• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في العبادة.. سعادة

إسماعيل الخطيب

في العبادة.. سعادة
◄العبودية هي إظهار التذلل. والعبادة أبلغ منها: لأنها غاية التذلل، لذلك لا يستحقها إلا من لهغاية الإفضال، وهو الله سبحانه وتعالى. وذكر العلماء أنّ العبادة على نوعين: عبادة بالتسخير، وهي لكل الموجودات، من إنسان ونبات وحيوان، وعبادة بالإختيار، وهي التي خوطب بها الإنس والجن. وذكر المحققون أنّ العبادة ضرب من الخضوع بالغٌ حد النهاية، ناشئ عن إستشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها، وإعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها، وماهيتها، وقصارى ما يعرفه عنها أنها محيطة به، لكنها فوق إدراكه. كما ذكروا أنّ العبادة هي طاعة الله بإمتثال ما أمر به على لسان الرسل، وأنّها إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. والعبادة – وهي كل الأوامر التي أمر الله تعالى بها – أوّل ما يتجلى فيها اليسر وعدم الحرج، فالدين يسر – كما جاء في الحديث الصحيح – فاليسر ورفع الحرج أصل عظيم من أعظم أصول الدين، والإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر. وقد بنى العلماء – على أساس نفي الحرج والعسر – قواعد وأصولاً عدة، فرعوا عليها كثيراً من الفروع، منها: إذا ضاق الأمر إتسع، والمشقة تجلب التيسير، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، والضرورات تبيح المحظورات.   والتيسير يحصل بوجوه منها: ·       إنّه تعالى لم يجعل شيئاً يشق على الناس ركناً أو شرطاً لطاعة، والأصل فيه قوله (ص): "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ·       أنّه يُسن لهم من الطاعات ما يرغبون فيه بطبيعتهم لتكون الطبيعة داعية إلى ما يدعو إليه العقل، لذلك سن تطييب المساجد والاغتسال والطيب يوم الجمعة، وإستحب التغني بالقرآن وحسن الصوت بالأذان. ·       ومنها ألا يفعل النبي (ص) ما تختلف عليه قلوبهم، فيترك بعض الأمور المستحبة لذلك. كما أننا لا نجد في عقيدة الإسلام أمراً لا يقبله العقل السليم، بل كان العقل السليم مع الوحي كجناحين بهما حلقت الإنسانية، وليس في التكاليف ما لا يطاق. ·       قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 268)، ووسع الإنسان ما لا حرج فيه عليه ولا عسر. فالصلاة – التي هي توجهٌ إلى الله ومناجاة له بكتابه وذكره ودعائه – إن شق على المصلي بعض أفعالها كالقيام إستبدل القعود به.. وهكذا. فاليسر بارز بوضوح في هذه الصلاة التي خاطب الله بها البشر جميعاً: الصحيح والمريض، والمقيم والمسافر، ومن هو في ميدان القتال، لا تسقط عن أحد منهم بحال. والمؤمن بمداومته على الصلاة يألفها ويصبح من العسير عليه أن يتركها على أي حال كان، ومن المعلوم أنّ الألفة تذهب بالترك والإهمال، فلو أنّ الصلاة رفعت عن المريض والمسافر لشق عليهما أن يعودا إليها. هنا تبرز وسطية دين الله ويسره، فالله تعالى شرع للصلاة مجموعة من الرخص للمريض والمسافر والمجاهد، وإن دراسة متأنية لأحكام صلاة الخوف تبين بجلاء إلى مدى وصل أمر رفع الحرج في هذا الدين، وإلى أي مدى وصل اليسر، وانتفى العسر.   -        التيسير والرُخَص: ومبدأ التيسير يتواءم مع طبيعة الإنسان، فالإنسان بطبعه يميل إلى الرفق واليسر، ويبتعد عن الشدة والعسر، كما أنّ هذا المبدأ يتوافق مع تكريم الله تعالى للإنسان. ولقد جاءت الرخص الشرعية لتسهيل أمر العبادة على المسافر والمريض والمقاتل وغيرهم، إذ يستفاد من حديث: "إنّ الدين يسر" الأخذ بالرخصة الشرعية، وأنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كالذي يترك التيمم عند العجز عن إستعمال الماء، فيفضي به إستعماله إلى حصول الضرر. وقد أورد البخاري حديث: "إنّ الدين يسر" بعد ذكر أحاديث الترغيب في القيام والصيام والجهاد، وقبل باب: "الصلاة من الإيمان" تنبيهاً إلى أنّ الأولى للعامل ألا يجهد نفسه حتى يصل الأمر إلى إنقطاعه عن العمل.   -        التوجيهات النبوية: فالمداومة على العمل أمر مطلوب، وفي الحديث: "أحب الدين إلى الله أدومه وإن قل"، وهذه المداومة لا تتأتى إلا بتطبيق الوسطية، وأن يعمل المسلم من الأعمال ما يستطيع المداومة عليه في يسر. وها هي التوجيهات النبوية تؤكد ذلك، فقد أراد عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في ليلة، فنهاه النبي (ص) عن ذلك خشية أن يطول به الزمان فيمل، ولم يسمح له بأن يقرأه في أقل من سبع، بعدما وجهّه أوّلاً إلى قراءته في شهر، فالمنهج النبوي ينأى بنا عن التنطع وهو التعمق والتشدد، فالدين – كما جاء به النبي (ص) كله يسر وتسهيل. وهذا المبدأ ساعد إلى حد بعيد على إنتشار الإسلام وإستمراره. ولما كانت العبادة هي طاعة الله وامتثال أمره، فإن مبدأ اليسر وعدم التشدد، يشمل سلوك الإنسان كله، ومن ذلك معاملاته مع الناس، وسيرة النبي (ص) أوضح مثال لتطبيق هذا المبدأ، فقد عامل الناس – خاصة المخالفين – بالسماحة واليسر والعفو، تنفيذاً لأمر الله (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199)، ولم يعرف عنه – أبداً – أنّه إنتقم لنفسه، وهكذا كان التيسير شعاراً له في كل أعماله ومعاملاته. على أنّه ينبغي التنبيه إلى أن هوى البعض قد يدفعه إلى التلاعب بمبدأ التيسير حتى يصل الأمر إلى التهاون بالواجبات أو إرتكاب المحظورات.►

ارسال التعليق

Top