• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ظواهر نقديّة خاطئة

أسرة البلاغ

ظواهر نقديّة خاطئة

النقد نفسه يحتاج إلى نقد أحياناً، فليس كلُّ ما هو مطروح تحت عنوان النقد يحمل خصائص النقد الصحيح، فبعضه "مهاترة" وبعضه "تشفّي" وبعضه "انتقام" وبعضه "تنفيس عن حقد" وبعضه "إعراب عن حسد" وكما في أيّ سوق، فكذلك في سوق النقد، لا يصحُّ أن نقبلَ أيّة بضاعة مطروحة على أنّها خالية من الغش والتلاعب.

حاولنا أن نستقرئ جوانب من الواقع النقدي الميداني – ما أمكننا ذلك – لنشخص النقد (السقيم) حتى نطرده أو نبعده عن النقد (السليم) فرأينا أنّ من بين أخطاء النقد أو الممارسات النقديّة ما يلي:

    

1- مجاوزة الغرض إلى ما هو أبعد منه:

فقد يتلبّس الناقد بلباس النُّصح والغيرة والإخلاص ظاهراً، فيتخذ من نقده فرصة للطعن في شخصية المنقود والانتقاص منه وتسقيطه من خلال موقفٍ ما أو زلّة أو هفوة أو خطأ معيّن، وقد يذهب بعيداً فينبش ماضيه وتأريخه ويُخرج من قبور الماضي جثثاً متفسّخة، فلا يستر عورة، ولا يراعي مشاعر ولا يوفّر منقصة إلا ووضعها على الطاولة وتحت المجهر وحوّلها إلى حديث المجالس والمنتديات.

    

2- النقد اللاذع يكسر الهمّة:

النقد شأنهُ شأن غيره من سُبل الإصلاح، خيرهُ أوسطه، فلا التقريع والتجريح والهجاء المُقذِع بنافع، ولا تخفيف اللهجة لدرجة انعدام التأثير بمُجدٍ، فكثيراً ما سبّب النقد اللاذع هجوماً مضادّاً، وحطّم المعنويات، ودفع إلى العزّة بالإثم، ونجم عنه مراودات عكسيّة لا تُحمد عقباها.

    

3- أكبر العيب أن تنقد ما فيك مثله:

أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثلُه، فإن تُشهر سيف النقد وتُطلق سهامه في كلّ اتجاه وفيك من الأخطاء ما هو مثل أو أكثر ممّا لدى الشخص أو الجهة المنقودة فذلك ممّا يعدّه البعض عيباً شائناً، بل "عاراً". يقول الشاعر:

 لا تنه عن خُلقٍ وتأتي مثلَهُ **** عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

وهذا المعنى مستوحى من قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) (البقرة/ 44) وقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3). ولذا فقد قال الشاعر المذكور:

يا أيُّها الرجلُ المعلِّمُ غيّره **** هلا لنفسك كان ذا التعليمُ

تصفُ الدواءَ لذي السقَام وذي الضنى **** كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ

ونراكَ تُصلحُ بالرشادِ عقولنا **** أبداً، وأنتَ من الرشادِ عديمُ

ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها **** فإذا انتهت عنه فأنتَ حكيمُ

فالبعض قد يرى – كما يقول السيِّد المسيح (ع) القشّة في عين غيره ولا يرى الخشبة في عينه، ولذلك يقول: "استُر عورة أخيك لما يعلمه فيك"، ومن أقوال وأمثال العرب: "خرقاء عيّابة" فهي تعاني النقص في عقلها وتعيبه في الآخرين.

    

4- النقد العلني بمثابة التشهير أحياناً:

الأولى: إنّك تُطلع غير المطّلعين على عيب أو خطأ المُنتقَد (المنقود).

الثانية: وهي تبعٌ للأولى، أنّك تجرد إحساسُ المنقود بذلك لأنّك فضحتَه، فلا يقبل منك نقداً لأنّك لم تكتف بمعرفةِ عيبه بل عرّفت به أيضاً، وكأنّك شهّرت به، لذلك قلّما كانت النتائج المتوخّاة من النقد في حضرة الآخرين مأمونة ومضمونة، لأنّ الناقد هنا يريد أن يصحِّح خطأً أو ينبِّه عليه ويحذِّر منه صاحبه، وإذا به يرتكب خطأً فينبِّه الآخرين إليه وفي ذلك إساءة لمشاعر المنقود ولا شكّ.

    

 5- تعميم النقد وإطلاقه:

اللغة الشمولية في النقد – خاصة إذا كان الخطأ مشخّصاً ومحصوراً – لغة غير علمية ولا أخلاقية أيضاً، فحين تنتقد شخصاً أو بعض الأشخاص فتقول: كلّهم هذا، لا أفرّق بين أحدٍ منهم، أو جميع الناس يفعلون ذلك، أو لا أحد يخلو من هذا العيب أو المنقصة أو المذمّة.. إلخ، فهذا الأسلوب التعميمي يتعارض مع العقل والمنطق والواقع، فلابدّ من أن تكون هناك استثناءات، وإلا فالتعميم في الحكم كاطلاق النار على الجميع أبرياء ومتهمين وفي كلّ حدب وصوب. قصف عشوائي يطالُ الجناة وغير الجناة معاً.

    

  6- النقد الهامس الخجول (الذي في غير موضعه):

 كثيراً ما تعاني الشعوب المضطهدة المقموعة من هذه الظاهرة، وهي أنّ النقد السرِّي أو الذي يدور في دوائر مغلَقة من بعض المضطهدين الذين يتهامسون في السر عمّا يعانون في العَلن، فلا يصل نقدهم إلى أسماع المعنيين ممّن هم السبب المباشر في بلائهم، بل تراهم يحاذرون أن يصل إليهم مخافة التعرّض لمزيد من الاضطهاد.

إنّها عملية تنفيس ليس إلا، ودوران في حلقات مفرغة، ولذلك لا يؤدِّي النقد هنا غرضه المطلوب.

ومن الشواهد والأمثلة الاجتماعية الحيّة لهذا النقد ما تقومُ به بعض النساء من نقد أزواجهنّ في حضرة نساء أخريات، ظنّاً منهنّ أنّهنّ بذلك يدافعن عن أنفسهنّ أو يكافحن الوضع السلبي الوخيم الذي يعانين منه، وطالما أنّ المتهم (الزوج هنا) غائب، أو بعيد عن النقد، فالحال كما هو وربّما يسوء أكثر مع اطلاعه بطريق أو بآخر أنّ زوجته تسلقهُ بلسانٍ حادّ في غيبته مع الغرباء أو الأقرباء.

    

7- نقد الشخص لا نقد النتاج:

من ظواهر النقد السلبية الشائعة في البلدان والشعوب المتخلِّفة أنّه إذا أبغض شخصٌ شخصاً لسبب أو لآخر، أبغض كلّ ما يتعلّق به أو يصدر عنه من قريب أو بعيد، فلا يكون الشخص فقط هو موضع الانتقاد، بل يطال النقدُ أهله وذويه وأصحابه بل وربّما موتاه، وحتى نتاجاته التي تصدرُ عنه فكراً أو أدباً أو أي شيء آخر، وهذا – بالطبع – خلاف المروءة والموضوعية ومجانبة للانصاف والعقلانية، فخطأ الشخص ليس خطأ كلّ ما يتعلق به أو يمتّ بصلة إليه.

    

8- تلبّس الحسد والغيرة لباس النقد:

قد يظهر الحاسد بمظهر الناقد وهو يستعرض سلبيات الآخر – فرداً أو جهةً – وهو – قبلُ غيره – يعرفُ أنّه ليس في موضع النقد والتقييم، بل في موضع النقض والتهديم.. إنّه لا يستطيع أن يصرِّح جهاراً بغيرته وحسده لأنّ ذلك ممّا يسيء لشخصه، فتراه يصبُّ جامَ غضبه وحقده وحسد في نقد المحسود واستقصاء معايبه ونقائصه، بل واعتبار كلّ إيجابية لديه سلبيّة ومثلبة، وما ذاك إلا رشحة من رشحات تصوّره المريض، فالبعض يبلغ به حقده وحسده ليس بأن لا يرى بياض الأسنان بل لا يرى الأسنان بالمرّة(1)!

إنّنا لا يمكن أن نعتبر ما يصدر عن حسد وغيرة نقداً، يمكن أن يكون أيّ شيء إلا النقد بمفهومه الصحيح.

    

 9- النقد.. من غير تقدير الظروف والملابسات:

ضع نفسكَ مكاني.. تلك قاعدة ذهبية، أو طلب مشروع في التعامل بحيادية مع الحالات المنقودة أو المنتقدة، فطالما أنتَ بعيد عن الظرف المحيط بالمنتقَد، يسهلُ عليك انتقاده، ومَن يدري لو كنتَ مكانَه لارتكبت من الأخطاء أكثر ممّا يرتكب إلا إذا أحرزتَ من نفسِك العصمة، وليس فينا معصوم أو منزّه ومبرّئ من العيوب، ولذلك قال السيد المسيح (ع): "مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"!!

نسوةُ المدينةِ انتقدنَ مراودة زليخا ليوسف (ع)، وحين علمت بمكرهنّ أعقدت لهنّ متكأً وأتت كلّ واحدة منهنّ سكِّيناً، ولما رأينه (أي يوسف) أكبرنه وقطعن أيديهنّ.

ما عملته "زليخا" ليس ردَّ النقد الكلامي بنقد كلاميّ مثله، وإنّما وضعتهنّ في الموقف ذاته لترصد ردّ فعلهنّ، فتبيّن أنّهنّ فعلنَ أكثر ممّا فعلت.. (فذلك الذي لمتنُني فيه).. ما أشبه بعضُ الناسِ – في نقدهم – بنسوة المدينة!!

    

10- نقد التاريخ ونسيان الجغرافيا:

البعض منّا ينتقد المواقف والمواطن والمواقع والأحداث والشخصيات التأريخية نقداً لاذعاً ودقيقاً، إذا ثابَ إلى الواقع وقعَ في حالة انفصام، فقد ينتقد الظلم الذي وقع في حقبة تأريخية معيّنة، لكنّك تراه لا يتحمّس لنقد الظلم الواقع عليه وعلى أمّته بنفس الدرجة، والحال أنّ الظلم ظلمٌ وقعَ قبل ألف سنة أو حصل قبل دقائق.

إنّها ازدواجية المعايير: رفض الظلم تأريخياً والقبول به أو السكوت عنه حالياً. نعم، قد ينتقد البعض التأريخ لينتقد من خلاله – وبطريقة غير مباشرة – الأوضاع الراهنة، وقد يكون لذلك ما يبرِّره ويسوِّغه خاصّةً في المجتمعات البوليسية المغلقة.

    

11- لا مقدّسَ في النقد إلا ما كان مقدّساً:

باب النقد مفتوحٌ على مصراعيه بشرطه وشروطه ومراعاة أصوله وآدابه، وليس ثمّة حصانة لأحد إن هو أساء أو أخطأ أو ارتكب ما يُهين ويُشين، ويخالف العرف والشرع والقانون. فالهالات المقدّسة التي يحاول البعض أن يرسمها حول شخصه لا تصمد أمام النقد إن كان هذا البعض ممّن يضع نفسه في موضع النقد والاتهام والشبهة.

أمّا المقدّسون من الأنبياء والرُّسل والأوصياء الذين عصمهم الله من الذنوب والأخطاء والخطايا، ولم يُمسك الناس عليهم خطأ في قول أو فعل، فهم خارج دائرة النقد.. ببساطة شديدة لأنّهم جاهدوا أنفسهم جهاداً كبيراً فاختارهم الله لرسالته وهو لا يختار إلا المنزّه المبرّئ من كلّ عيب أو نقص، ولذلك فالجرأة عليهم جرأة على الله، ونقدهم إساءة وتجاوز وإهانة لمشاعر أتباعهم ومواليهم.

    

12- النقد من أجل النقد:

النقد كممارسة نظرية لا يستهدف الاصلاح دائماً، فهناك مَن نُسمِّيهم بـ"هُواة الملاحظات" والذين ينقدون ويُبدون النقائص والعيوبَ في مناسبةٍ وغير مناسبة، مع المعنيّ بالنقد ومع مَن لا يعنيهم، ممّا قد يتحوّل لدى البعض إلى حالة مرضيّة وعادة ملازمة، فلا يسمع بأحد أو بشيء إلا وينتقده، والانتقاد – كما يرى البعض – غير النقد، فهو مجرد هواية وتسلية، وفي المحصلة هو جزء من حالة الترهّل الاجتماعي، ومظهر من مظاهر الاستخفاف والسخرية ولا يمت إلى النقد الموضوعي بشيء.

    

13- التعرّض للسلبيات والنقائص فقط:

النقد السليم البناء هو الذي يتعرّض للجانبين معاً: السلبي والإيجابي، هو نقد متوازن، وقد يقدّم الإيجابي لينتهي إلى السلبي، وعند البعض هو مجرد إظهار السلبي، حتى غدا إبراز المعايب والأخطاء سمة ملازمة للنقد، فإذا سمعتَ بالنقد تبادر إلى ذهنك الكشف عن الزلات والهفوات والأخطاء والثغرات، وقد يكون العمل كلُّهُ أو أكثره صالحاً ما عدا هنةً هنا وضعفاً هناك، إلا أنّ التركيز ينصبّ على "الصغار" واعتبارها "كبائر".. وهذا نسفٌ للعمل وإساءةٌ للعاملين.

    

14- النقد بناءً على آراء مسبقة:

القاضي الذي يُطلق الأحكام الجاهزة والمعلّبة هو أفشلُ القضاة على الاطلاق، لأنّه لم يتثبّت ولم يتوافر على الإحاطة بحيثيات القضية المعروفة للمحاكمة، وإنّما سمع الحكم عليها من قبل التحرّي والنطق به.

إنّ أيّ نقد ينطلق من رؤى وتصورات ونوايا قبليّة ومُبيّتة هو ظلم وتعصّب وتجنٍ وترديد أو إطلاق للاتهامات من غير أدلّة ثبوتيّة ولا شواهد ولا شهود، فإذا كان الفَصلُ بين صبيين يتباريان في رسمٍ أو خطٍّ هو حكم وهو قضاء، فما بالك بتقييم البالغين وإنصافهم؟!

    

15- التأهّب للردّ دون تفهّم مضمون وغاية النقد:

ثمّة ظاهرة ملفتة للنظر في أجواء النقد المحيط بنا، فالمنقود يقف مُستنفراً للرد على ناقده سواء كان النقدُ في حقّه حقّاً أو باطلاً، وكأنّ المسألة مسألة شطارة، فالشاطر الذي يُفحم الآخر ويردّه بأشدّ الردّ وأعنفه.

قليلون الذين يذعنون للحقّ والحقيقة، ولذلك فالقليلون أيضاً الذين يستفيدون من النقد.

.......................................

الهوامش:

(1) إشارة إلى قول السيد المسيح (ع) لحوارييه الذين تأفّفوا من نتانة وجيفة كلب متفسخ: انظروا ما أشدّ بياض أسنانه!

ارسال التعليق

Top