• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لا ازدهار من غير استقرار

د. عبدالكريم بكار

لا ازدهار من غير استقرار

◄إنّ الناس مفطورون على حبّ الخير، ومفطورون على حبّ التقدم والارتقاء وتحسين ظروفهم المعيشية والحصول على أكثر مما في أيديهم، لكن ذلك لا يأتي في الدرجة الأولى، وإنّما الذي يأتي فيها سلامة النفوس والمحافظة على المكتسبات الناجزة، وهذا طبيعي لأنّ العاقل يحاول زيادة رأسماله عن طريق استثماره مع أدنى قدر من المخاطرة به، فإذا زادت درجة المخاطرة فإنّ الناس لا يفكرون في الزيادة حينئذٍ، وإنّما يهجسون في كيفية الحفاظ على رأس المال والنجاة من الخسارة. فما الذي نعنيه بالازدهار؟ وما متطلباته من الاستقرار؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه عبر المفردات الآتية:

1- نعني بالازدهار حدوث نوع من التقدم المتتابع على صعيد القوى البشرية وعلى الصعد السياسية والاجتماعية والصناعية والعمرانية والتنظيمية، إنّه الارتقاء العام والشامل للناس والنظم والبيئات والعلاقات والإمكانات والمعطيات، وهذا كله محبَّب للنفوس وهي مجبولة على السعي إليه، لكن ذلك يحتاج إلى بيئة تساعد عليه، وتوفر شروط حصوله. في الحالات والأوضاع الصعبة يمكن أن يحدث نوع من الازدهار لكن ذلك سيكون شاقاً جدّاً، ولأنّه شاق، فإنّه سيكون محدوداً، لأنّ المستعدين للعمل في الظروف الصعبة جدّاً دائماً قليلون.

2- إذا كان ارتباط الازدهار بالاستقرار سنة من سنن الله تعالى في الخلق، فإن علينا أن نشكل وعياً اجتماعياً حول مواصفات الاستقرار المطلوب وشروطه حتى يسهم فيه الجميع، كلٌّ على قدر طاقته، وحتى يحافظ عليه الجميع ويحمونه، ومن المهم في هذا الإطار أن أشير إلى أن كلّ الأُمم تعول في تحسين استقرارها على القيم والمبادئ التي تؤمن بها، كما تعوِّل على الجهود التربوية التي يبذلها الناس في سبيل جعل سلوك الأجيال الجديدة مرتبطاً بعقائدها وتراثها ورؤيتها للحياة. ونحن المسلمين نعتقد أن كلّ نوع من أنواع الطاعة موصول بنوع من أنواع النفع والخير، كما أن كلّ شكل من أشكال المعصية موصول بشكل من أشكال السوء والشر والضرر، هذه هي عقيدتنا وعقيدة أمم الأنبياء قبلنا، وهذا هو نوع (ع) ينصح قومه قائلاً: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح/ 10-12). ويقول سبحانه في ربط الرزق بالتقوى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/ 2-3)، وقال في الربط بين الأمن والعمل الصالح: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 82). ووعد أهل الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة الهانئة، فقال: (مَن عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). وعلى هذا فإن صالحي هذه الأُمّة هم أكبر المساهمين في صنع ازدهارها، كما أنّ الفسقة والعصاة والمجرمين هم الخصم الأوّل لذلك الازدهار.

3- الازدهار لا يكون في أي بلد على ما ينبغي إلا إذا توفر الأمن بمعناه الشامل.. أمن الناس على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم وكرامتهم ومستقبلهم، وذلك لأنّ الإنسان – كما هو شأن الكثير من الكائنات الحية – ينكمش على نفسه وينزوي حين يخاف، وحين يُهاجَم، وإذا أمن تحرك وبادر، وخاطر، واندفع في فجاج الأرض يعمل، ويكسب رزقه وينتج... إنّ الازدهار الاجتماعي عمل تراكمي طويل الأمد، وهو يحتاج دائماً إلى رؤى مستقبلية، وإنّ الخوف يجعل الإنسان مشغولا بتأمين سلامته الحاضرة ودفع الأذى عن نفسه. الأمن يحتاج إلى نزاهة القضاء وإلى استقامة النظام الإداري، فالناس يتمادون في الطغيان حين يأمنون العقوبة ودفع ثمن الخطأ ويشعرون بالأمن حين يعتقدون أن هناك ملاذاً يلوذون به عند انتهاك حقوقهم، وهذا شيء في غاية الأهمية، والناس بالإضافة إلى الأمن الحقوقي في حاجة إلى الأمن الوظيفي والمعيشي والاقتصادي، وهذا يحتاج إلى خطط تنموية فعالة وجيدة حتى يواكب الزيادة السكانية الكبيرة الموجودة لدى معظم الدول الإسلامية. وإذا لم يتوفر ذلك فإن كثيراً من الناس سوف يندفعون إلى أخذ الرشوة والسرقة من المال العام، وتصبح استثماراتهم ومشروعاتهم على مبدأ (اضرب واهرب) حيث لا يتوفر للمشروعات والاستثمارات البعيدة المدى ما تتطلبه من شعور بالأمن الاقتصادي، وهذا الشعور مع الأسف مفقود في كثير من دول العالم الإسلامي.

4- الاستقرار الذي يحتاجه الازدهار كثيراً ما يكون مرتبطاً بالنظام والتنظيم؛ وقد فطر الله – سبحانه – الإنسان على حب التوقع والاستشراف وهذا فارق مهم بينه وبين الحيوان – والفوضى تجعل الناس يتعاملون مع المستقبل كما يتعاملون مع المجانين، فهم يخشون من الاقتراب من المجنون ومن التعامل معه لأنهم لا يستطيعون أن يحدسوا بما يمكن أن يفعله. وهكذا الفوضى حيث إنّ الحياة غير المنظمة، تجعلنا نتحرك ونحن نتوجس خيفة من وقوع مآسٍ ومصائب كثيرة، لم نستطع توقعها وحساب حسابها. إنّ الناس يحتاجون إلى من يثقفهم بأهمية إطاعة القوانين والنظم السارية والتعامل معها باحترام، والعمل على تكييف حياتهم معها، ولا شك فإن هذا شاق على النفوس، لكنه جوهري في مسألة الازدهار، لكن الناس لن يطيعوا القوانين، ويرضخوا لها إلا بشرطين:

أ. أن تتم مشاورتهم واستطلاع آرائهم فيها قبل أن تُسنّ، على ما يجري عليه العمل في العديد من الدول الأوربية، فهذا هو الذي يجعل القوانين أكثر عدلاً أو أقل حيفاً، وهو الذي يجعل الناس يشعرون بأنهم يمتثلون لقوانين قاموا هم باختيارها، ولا يخفى أن كلامنا هنا يتناول القوانين التي تنظم أموراً ليس فيها أحكام شرعية، أما ما كان فيه حكم شرعي، فالمطلوب هو العمل بما شرع الله – تعالى – دون تردد، كما قال سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65).

 ب. أن يتم تطبيق النظم والقوانين على جميع الناس دون أي استثناء، إنّ القانون أشبه بالثوب، وكما أن كلّ خرق في الثوب يُجهض وظيفته في الستر والتجمل، كذلك كلّ خرق للقوانين يذهب بشيء من هيبتها ومصداقيتها، ويقلِّل من فاعليتها وقدرتها على تنظيم الحياة. ولابدّ مع ذلك من تنظيم البيئة الاقتصادية، وذلك بالعمل على مكافحة التضخم وإبقائه تحت السيطرة والعمل على استقرار الأسعار وتوفير ظروف تُمكِّن الناس من كسب لقمة عيشهم دون عنت أو مذلة.

5- قد نكون في حاجة إلى التفريق بين الهدوء والاستقرار، أو قل: التفريق بين الاستقرار السلبي والاستقرار الإيجابي. إنّ الهدوء أو الاستقرار السلبي يعبر عن السكون وانعدام الاضطرابات، وهذا شيء جيِّد إذا قارناه بالأوضاع التي تسودها الفتن والهرج والمرج، لكنه شيء سيِّئ إذا كان أشبه بالجرح الذي التأم على فساد، حيث يتم غزوه من الداخل بالجراثيم والمكروبات، وهذا يحدث حين يكون الاستقرار قائماً على الظلم والقهر والفساد واليأس والبطالة الرذيلة، حيث ينشغل الناس بلقمة العيش الضرورية عن كل شيء نبيل. أمّا الاستقرار الإيجابي فإنّه يقوم على العدل وحفظ الحقوق والنزاهة والتفاؤل والمبادرات الخيِّرة إلى جانب الإبداع في الإنجاز والإنتاج ومواجهة المشكلات، وهذا هو الذي يساعد على النهوض والازدهار.

6- نحن إلى جانب الأمن والاستقرار والنظام في حاجة حتى نزدهر إلى شيوع السلام؛ السلام الداخلي والسلام الاجتماعي. أمّا السلام الداخلي فيتكون لدى الواحد منا من خلال صلته بخالقه – عزّ وجلّ – ومن خلال عيشه وفق مبادئه وقيمه وشعوره أنّه على الطريق القويم.

أمّا السلام الاجتماعي فيتكون بسبب السعي الحثيث إلى تكوين المجتمع المسلم عن طريق الدعوة والعدل والتربية الجيِّدة والشفافية في العلاقات، وإلى جانب معالجة المشكلات المختلفة بالحكمة والأساليب السلميَّة بعيداً عن التعانف والتطاحن والاقتتال، وهذا يحتاج إلى شعور الجميع بالمسؤولية والقيام بأدوارهم الإصلاحية بإخلاص ومثابرة. إنّ الازدهار لم يعد اليوم شيئاً نتفكه به، وإنما هو الثمرة العظيمة، التي علينا أن نقطفها حتى لا نمضي في طريق التدهور والانحطاط، فنحن إذا لم نتقدم فسنتراجع، هذا هو قانون الحياة الجديدة.►

 

   المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا)

ارسال التعليق

Top