• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قراءة في النفس الإنسانية

أسرة البلاغ

قراءة في النفس الإنسانية

◄في متاهات هذا الكون الرّحيب، وضمن المجموعة الشمسية يدور كوكب الأرض الصغير، لا يحتل من حجم عالمه أكثر مما تحتله حَبّة رمل في صحراء شاسعة.

وعلى ظهر هذا الكوكب يعيش الإنسان ليملأ الحياة بكلّ معانيها، وبكلّ ما أوتي من إمكان العقل والإرادة والغريزة والقدرة على الفعل. والإنسان جزء من هذا الوجود، أراد الله له أن يعيش على هذه الأرض ويملأها بالخير والإصلاح والعمران، مندفعاً بدافع الخير والسلام. غير أنّ هذا الإنسان ومنذ نشأته على هذه الأرض كان يحمل بين جنبيه الاستعداد والإمكان لفعل الخير والشر معاً، فكان الصراع يجري سجالاً بين هاتين القوّتين كما يجري على سطح الأرض بين أبناء البشر، وكما يعبّر الإنسان عن نوازع الخير فتتجسّد في سلوكه وعلاقاته مع ربّه ومجتمعه، تظهر حالات مرضيّة وأخلاقية مريضة، تجسّد كذلك نوازع الشرّ التي ولدت ونمت بسب الاستعمال السيّئ للإمكان الذّي تحمله الذات فتسير في الاتجاه المنحرف، وقد كان مقدّراً لها أن تستثمر في مجال الخير والاستقامة، غير أنّها سلكت الطريق الخاطئ، كما اتّجه ساق الشجرة اللّين بفعل ظروف الطبيعة العاتية، اتجاهاً منحرفاً، فاعوجّ والتوى خلافاً لما قدّر له في أصل التكوين، ساقاً مستقيم البنية والاتجاه. وشاء الله بلطفه ورحمته أن يفيض على عالم الإنسان أنوار الهدى والاستقامة، فبعث الرسل والأنبياء لتطهير الذات البشرية وتنقية الضمائر مما حملت من رواسب مرضيّة ونزعات نفسية شرّيرة، ولتغيير محتوى الذات وإعادة بنائها وتنظيمها، وكان هذا الجزء التغييري والتربوي هو الجزء المهم من رسالة الأنبياء ودعواتهم، لتصبح الذّات مهيأّة لاستقبال الخير والإصلاح، والالتزام بالهدى، ولتقبل الحياة في ظلّ الرسالة الإلهية، رسالة العدل والانضباط السّلوكي. ومن خلال خطاب القرآن للإنسان وحواره معه ووصفه لأعماق الذات البشرية وما انطوت عليه من تراكمات وسحب ظلامية توفّرت أمام الإنسان معرفة دقيقة، وصورة واضحة للجانب المظلم من الشخصية، والذي يحاول امتصاص أشعّة النور، ويحول دون تفتّح قيم الخير وانطلاق الذات نحو الاستقامة وتكامل الإنسان. ولقد شخّص القرآن أمراضاً نفسية وحالات مرضيّة وعُقداً مستحكمة في سلوك الأفراد، نستعرضها لنقرأ هذا الجانب المظلم من الشخصية الإنسانية بمستواه الفعلي المستحكم بسلوك الإنسان العدواني، أو بمستواه الامكاني والاستعداد للعدوانية والانحراف، فقد سجّل القرآن الحالات النفسية المرضيّة الآتية, وشهد بأنّ الإنسان: جهول / كفور/ يؤوس / فرح / مختال / عجول / ظلوم / قتور/ هلوع / جزوع / مجادل / لاه / مغرور / كنود / وسواسي / متمنيّ / متقلّب في المواقف / خصيم / طاغية / يحبّ الفجور/ ينسى الفضل / محبّ للمال / جشع شهواني. وباستقراء الآيات التي تحدّثت عن الإنسان، وشخّصت الجوانب المرضيّة في شخصيته، نلاحظ أن القرآن قد تحدّث عن هذه الحالات بصيغة المبالغة، مما يؤكد عمق وسعة وخطورة هذه الحالات في النفس البشرية المريضة، فنراه يصف الإنسان بأنّه عجول، يؤوس، جهول، ظلوم، هلوع، قتور ...الخ. وإذن فلنصغِ إلى بيان الوحي ونسري معه إلى أعماق الذّات البشرية، ونرصد الجانب المظلم فيها، لنضع أيدينا على الداء، وسبب معاناة البشرية، ومآسيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، فانّ مكمن الداء ومنطلق البلاء يأتي من تلك الأعماق والنزعات المرضيّة، وانّ أي إصلاح للحياة البشرية يجب أن يبدأ معركة التغيير من داخل الذّات، ويحقق النصر على تلك النزعات. ولقد ثبّت القرآن الكريم منهجاً وقاعدة للتغيير الاجتماعي تنطلق من تغيير تلك النزعات والتغلب عليها، قال تعالى: (إنّ اللهَ لا يُغيِّرُ مَا بِقوْمٍ حتّى يُغيِّروا مَا بِأنفُسِهِم) (الرعد/ 11).                                                                 وإذن فلنستمع إلى القرآن وهو يتحدّث عن هذا الإنسان بجانبه المظلم الذي يحتاج إلى الإضاءة والتغيير، قال تعالى: (ولوْ يُعجّلُ اللهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعجَالهُمْ بِالخيْرِ لقُضِيَ إليْهِمْ أجَلهُمْ فنَذَرُ الذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا في طُغيانِهمْ يَعْمَهونَ* وَإذا مَسّ الإنسان الضّرُّ دَعانا لِجنبِهِ أوْ قاعِداً أوْ قائِماً فلمَّا كَشَفنا عَنهُ ضُرَّه مَرّ كأنْ لمْ يَدعُنا إلى ضُرّ مَسَّهُ كذلكَ زُيَّنَ لِلمُسرِفينَ ما كانوا يَعمَلون) (يونس/11-12). (رَبّكُمُ الذي يُزْجي لكُمُ الفُلْكَ في البَحْرِ لِتبْتغوا مِنْ فَضلِهِ انّه كَانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَإذا مَسّكُمُ الضّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعونَ إلا إيّاهُ فلمّا نجَّاكُمْ إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ وكانَ الإنسَانُ كفوراً* أفأمِنتُمْ أنَ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَليْكُمْ حَاصِباً ثمَّ لا تجِدوا لَكُمْ وَكيلاً* أمْ أمِنتمْ أنْ يُعيدَكُم فيهِ تارَةً أخرَى فيُرْسِلَ عَليْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فيُغرِقكُمْ بِمَا كَفرْتُمْ ثمّ لا تَجِدُوا لكُمْ عَلينا بِهِ تَبيعا) (الإسراء/ 66-69).                              (وَإذا أنْعَمْنا عَلى الإنسَانِ أعْرَضَ ونأى بِجانِبِهِ وإذا مَسَّهُ الشّرُّ كانَ يَئوساً) (الإسراء/ 83).                                           (وَإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيباً إليْهِ ثمَّ إذا خَوّلَهُ نِعمَةً مِنهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعو إليْهِ مِنْ قبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أنْدَاداً لِيُضلَّ عَنْ سَبيلِهِ قلْ تَمَتَعْ بِكُفرِكَ قليلاً انكَ مِن أصْحَابِ النّار) (الزمر/ 80).                                                    (فإذا مَسّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعانَا ثمَّ إذا خوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إنَمَا أوتيتُهُ على عِلمٍ بَلْ هِي فِتنةٌ وَلكنَّ أكثَرَهُمْ لا يَعْلمونَ* قدْ قالها الذينَ مِنْ قبْلهم فما أغنى عنهُمُ مَا كانوا يَكْسِبون * فأصَابَهُم سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا والذينَ ظلمُوا مِنْ هَؤلاءِ سَيُصيبُهُم سَيئاتِ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمعجزين) (الزمر/ 49-51).                                                                              (لا يَسْأمُ الإنسَانُ مِن دُعاءِ الخيْرِ وَانْ مَسّهُ الشرُّ فيَؤوسٌ قنوطٌ * وَلئِنْ أذقناهُ رَحْمَةً مِنا مِنْ بَعْدِ ضرّاءَ مَسّتهُ ليَقولنَّ هَذا لِي وَمَا أظنُّ السّاعةَ قائِمةً وَلئِن رَجَعْتُ إلى رَبّي إنّ لِي عِندَهُ للحُسنى فلننبّئنّ الذينَ كفرُوا بِمَا عَمِلوا وَلنُذِيقنّهُمْ مِنْ عَذابٍ غليظٍ * وَإذا أنعَمْنا عَلى الإنسَانِ أعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإذا مَسّهُ الشرُّ فذو دُعاءٍ عَريض) (فصلت/ 49-51).                                                  (اسْتَجيبُوا لِرَبِّكُمْ مِن قبْلِ أنْ يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لهُ مِنَ اللهِ مَا لكُمْ مِنَ مَلجَأٍ يَومَئذٍ وما لكُمْ مِن نكِير* فانْ أعْرَضوا فمَا أرْسَلناكَ عَليهِمْ حَفيظاً إنْ عَليْكَ إلا البَلاغُ وَإنّا أذا أذقنَا الإنسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَانْ تصِبْهُمْ سَيِّئةٌ بِمَا قدَّمَتْ أيْدِيهِمْ فانَّ الإنسانَ كفور) (الشورى/ 47-48).  في هذه المجموعة من الآيات يتناول القرآن بالدراسة والتحليل، حالة خطيرة من الحالات المرضيّة التي تصاب بها الشخصية الإنسانية، فيقدم قراءة علمية للتركيب المعقّد، والعمق الغامض لكثير من النزعات والأوضاع النفسية التي تتحكم بسلوك الإنسان المريض، وفيها يعقد القرآن مقارنة بين الإنسان بنزعاته الشريرة تلك، وبين التعامل الربّاني الذي يتعامل به الرحمن مع هذا الإنسان، فيكشف عن الخلل الأخلاقي في تكوين ذلك الإنسان وتنكّره للتعامل الخير الذي يعامل به الله سبحانه العباد، نرى ذلك واضحاً في العبارات الآتية: (وَلوْ يُعَجّلُ اللهُ للنّاسِ الشرَّ اسْتعْجَالهُمْ بِالخيْرِ لقُضيَ إليهم أجَلهُمْ). (إذا مسّ الإنسان الضرُّ دعانا لِجنبهِ أو قاعِداً أو قائِماً فلمّا كشفنا عَنهُ ضُرّهُ مَرّ كأن لمْ يَدعُنا إلى ضُرّ مَسّه). (وإذا مسّكم الضرّ في البحرِ ضلّ مَنْ تدعونَ إلاّ إيّاه). (فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعْرضتُم). (انّهُ كانَ بِكُم رحيماً). (وكانَ الإنسان كَفورا). (وإذا أنْعمنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانِبِهِ). (وإذا مسّ الإنسان ضرّ دَعا ربّهُ مُنيباً إليه). (إذا خوّلناهُ نعمةً منّا قال إنما أوتيتُهُ على علم). (ولئنْ أذقناهُ رحْمةَ منّا منْ بعدِ ضرّاء مسّتهُ ليَقولنّ هذا لي وما أظنُّ السّاعةَ قائمة). (وإذا أنْعمنا على الإنسان أعْرضَ ونَأى بِجانِبِهِ). (وإذا مسّهُ الشرُّ فَذو دُعاءٍ عريض). (وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رَحمةً فَرِحَ بها وانْ تُصبهُمْ سَيّئةٌ بِما قَدّمت أيديهمْ فانّ الإنسان كفور). (إن الإنسان لِربّهِ لَكنود). (إذا ما ابتلاهُ ربُّهُ فأكرَمَهُ ونَعّمَهُ فيقولُ ربّي أكرَمني). (وأمّا إذا ما ابْتلاهُ فَقَدَرَ عليهِ رِزقَهُ فَيقولُ ربّي أهانني). وهكذا تنتظم خطوط الصورة الغامضة لشخصية الإنسان المريضة، فتبرز هويّة تلك الذات بهيأتها الحقيقية. ومن خلال تلك الشخصيات يبرز الإنسان متنكّراً للفضل والنعم، يقابل الإحسان بالإساءة، إذا مسّه الشرّ واشتدت عليه حلقات المضيق، وطوّقته المحنة، برزت عناصر الضعف والخور في شخصيته، ولجأ إلى ربّه يدعوه ويستغيث به، فإذا ذهب الخوف وزالت حالات الخطر مرّ كأن لم يدع ربّه، ولم يمرّ بمحنة، لذا يقابل القرآن بين مواقف الإنسان المعبّرة عن تلك الحالات المرضيّة، وبين الإحساس الإلهي، فيصوّر استعجال الإنسان بطلب الخير من ربّه، فيفيض الربّ النعم والإحسان لهذا الإنسان، أما إذا استحقّ الإنسان الشرّ فانّ الله لا يعجل به، فيبرز الفضل الإلهي على هذا الإنسان في حالة استحقاقه للخير والشرّ معاً، ولطفه به وإحسانه إليه، ولولا ذلك لقضي إليه ما يستحق ولحلّت به الكارثة. ويقابل في حالات متعدّدة بين أخلاقية الإنسان المتنكّرة للاحسان وبين صفات الربّ المتعالية، فيعرض أشدّ حالات الخطر، ليصوّر للإنسان حقيقته، يلتقط ذلك الموقف المفزع الذي لا يملك الإنسان فيه غير اللجوء إلى ربّه عندما يفقد كلّ وسائل النجاة وسبل الخلاص، عندما يحيط به البحر بموجه وظلماته، ويتعالى هدير الموج والفزع الرهيب، فلا يجد برّاً يلجأ إليه، ولا ملجأ يطلب فيه النجاة غير الله سبحانه، فتدركه الرحمة، ويساق إلى برّ النجاة، فيلتقط له القرآن صورة أخرى وهو يمشي مرحاً على متن البرّ الآمن، كأن لم يحط به بالأمس ذلك الخطر.  لذا يصف القرآن الإنسان بأنّه كفور، كثير التنكّر للفضل والنعم تارك للشكر على الإحسان، ولا تنتهي إساءة الإنسان وصلفه إلى ذلك، بل ويدّعي انما حدث له من فرج وتغيير وما بيده من خير وقوّة وإمكانات، كان بتدبيره وتفكيره وجهده، وليس لأحد من فضل عليه في ذلك، ناسياً أن الفضل لله، وليس لقدرته وإمكاناته، لذلك ترى القرآن يصوّر هذا المدّعي بقوله: (ثمّ إذا خَوّلناهُ نِعمةً مِنّا قالَ إنما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ بَلْ هِي فِتْنَة). انه الابتلاء والاختبار لهذا الإنسان الذي أنعم الله عليه بعد محنته وشدّته. ويواصل القرآن حديثه مع الإنسان فيسوق له الأمثلة المتشابهة لتلك المواقف، ممن تنكّروا لأنعم الله، وكفروا فضله وإحسانه، فلم يغن عنهم ما يملكون من قدرة وقوّة ومال وسلطان. وهكذا يبرز الموقف الإنساني بأخلاقيته المريضة مقابل الإحسان الرباني، يبرز الإنسان الكفور الناسي للفضل، المدّعي، المعرض، البعيد عن ربه، مقابل صفات الربّ المتعالية، الربّ الذي يفيض الرحمة والإحسان والنعم، ويدعو الإنسان للقرب، ويقدّم له الإغاثة، ويعجل له بالنجاة في لحظات الشدّة، والعسرة والخطر، كلّ هذا الحوار ليقف الإنسان وقفة تأمّل مع نوازع النفس الشريرة وحالات الخلل الأخلاقي ليعالجها، ويعيد النظر في مواقفه وأحاسيسه وعلاقته بربّه، فيتخلّق بأخلاق الله ويبني علاقته مع ربّه والناس من حوله على أساس القاعدة الأخلاقية التي ثبّتها القرآن له: (وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان). تلك التي ثبّتها الرسول الهادي (ص) بقوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله". ويتناول القرآن حالة مرضية أخرى، من حالات الخلل الأخلاقي والضعف الإنساني، وهي حالة اليأس والقنوط التي تفتك بإرادة الإنسان وحركته ومصيره، اليأس من روح الله, واليأس من النجاح والتغلّب على المحن والصعاب وكشف الكروب والشدائد، فهي في تفكير الإنسان نازلة لا تزول ومحنة لا فرج لها. لذا فإنّ القرآن عندما يتحدّث عن حالات اليأس والقنوط، إنّما يتحدّث عن حالات الضعف والانهيار والتقلّب الانفعالي والتفكير القلق عند الإنسان، الذي تتراوح حركته بين الاندفاع اللامحدود في حالات الفرج والآمال العراض، والتحليق في عالم الوهم والخيال المتفائل، عندما يجد نفسه في بحبوحة من العيش، قد أحاطه الرخاء واليسر، في حين يستولي عليه اليأس والقنوط اذا ما أصابه الشرّ وخسر ما بيده من مال أو قوّة أو نصر سياسي أو عسكري او صحّة... الخ. قال سبحانه وتعالى: (وإذا أنْعَمْنا عَلى الإنسان أعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وإذا مَسَّهُ الشرُّ كانَ يَئوساً) (الإسراء/ 83). (لا يَسْأمُ الإنسان مِنْ دُعاءِ الخيْرِ وَانْ مَسَّهُ الشرُّ فيئوسٌ قنوط) ( فصلت/ 49).                      (وَلئِنْ أذَقْنا الإنسان مِنَّا رَحمَةً ثمَّ نزعْناهَا مِنهُ اِنَّهُ ليَئوسٌ كَفور) (هود/ 9).                                                  (وَاِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ بِمَا قدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذا هُمْ يَقنَطون) (الروم/ 36).                                                       في هذه المجموعة من الآيات التي يصوّر فيها القرآن حالتي اليأس والقنوط[1]، إنما ينطلق في بيانه وتحليله لهاتين الحالتين من حركة الإنسان القلقة بين الربح والخسارة، والنجاح والفشل، والشدّة والرخاء، لذا فهو يقارن بين مواقف الإنسان المرتبكة بين هذين الاتجاهين، فيصور لنا إحساس الإنسان بالاستغناء عن ربّه عندما يفيض عليه الربّ بفيوض الإحسان والنعم. وهو في موقف آخر متواصل الطلب والسعي من أجل الربح والمكاسب، فإذا خسرها كان يئوساً من عودتها إليه, والحصول عليها، لذا صوّره القرآن بقوله: (يئوس، كفور، قنوط) إذا نزع الله منه ما خوّله من رحمة ونعمة. والقرآن يريد أن يعيد للنّفس البشرية اتزانها الطبيعي وتعاملها المستقر الذي يجنّب الإنسان مرارة اليأس والقنوط، ويسعى لإدامة الأمل والرّجاء، لتتحرّك قوى النفس نحو العمل والتغيير، لذا كرّس جانباً من خطابه لمعالجة تلك الحالات المرضيّة، وإنقاذ الإنسان منها. قال عزّ وجل: (إن الإنسان لظلومٌ كفّار) (إبراهيم/ 34).                                               (وَحَمَلهَا الإنسان انّهُ كانَ ظلوماً جَهولا) (الأحزاب/ 72).                                      ويتناول الوحي الإلهي جانباً آخر من جوانب النفس المظلمة، وهو الجانب الأكثر ظلاميّة وعدوانيّة، جانب الظلم، فيصف الإنسان المصاب به بأنه ( ظلوم ) وليس ظالماً وحسب. والظلوم هو: كثير الظلم لنفسه وللنّاس وفي علاقته مع ربّه. والظلم في عرف أهل اللغة والعلم هو وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، أمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وضعه أو مكانه. (والظلم يقال في مجاوزة الحقّ الذي يجري مجرى نقطة الدائرة ويقال فيما يكثر, وفيما يقل من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير وفي الذنب الصغير)[2]. وكم حمل القرآن على الظلم والظالمــين، وأعلن البراءة منهــم واستنفــر قوى الخير للإجهــاز على تلك الجريمــة واستئصال هذه الإصابة المرضية من أعماق الذات ومسرح الحياة البشرية.  وفي موضعين من القرآن نجد الإنسان ليس ظالماً وحسب، بل ظلوماً قد اقترن هذا الوصف بوصفه بأنه جهول كثير الجهل وكفّار كثير النكران للنعم, والأوصاف جميعاً، الظلوم والجهول، والكفّار جاءت بصيغة المبالغة، ذلك لأنّ الإنسان عندما يظلم لا يقف ظلمه عند حد, بل يتجاوز حتى حدود الظلم، فيمارس الظلم فيما بينه وبين ربّه، فيكفر بالله ويشرك به، وينكر فضله وإحسانه. ويمارسه فيما بينه وبين النّاس، يمارسه بالبغي والعدوان على حياتهم وأموالهم، وحقوقهم وكرامتهم وإعراضهم، فيوغل في الظلم ويتجاوز كلّ الحدود. ويمارسه فيما بينه وبين نفسه فيظلمها بما يجلب عليها من الإساءة والعقاب، ويحمّلها من العذاب والمعاناة، وإذن فهو مظلوم يمارس الظلم الكثير في كلّ مجال يمكن أن يمارس الظلم فيه. ولنقرأ النص القرآني وهو يصف الإنسان بأنّه ظلوم، ويقرن وصف الظلوم بالجهول والكفار، ويأتي وصف الإنسان بهذه الأوصاف لتنكّره للفضل والنعم الإلهية ومقابلته الإحسان بالإساءة، لذا يهاجمه القرآن ويواجهه بشدّة وازدراء. (قُتِلَ الإنسان مَا أكفرَه) (عبس/ 17).                           ثم يفتح معه صفحة حوار، فيعدّد النعم والمنن الإلهية، ويكشف موقف الإنسان منها، فيقول: (اللهُ الذي خَلَقَ السّماوات والأرضَ وأنزلَ مِنَ السّماءِ ماءً فأخْرَجَ بهِ منَ الثّمَراتِ رزْقاً لكُمْ وَسَخّرَ لكُمُ الأنْهارَ* وَسَخّرَ لكُمُ الشّمسَ والقمَرَ دائبَين وَسَخّرَ لكُمُ الليلَ والنّهارَ* واتاكُم مِنْ كُلِّ ما سَألتُموهُ وانْ تَعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحْصُوها إن الإنسان لظَلومٌ كفّار) (إبراهيم/ 32-34).                                  (إنا عَرَضنا الأمَانةَ عَلى السّماواتِ والأرْضِ وَالجبالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلنَهَا وَأشْفقنَ مِنهَا وَحَمَلهَا الإنسَانُ انّهُ كانَ ظلوماً جَهولاً* لِيُعَذبَ اللهُ المُنافقينَ وَالمُنافِقاتِ والمُشركينَ وَالمُشركاتِ وَيتوبُ اللهُ على المُؤمنينَ وَالمُؤمناتِ وكانَ اللهُ غفوراً رَحِيماً) (الأحزاب/ 72-73). وفي هذا البيان القرآني يزيح الوحي الستار عن موقف آخر من مواقف الظلم والجهل عند الإنسان، وهو خيانة الأمانة، وعدم الوفاء بالعهد والميثاق، أمانة الرّسالة والتوحيد الكبرى التي تعجز السّماوات والأرض عن حملها لعظم شأنها، وجليل قدرها، فحملها الإنسان ولم يرع لها مكانتها، ولم يؤدّها، فخان ربّه ونفسه، فتعامل معها تعامل الجاهل بقدرها وقيمتها، فظلم نفسه، وظلم الحق والأمانة، فاستحق أن يوصف بأنّه: (ظلوماً جهولاً). قال سبحانه وتعالى: (ولقدْ صَرّفنا في هذا القُرآنِ لِلناسِ مِنْ كُلِّ مَثلٍ وكانَ الإنسان أكْثرَ شئٍ جدَلاً* وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤمِنوا إذ جَاءَهُمْ الهُدى وَيَستغفِروا رَبّهُم إلا أنْ تأتِيَهُم سُنّةُ الأوّلينَ أو يَأتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلاً* وما نُرسِلُ المُرْسَلينَ إلا مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَيُجادِلُ الذينَ كَفروا بِالباطِلِ لِيُدْحِضوا بهِ الحقَّ واتّخَذوا آياتي وما أنْذروا هُزُوا) (الكهف/ 54-56).                                                  (خلقَ السّماواتِ والأرض بِالحَقّ تعَالى عمَّا يُشركونَ* خَلقَ الإنسان مِنْ نُطفةٍ فإذا هوَ خَصِيمٌ مُبين) (النحل / 3-4).   ويعرّي القرآن عمقاً آخر من أعماق النفس البشرية، فيكشف ما انطوت عليه الطبيعة الإنسانية المريضة، من حالات مرضيّة، فيتحدّث عن خصومة الإنسان لربّه، الذي خلقه وأنعم عليه، وجدله في آياته.  إنّ هذا الإنسان الخصيم الكثير الجدل، انّما يعبّر عن غروره وجهله وظلمه وكفرانه. ولقد وصفه القرآن في مواضع عديدة بأنّه ظلوم، جهول، كفّار، وهو هنا يضعه في حجمه الطبيعي وقدره التافه، أمام جبّار السّماوات والأرض، ليعرّفه بأنّه في جدله وخصومته لربّه قد تجاوز حدّه وقدره، فكان ظلوماً جهولاً، ثمّ هو ينسى فضل ربّه الذي خلقه من نطفة فسوّاه بشراً سوياً، يفكّر ويمشي وينطق، ويملأ الأرض بألوان العمل والنشاط، ثمّ يتطاول على ربّه، ويستبد به الجهل والغرور فيجادل الذي خلقه من نطفة ويقف بكل ما أتاه الله من طاقة وإمكان ونعم، خصماً ينازع جبّار السّماوات والأرض. قال تعالى: (يا أيُّها الإنسان ما غَرّكَ بِرَبِّكَ الكريم) (الانفطار / 6). (يُنادُونَهُمْ ألمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأمانيّ حتّى جاءَ أمرُ الله ِ وَغرّكُم باللهِ الغرور) (الحديد / 14). (اِقرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلقْ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَق* اقرَأ وَرَبُّكَ الأكرَم* الذي عَلّمَ بِالقلمِ* عَلّمَ الإنسان ما لمْ يَعْلم* كلا إن الإنسان ليَطغَى* أن رَآهُ اسْتغنَى) (العلق / 1-7). وفي هذه القراءة القرآنية للذّات البشريّة يكشف القرآن عن أخطر حالات النفس المرضيّة، وأكثرها عدوانية على الحياة وهما ظاهرتي الغرور والطّغيان. والغرور كما عرّفه أهل اللغة: (يقال غررت فلاناً : أصبت غرّته: ونلت منه ما أريده، والغرّة غفلة في اليقظة، والغرار غفلة مع غفوة، وأصل ذلك من الغر، وهو الأثر الظاهر من الشيء.  فالغرور: كل ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشّيطان، إذ هو أخبث الغارين، وبالدنيا لما قيل. الدنيا: تغرّ وتضرّ وتمرّ )[3]. وإذن فلنقرأ الحالة النفسية التي يصاب بها الإنسان المخدوع، الذي يعيش حالة الغفلة رغم يقظته. الغرور الذي قاد ضحاياه إلى الاستهانة بالحقّ والتجاوز على قيم الحياة، والاستخفاف بالآخرين فيخاطبه القرآن: (يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم). والقرآن يطلق هذا الوصف على أولئك الغافلين، رغم يقظتهم بعد أن غرّهم بالمال والجاه والسلطان، وظنّوا أنّهم ملكوا الدنيا، وانّ ما ملكوا لا يزول ولا يفنى، وليس بوسع غيرهم أن يحتل الموقع الذي وصلوه. وتتوالى صيحات القرآن لتنبيه أولئك الغافلين وتحذيرهم من الغفلة والغفوة، ويستحضر أمامهم صورة من صور العذاب التي يُساقون إليها، وحالة الندم التي تعبّر عن عودة الوعي ومعرفة الحقيقة، ولات ساعة مندم. القرآن يستدعي من عالم الجزاء ذلك الموقف والحوار بين فريق المنافقين المغرورين الذين وقفوا من رسول الله (ص) موقف العداوة والعصيان وفريق المؤمنين الذين عرفوا قيمة الحياة، وتعاملوا مع المال والقوّة والسّلطان ومغريات الحياة بواقعية ووعي.  يستدعي تلك المواقف ليعيد للإنسان وعيه، ويرفع عن عينيه غشاوة الغرور والأماني المخادعة، انّه يصوغ وقائع الحوار بنصّه القائل: (يُنادُونَهُم المْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بَلى وَلكِنّكُمْ فتنتُمْ أنفسكم وَتَرَبّصْتُمْ وارْتبْتمْ وَغَرَّتكُم الأمانِيُّ حَتّى جاءَ أمر اللهِ وغَرَّكُم باللهِ الغَرور) (الحديد / 14). وفي موقف آخر يرسم القرآن لوحة الحياة بمشاهدها الزاهرة المغرية، ترفل بالجمال والمال والحيوية والعطاء، فيَقود ذلك المغرور إلى مزرعة تتناغم فيها الأزهار وتتعانق في ربوعها السّنابل والأكمام، جذلى تسبح في وابل الغيث وبسمات الندى، وهي تتراقص أمام عيني الإنسان الكافر المغرور الذي لا يعي غير تلك المشاهد، ولا يريد أن يصدّق زوالها، ثمّ يصوّر له خاتمة المسير وتحوّل تلك النضارة إلى ذبول وحطام، والجمال والمال الى أثر وذكريات تروى قصّته في زمن مرّ، واحترقت صفحاته، لقد خانه الوعي، وقصر عن تصوّر تلك المشاهد التي تحوّل فيها الأمل إلى ندامة، والسّرور إلى أحزان واللذة إلى ألم ومرارة. إذن ليقرأ الإنسان ما صوّر الوحي وخطّه قلم التنزيل : (اِعْلمُوا أنَّما الحَياةُ الدنيا لَعِبٌ وَلهْوٌ وَزينَةٌ وَتفاخُرٌ بَينكُمْ وَتكاثرٌ في الأمْوالِ وَالأوْلادِ كمَثلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكفّارَ نبَاتُهُ ثمّ يَهيجُ فتَرَاهُ مُصْفرّاً ثمّ يَكونُ حُطاماً وَفي الآخِرةِ عَذابٌ شدِيدٌ وَمغفِرةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ومَا الحياةُ الدّنيا إلا مَتاعُ الغُرور) (الحديد / 20). في هذا التصوّر القرآني توضع الحياة الغرور أمام الإنسان بحقيقتها، فتُشخص له محصورة في مفرداتها فهي في بيان القرآن: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر بين الناس، وجمع الأموال وإكثار من الأولاد، ومتاع وغرور... الخ. والقرآن عندما يصوّر الحياة بهذه الصورة، إنّما يدعو الإنسان لإعادة فهمه وتعامله مع مفردات الحياة، ليُكِّون فهماً سليماً ووعياً عميقاً، لئلا يصرف همّه وتفكيره وجدّه وجهده وحياته في اللعب واللهو، ولئلا يُعجب ويُغر بما حوت هذه المغريات.  ولكي تتجسّد صورة الحياة بهيأتها الماديّة في ذهن المغرور، ضرب القرآن للإنسان مثلاً للإيضاح، واستخدم الاستحضار الحسّي، فشبّهها بمزرعة يصيبها الغيث فتنمو وتزدهر وتمتلئ نضارة وجمالاً، ثم تصغُّر وتذبل وتتحوّل حطاماً، يتلوها الحساب والعقاب والعذاب، فهو ليس مغروراً بما يتحوّل حطاماً وتراباً وحسب، بل ويتحمّل مسؤولية ذلك الحطام ويطوّق به. ولكي يفهم الإنسان معنى الحياة فلا يغتر بها سمّى القرآن مغريات الحياة وما فيها من زينة ومال وبنين وجمال ولهو ولعب وتفاخر، سمّاه متاعاً، والمتاع في لسان العرب :(هو انتفاع ممتد الوقت)[4]. وفي خطاب يمزج بين العتاب والاهانة، ويقارن بين ما يحمل موقف الإنسان المغرور من لؤم وغفلة، وبين ما اتّصف الرحمن به من كرم وفضل، يكشف القرآن صورة الموقف المهين للإنسان المغرور يوم الحساب: (يا أيُّها الإنسان ما غَرّكَ بِرَبّك الكريم). والمغرور لا يقوده الغرور إلى العصيان والعدوان وحسب، بل ويتجاوز حدّ العصيان ويتمادى في الظلم والعدوان، فيطغى ويتحوّل إلى طاغية يعبث بالحياة، فالمال والجاه والقوّة والسّلطان أدوات غرور تقود المغرور إلى الطّغيان والعدوان. والقرآن يشخّص تلك الظاهرة المرضيّة، ويحاول أن يلفت نظر الإنسان المغرور بقوله: (كلا إنّ الإنسان ليَطغى* أنْ رآهُ اسْتغنى). إنّ الإنسان مخدوع يرى نفسه قد استغنى عن ربّه، وما هو بغني إنّما هو مغرور بما خوّله الله من فضل ونعمة. قال تعالى: (إن الإنسان خُلِقَ هَلوعاً* إذا مَسّهُ الشرُّ جَزوعاً* وإذا مسّهُ الخَيرُ مَنوعاً* إلا المُصلينَ* الذينَ هُمْ على صلاتِهِم دائِمونَ* والذينَ في أمْوالِهِمْ حقٌ مَعلومٌ* للسّائِلِ والمَحْروم) (المعارج/ 19 -25). وتلك طبيعة شريرّة أخرى انطوت عليها الذّات البشرية، وهي طبيعة الهلع والجزع والتقلّب في المواقف، فالقرآن في هذه المنظومة التصويرية يعرض الإنسان الشَّرِه الشحيح الحريص على المال وما حوى، الجزوع الضعيف الإرادة الذي ينهار أمام الشدائد وحالات الفقر والضعف، وهو الشحيح البخيل، المنّاع للخير إذا ما توفّر الخير بين يديه. إنّها سلوكية مريضة، وطبيعة ملتوية، لا تحسن التعامل مع الشرّ أو الخير، فاثارات الشرّ والخير تقود إرادته باتجاهات سلبية منحرفة، وهو جزوع لا يقوى على مواجهة المحن واستيعاب الشدائد. قال عز وجل: (خُلِقَ الإنسان مِن عَجَلٍ سأوريكُمْ آياتي فَلا تَستعْجِلون) (الأنبياء / 37). (وَيَدْعُ الإنسانُ بِالشرّ دُعاءَهُ بِالخَيرِ وكانَ الإنسان عًجولا) (الإسراء/ 11). ذلك وصف الإنسان على لسان الوحي وتلك صورة حركته وتعامله مع ما يريد. إنّ النص القرآني يستبطن العمق البشري، فيحلل واقع التحريك في نفسه نحو الأشياء بمبادئها ونتائجها فالإنسان في تعريف القرآن عجول، بل خلق من عجل، وهذا التعبير في عرف الأدب العربي هو من أشدّ صيغ المبالغة والانطواء على الصفة المتأصّلة جزءاً من كيان الموصوف، والعجلة كما يعرفها اللغويون: (طلب الشيء وتحرّيه قبل أوانه )[5]. وهي في تحليلها النفسي (من مقتضيات الشّهوة) كما يقول الرّاغب الأصفهاني. وتلك الحالة النفسية الخطيرة الآثار والنتائج، كثيراً ما تقود الإنسان إلى الندامة، وفقدان المكاسب، والتورّط في المشاكل، وإحباط الأعمال والمشاريع. لقد خلق الله سبحانه هذا الوجود وفق نظام وسير تكاملي، ولكلّ شيء فيه حاجة إلى قدر من الزّمن وعناصر التكامل، لتتم ولادته، ويأخذ مكانه الطبيعي ضمن سلسلة الموجودات، غير انّ نزعة الاستعجال المتأصّلة في ذات الإنسان، ورغبته الشهوانية في أن يحقّق إرادته دون أن يراعي ما يحتاجه الشيء والموقف من زمن ومستلزمات، تدفعه إلى طلب الأشياء قبل أوانها، وكم كانت العجلة سبباً للخسران والندامة في سلوك الإنسان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.  فالتعجّل بإطلاق الكلمة قبل أوانها، قد يقود الإنسان إلى خسارة أو تبعات، والقرار المستعجل قد يقوده إلى كارثة أو خسارة فادحة، والتعجّل بالحكم على الأشخاص والأحداث والأفكار والمشاريع قبل توفّر مستلزمات الحكم ومقدماته، كثيراً ما أوقع الإنسان بمشاكل واحباطات ومآزق وتبعات أمام الله سبحانه والناس. فلو تأنّى الإنسان وتبيّن الأمور، وفحص الأشياء والأفكار والمواقف والكلمات التي تلقى إليه، والرّغبات التي تجول عارمة في نفسه، لما قادته العجلة إلى الندامة وخسران الموقف. بل وتقوده العجلة إلى عدم التفريق بين طلب الخير والشرّ، مندفعاً بنزعات الاستعجال دون تقييم نتائج الأشياء التي يندفع إليها، فتكون عاقبتها شرّاً عليه، وقد كان يستعجل تحقيقها، كما كان يستعجل تحقيق ما يجلب الخير إليه ولو تأنّى وتأمّل واستجلى الحقائق، لاستطاع الفرز والتميز بين ما هو خير وما هو شرّ له، لذا يسجّل القرآن عليه تلك السيئة الأخلاقية، والحالة النفسية الذميمة بقوله: (ويَدْعُ الإنسان بِالشرّ دُعاءَهُ بِالخَيْر). نتيجة اندفاعه بدافع العجلة والانفعال.  قال تعالى: (قُلْ لوْ أنْتُمْ تمْلِكونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ ربّي إذا لأمْسَكتُمْ خَشيَةَ الإنفاقِ وَكانَ الإنسَانُ قَتورا) (الإسراء/ 100).  (إنّ الإنسان لِرَبِّهِ لكنُودٌ* وانَّهُ على ذلكَ لشَهيدٌ* وانّهُ لِحُبِّ الخَيرِ لَشديد) (العاديات/ 6-8). (وتأكُلونَ التّراثَ أكلاَ لمّاَ* وتُحِبونَ المالَ حُبّاً جمّاً) (الفجر/ 19-20). (وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء / 128). وتنطوي ذات الإنسان على نزعة الجشع والشح وحبّ المال والحرص عليه، تلك النزعة التي قادت إلى السّيطرة على مصادر الثروة والظلم الاقتصادي والسياسي وسفك الدماء واستعباد المستضعفين وتحويلهم إلى أدوات للإنتاج وطاقات مسخّرة للاستغلال، ويهاجم القرآن تلك النزعة الشريرة ويجابه الإنسان بتشخيص هذا الاتجاه السلوكي المريض فيصفه: (قتور، شحيح، ممسك، لا ينفق من ماله، شديد الحبّ للمال). هذا الإنسان الذي حوّل نزعته النفسيّة هذه إلى سوق البشرية إلى الجوع والحروب والدمار، بعد أن حوّل تلك النزعات الشريرة إلى نظريات وقوانين تتحكم بنشاط الإنسان الاقتصادي وحياته السياسية والاجتماعية، لذلك ينصَبُّ الذم والتقريع من هذه الآيات على سمع الإنسان ووعيه، لعلّه يستفيق من سكر المال وعبوديته، فيدع الكنز والاحتكار وينفق ممّا آتاه الله. قال سبحانه تعالى: (بَلْ يُريدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أمامه) (القيامة/ 5). ويتحدث القرآن في هذا المقطع من بيانه عن نوازع أخرى تنطوي عليها الذّات البشرية المعقّدة، وهي الرّغبة في ارتكاب الجرائم والمعاصي والتجاهر بها دونما حياء أو وازع أخلاقي. إنّ الإنسان يتنكّر للحقّ ويستهزئ بالرسل وبالحساب والعقاب يوم الجزاء، ليعطي نفسه العذر، ويقنعها بصحّة موقفه الخاطئ عند ارتكابه الجرائم والمعاصي، لذا يفضح القرآن هذه النزعة ويكشف كفره بالله والرسل والرسالات، ويوضّح إنّما يفعل الإنسان كلّ ذلك ليتحلّل من الالتزام والمسؤولية: (أيَحْسَبُ الإنسَانُ أنْ لنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ* بَلْ يُريدُ الإنسانُ لِيَفجُرَ أمَامَه* يَسْألُ أيَّانَ يَومُ القِيامَة) (القيامة/ 3-6). يريد الإنسان ليفجر أمامه، انّه يريد الحياة ليتعاطى الفجور[6] فيها، وهو يعلم أنّه خاطئ مسيء ولكنه يخادع نفسه، انّه يعرف حقيقة ما يمارسه من عمل، وهو مسؤول عن جرائمه، ومحاسب عليها، ولا تعفيه من المسؤولية هذه المغالطة السلوكية التبريرية فالقرآن يؤكّد: (بَلِ الإنسان عَلى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ* وَلوْ ألقى مَعاذيرَه) (القيامة / 14-15). قال عزّ وجلّ: (زُيّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشّهَواتِ مِنَ النّساءِ والبَنينَ والقَناطيرِ المُقنْطرَةِ منَ الذّهبِ والفِضّةِ والخَيْلِ المُسوَّمةِ والأنعام والحَرْثِ ذلكَ مَتاعُ الحياةِ الدُّنيا واللهُ عِنْدَهُ حُسنُ المَآب) (آل عمران/ 14) (أصل الشّهوة نزوع النفس إلى ما تريده، وذلك في الدنيا ضربان: صادقة وكاذبة، فالصادقة ما يختلّ البدن من دونه، كشهوة الطّعام عند الجوع، والكاذبة ما لا يختلّ من دونه، وقد يسمّى المشتهى شهوة، وقد يقال للقوّة التي تشتهي الشيء شهوة)[7]. ويتحدّث القرآن في هذه المنظومة التشخيصية عن علاقة الإنسان بالطبيعة والمال والجنس والأبناء، ونزوعه النفسي تجاه تلك الأشياء.  فيؤكّد أنّ الإنسان يحمل في أعماق نفسه غرائز شتّى، ونزوعاً عارماً نحو الجنس والأبناء والمال، فيشخّص ثلاث غرائز أساسية شهوانية لنزوع النفس إلى الارتباط بتلك المثيرات، وقيادة الإنسان في كثير من الأحيان إلى التهالك عليها، بعيداً عن توجيه العقل والأخلاق والقانون.  تؤكّد الدراسات النفسية الحديثة أهميّة وأثر هذه الغرائز في السلوك البشري، التي سمّيت في مصطلح علم النفس بغريزة الجنس والأمومة والتملّك، ممّا دفع بعض الباحثين من علماء النفس والاقتصاد إلى تأسيس نظريات تفسّر السّلوك والتاريخ البشري بأسره، بعامل الجنس، كما فعل العالم النفساني المعروف (فرويد) الذي فسّر السلوك البشري بأسره تفسيراً جنسياً، واعتبر غريزة الجنس هي القوة المحركة لسلوك الإنسان في مجالاته المختلفة. في حين فسّر كارل ماركس التاريخ والسلوك البشري بأسره تفسيراً اقتصادياً، فاعتبر العامل الاقتصادي هو الدافع والسبب في ممارسات الإنسان السّلوكية جميعها، بما فيها ممارسات الجنس والسّياسة والعلاقات الاجتماعية والأخلاقية والدينيّة. والقرآن هنا يوضّح فهم الإسلام وتفسير التاريخ والسّلوك البشري، الخيّر منه والشرّير،ويؤكّد أنّ السّلوك البشري يتأثّر بدوافع وغرائز عديدة أبرزها النزوع إلى الجنس والمال والأبناء. والقرآن في حديثه هذا لا يستنكر على الإنسان علاقته بالمال والجنس والأبناء بشكلها المشروع المنظّم، وانّما يستنكر النزوع غير المنظّم، والسّقوط نحو البهيمية والجشع والعدوانية، والإعراض عن قيم الأخلاق والقانون والانسياق الغريزي نحو الجنس انسياقا اباحيّاً، والتكالب على المال الذي يقود إلى الصّراع وسفك الدماء والحرمان وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.  إنّ القرآن يريد في خطابه هذا أن يوقظ الحسّ التنظيمي في وعي الإنسان ليوجّه النزوع الإنساني نحو الجنس والمال والأبناء، توجيهاً تحكمه القيم والقوانين التي تحفظ مصالح الإنسان، وتحميه من الانسياق الأعمى نحو الملذّات والشهوات وهوى النفس الذي يحول بينه وبين الله، أو يهبط به عن مستوى القيم والتفكير في فعل الخير إلى مستوى اللذة الحسيّة والالتصاق بالحياة البهيمية.  وفي ختام هذه القراءة النفسيّة لأعماق الذّات البشرية التي قدمتها آيات عديدة من كتاب الله عزّ وجلّ، يستطيع الإنسان أن يقف أمام نوازعه النفسيّة التي تنزع به نحو التّداعي والشّرور والبعد عن الحقّ والاستقامة، فيحاكمها كلّما دعته إلى مطالبها أو طغت بتأثيرها لتقوده في طريق التعبير عن حركتها واتجاهها غير السّوي في هذه الحياة.►
[1] اليأس: هو انقطاع الأمل والرجاء بالشيء المراد للإنسان، والقنوط: هو اليأس من الخير. [2] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم. [3] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم. [4] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم. [5] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم. [6] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم. والفجور هو شقّ ستر الديانة. [7] الرّاغب الأصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم.

ارسال التعليق

Top