؤمنون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص يقول القرآن المجيد: (.. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...) (آل عمران/ 103). والملاحظ في الآية المباركة التأليف بين القلوب لا العقول والأفكار والمعروف أنّ القلوب هي مصدر الحنان والحب والوداد. فالأخوة الدينية أسمى أنواع الترابط الإنساني بينما الأخوة النسبية لها رابطة الدم والميراث ويا حبذا لو تتوج بالأخوة الدينية بينما الأخوة الدينية بينك وبين أخيك تعني أن يرث روحك لا مالك ويرث رأيك ومصيرك ومسيرتك لا دراك وعقارك. لذا نلاحظ أنّ الشريعة الإسلامية تدفع بالمسلمين لإشاعة روح الأخوة فيما بينهم من دون الدخول في التفصيلات والجزئيات الفكرية وطريقة الحياة الخاصة والشخصية يقول القرآن الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10). وعلى هذه المفاهيم تتحقق الوحد بين المسلمين فلا توجد وحدة صادقة مفهومها أن يدخل الواحد بالآخر وإنما بالاحترام المتبادل والتسديد من الواحد للآخر على ضوء الظرف الذاتي الداخلي والظرف الموضوعي الخارجي وهذا بعينه يدخل الفرح والسرور في قلوب المؤمنين. فإذن نخرج بنتيجة عملية بأنّ الأُسس الاجتماعية الإسلامية تدعو للتماسك فيما بين أفراد الأُمّة وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" "إحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك" "مثل المؤمنين في توادهم وتحاببهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فهكذا مجتمع متداخل العواطف والقلوب والأجساد سيكون صرحاً متيناً لا يستطيع العدو اختراقه مهما كان ماكراً وخادعاً.

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحاداً

بينما الأُمم التي لا تعرف الوعي الاجتماعي بالمعنى الإسلامي (الإخاء والمحبة والألفة والإيثار) لا تستطيع أن تنسجم فيما بينها ويصدق عليها قول الشاعر:

شنوا فقلنا على اسم الله غارتهم *** تظنها الخيل إلّا انّهم قصبُ

يا وادعين إن استسلمتم فلم هذي *** الجيوش وماذا هذه الأهب

صفرُ العزائم هزّي جذع نخلتها *** أوْ لا تهزي فلا بسر ولا رطب

فالألفة الاجتماعية من دعائم التشريع الإسلامي ففي الحديث، المؤمن ألِفٌ مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. والكلمة الطيبة صدقة، والمؤمن حزنه في قلبه وبشره في وجهه. فتترك هذه الحالة المتفاءلة أسرار النجاح في نفوس المتلقين على عكس الحالة المتشائمة والسلبية فإنها تترك بصمات سوداء في قلوب المتلقين لتشل الآفاق وحالات النمو وتجذر الزفرات والسلبيات. فالإسلام يأمر بالسلام وردّ السلام وصلة الرحم والهدية "تهادوا تحابوا" والاستشارة. ما خاب من استشار – كلّ ذلك لتحقيق حالة التماسك بين المسلمين. وبعد هذه المقدمة للمقطع الرابع لخطبة الرسول الأعظم (ص) لشهر رمضان المبارك نلمس في هذا المقطع إبراز حالة التعاطي في الإطعام فهو من أبرز المستحبات في شهر الصيام حيث الامتناع في النهار عن تناول الأطعمة والأشربة مما يجعل الصائم أكثر شوقاً للطعام والشراب وإنّ بعض الصائمين غير قادر على تناول أنواع الأطعمة لذلك يستحب هذا العطاء الكريم الذي يدخل الفرح والسرور في قلب الصائم المدعو لمائدة الإفطار أو بتوصيل الطعام إلى البيوت فالسلام والتحية يوجبان التماسك ومما يشده أكثر هو الإطعام إما بالدعوة إلى البيوت أو بإرسال شيءٍ من الطعام ليشترك في المائدة المُعدّة مما يجعل التفاعل الروحي والمادي يشتركان في صياغة التماسك الاجتماعي فلنقرأ مفردات هذا المقطع مجدداً.. أيها الناس: "مَن فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه".

المعروف – كما قلنا – إنّ العنصر البارز في قضية الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب وصحيح أنّ المسألة بايلوجية ولكنها تنعكس بآثارها على الحالة السايكولوجية (النفسية) فنحن غير طبيعيين في فترة الصيام لفراغ المعدة من الطعام فيتسرب نوع من الضعف إلى سائر الجسد وهذا الفراغ يعكس آثاره على النفس فيبدو على الصائم شحوب الوجه والضعف وخاصة بعد الظهر وغالباً يرى الصائم منزعجاً ومقهوراً وسريع الضجر فحينما يستلمه إنسان صائم مثله ليطعمه إفطاراً مناسباً فمن المؤكد إنّه يشعر بالاستيعاب لحالته النفسية الطارئة من قِبَل إنسانٍ مثله وبنفس الظروف الطارئة فسيدخل السرور والفرح في قلب الصائمين الداعي والمدعو للمأدبة ولقد جاء في قول الإمام الصادق (ع): للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه، فهذه فرحة يحصل عليها الصائمان أما الداعي لمأدبة الإفطار فله أجر أكثر فقد قال الإمام الصادق (ع): "مَن فطّر صائماً فله مثل أجره.

ومن المؤكد إنّ مجرد الدخول في بيت الداعي للمأدبة والجلوس على مائدته وتناول الطعام سيمسح غبار السلبيات الماضية والمشاحنات المترسبة ليبدلها حباً وأُلفة. وكذلك للتوزيع على البيوت من بركات الطعام له أثره الفعّال أيضاً. يعني تارة تدعوه إلى مائدتك وبيتك ومرة تدفع له لتشاركه في مائدته وبالنتيجة ليدخل الطعام في بنائه الجسمي في بيتك أو بيته المهم الطعام منك وبهذه الحالة يكون التماسك والانشداد بين أبناء المجتمع.

وهناك تشجيع على السحور أيضاً لأنّ الإفطار في المغرب والسحور قبل الفجر هما الوجبتان الرئيسيتان للصائم فعن الرسول الأعظم (ص): "السحور بركة، تسحروا ولو بجرع الماء، ألا صلوات الله على المتسحرين".

المهم أمام هذه الكرم في الضيافة على تلك الظروف التي بيناها يجزيه الله سبحانه أجراً عظيماً فمقابل كلّ صائم تقدم له الإفطار لك أجر عتق نسمة في حساب الله ومغفرة للذنوب والمعاصي الماضية فالضيف يأتي برزقه ويخرج بذنوب أهل البيت وأهل بيت النبيّ (ص) هم رمز العطاء والكرم.

بينما نجد البعض يبخل حتى بالسلام والتحية بل يبخل بالدعاء والابتسامة للمؤمنين.

وعندما يسأل الرسول (ص): ليس كلنا نقدر على ذلك فقال (ص): "اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربةٍ من ماء"..

الكرم والعطاء بما تجود به النفس. والجود بالنفس أقصى غاية الجود – والجود من الموجود كما يقال فلنتعود على العطاء ولو العطاء القليل هذه تربية ذكية يعلمنا النبيّ الأعظم (ص) بها فالحياة قائمة على الأخذ والعطاء لا فقط الأخذ فحينما يتعود الإنسان على الأمرين يدرك أنّ الحياة معترك الأخذ والرد وليس المقياس بكثرة العطاء وإنما بالنفس الكريمة والروح المعطاءة فالنبيّ يريد أن يعودنا على البذل ولو بشق تمرة أي بجزئها، وبالمناسبة أنّ للحلوى وللتمر الذي ذكر في الخطبة المباركة تأثير صحي بالغ، كان رسول الله (ص) يشارك أصحابه في الطعام والإطعام ليخلق حالة الوئام والإخاء والتضامن والانسجام فيما بين الطبقة المؤمنة فكان التماسك على أعلى مستوياته سائد بين المسلمين بل كان يعطي ذات الصورة مع الأسرى وقصة سفانة بنت حاتم الطائي حينما أكرمها – أكرموا عزيز قوم ذل – كتبت إلى أخيها أقدم وادخل الإسلام فأنا أمام نبيّ وليس ملكاً وهكذا يعلمنا النبيّ (ص) على أسس الحب والوداد الصادق في المجتمع.► 

ارسال التعليق

Top